مجلة الرسالة/العدد 671/الكتب
→ بناة العلم في الحجاز الحديث: | مجلة الرسالة - العدد 671 الكتب [[مؤلف:|]] |
القصص ← |
بتاريخ: 13 - 05 - 1946 |
ثورة سنة 1919
(للأستاذ عبد الرحمن الرافعي بك)
منذ سبع وعشرين سنة زلزلت أرض مصر بثورة انفجر فيها غضبها مما نزل بها، وجاش فيها تيار وطنيتها بعد أن عب عبابه ثم اندفع ذياداً عن كرمتها؛ وقد كان هذا الحادث العظيم من مفاخر مصر التي تبقى على وجه الدهر صفحة مجيدة يزدهي بها كتاب جهادها.
وقد كان كل مصري يود لو ينهض لتأريخ هذه الثورة عالم ثبت يحصي كل ما ذهب فيها من ضحايا وخسائر، ويسجل ما عانته البلاد في سبيلها من مشقات وشدائد، عادل نزيه يتولى درسها وتحليل أحداثها بروح الحق والإنصاف، فلا يستمليه هوى، ولا يلوي به أرب.
وظلت هذه الأمنية تعتلج في صدور أبناء مصر هذا الزمن الطويل، حتى ظهر في هذه الأيام كتاب قيم في جزأين كبيرين يؤرخ هذه الثورة الشاملة من قلم رجل أجمعت الأمة على صدق وطنيته وسعة إدراكه وعظيم جهده، ذلك هو الأستاذ الكبير عبد الرحمن الرافعي بك الذي توفر منذ عشرين سنة على دراسة الحركة القومية من فجر انبعاثها في العصر الحديث، وأخرج في تأريخها تسعة مجلدات غير هذا الكتاب الذي بين أيدينا اليوم، جعلها سلسلة متصلة الحلقات تؤرخ كل حلقة منها فترة من هذه الحركة أصدق تأريخ وأوفاه، حتى لقد أصبحت هذه المجلدات النفيسة أوثق الأسانيد وأصحها لتاريخ مصر الحديث
قال مؤرخنا الجليل في كتابه الحديث: (إنه عرض وتأريخ لثورة سنة 1919 أعرضها وأؤرخها كما أرخت الثورة العرابية من قبل، فهما ثورتان متعاقبتان في تاريخ مصر الحديث تتشابهان في الأغراض والمقاصد، وإن كانت الثانية تفضل الأولى في النتائج)
ولما كانت هذه الثورة قد شبت عقب الحرب العالمية الأولى، فقد مهد المؤلف بصدر صالح من القول فيما كانت عليه مصر أثناء هذه الحرب من سنة (1914 - 1919) وما أصابها في هذه الفترة من فرض الحماية البريطانية، وإعلان الأحكام العرفية، والرقابة الصحفية، ووقف الجمعية التشريعية، واضطهاد الحركة الوطنية، وتشتيت شمل رجال الحزب الوطني الذين كانوا يقومون وحدهم حينئذ بهذه الحركة، وذلك بالاعتقال والنفي، وعدَّد ما استو عليه السلطات الإنجليزية من مؤن ورجال ودواب وما إلى ذلك مما يطول القول فيه. وفي الفصل الثاني استقصى كل الأسباب التي بعثت على الثورة من سياسية واقتصادية واجتماعية، ورجع بها إلى سنين خلت. وبعد أن فصل القول في ذلك تفصيلاً قال: إن تأليف الوفد المصري قد جاء معجلاً لظهور هذه الثورة، ذلك بأن أعضاءه لما لم يذعنوا للإنذار البريطاني الذي يقضي بالا يجعلوا الحماية موضع مفاوضة، وألا يعرقلوا تأليف وزارة تخلف وزارة رشدي باشا ألقي القبض عليهم واعتقلوا (فكان ذلك بمثابة الشرارة الأولى التي أشعلت نار الثورة).
ثم مضى بعد ذلك يتحدث عن هذه الثورة التي شملت البلاد جميعاً مدنها وقراها، وعمت أهلها أفرادها وجماعاتها، وأسند حديثه بإحصاء دقيق لكل ما حاق بالبلاد من الفظائع التي اتخذها الإنجليز لقمعها، وشرح المحاكمات التي قضت بالقتل على المئين ممن اشتركوا فيها. ثم أنشأ يتكلم عن لجنة ملنر وما قوبلت به من إعراض الأمة ومقاطعتها إياها، ثم اضطرارها إلى مفاوضة الوفد المصري الذي كانت تتجاهله ولا تعترف به، وأفاض في القول عن مراحل هذه المفاوضة واستشارة الأمة في المشروع الذي انتهت إليه، ثم ما جرى بعد ذلك فيها إلى أن انتهى أمرها.
وعقد الفصل الأخير للكلام عما أدت إليه هذه الثورة وهل نجحت؟ وفيم كان نجاحها؟ وهو فصل ممتع يمتد بنا نفس القول لو عرضنا لتلخيص ما اشتمل عليه من تحليل عميق واستنباط سديد. ثم ختم الكتاب بوثائق قيمة منها عهود الإنجليز باحترام استقلال مصر ووعودها بالجلاء، وقد بلغت ستين عهداً ووعداً، ومنها معاهدة الآستانة المؤرخة 29 أكتوبر سنة 1888.
هذا عرض موجز ألممنا فيه بأطراف مما جاء في كتاب (ثورة سنة 1919). ولو كان الأمر لنا لأشبعنا القول في كل فصوله القيمة، ولكن صفحات الرسالة الغراء تحول الآن بيننا وبين ما نريد. ولعلنا - بهذه الكلمة الصغيرة - نكون قد أدينا بعض ما يجب علينا من تنويه وتقدير لمؤرخ العصر الحديث الذي قضى من عمره المبارك ما قضى في خدمة بلاده عملاً وتأليفاً، وكان من أقطاب هذه الثورة، وممن وقع عليهم من المحتلين من قبل شبوبها عنت الجور والإرهاق وظلم السجن والاعتقال. سدد الله خطاه، ووفقه في كل ما يتولاه.
محمود أبو رية