مجلة الرسالة/العدد 671/القصص
→ الكتب | مجلة الرسالة - العدد 671 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 13 - 05 - 1946 |
يوميات جينيفييف
للكاتب الفرنسي مارسيل بريفو
بقلم الدكتور محمد غلاب
1 - الاسوداد:
20 مايو
لماذا أنا مهتاجة ومحزونة؟ لماذا قلبي مفعم باسوداد بشع كما كانت تقول الأم (ملكة الملائكة) في ذلك الوقت السعيد الذي لم أكن مشغولة فيه إلا بشواغل فتيات الدير، والذي لم أكن فيه متزوجة، ولا. . . ماذا كنت سأكتب؟ إن كل سروري اليوم ينحصر في أني أم. كل سروري اليوم هو عزيزي الذي يبلغ من العمر تسعة عشر شهراً، إنه هو (رينيهي) الصغير.
إن الأم (ملكة الملائكة) كانت قد وضعت هذا الاسم أي (الاسوداد) لتنعت به الأشياء المتوجة الثقيلة المظلمة التي تضغط على القلب دون أن يعرف أحد مم جاءت، ولاماهي، ولكنها كانت أيضا قد ابتدعت برنامجاً لمحاربة هذا الاسوداد وهو أن يعتزل الإنسان الناس ويأوي منفرداً إلى غرفته، وفي يده قلم وورقة بيضاء، وأن ينظر بعناية إلى أعماق نفسه، فبفضل إدمان هذا الامتحان يصل الإنسان دائماً إلى اكتشاف ذلك الاسوداد مختبئاً في زاوية من زوايا قلبه. ومعنى أن جميع الأسباب الغامضة التي عنها ينشأ الحزن ستنتهي بأن تتكشف يوما ما، إذ كلما يلمح الإنسان سببا من هذه الأسباب يقيده في تلك الورقة بقدر ما يتيسر له من إيضاح ونظام، فإذا ما تمت كتابة هذه النقط وجب على ذلك المخزون أن يتأمل فيه جميعها في شيء من التفصيل. ولقد كنا نفعل ذلك كلما ألم بنا الحزن، وكنا نجتهد دائماً في أن نجد الدواء لكل اسوداد، وإلا فقد كنا نوطن النفس على الاحتمال، وكانت هذه العملية دائماً تنجح في إعادة الهدوء والتفاؤل إلى النفوس.
واحر قلباه! إني بقدر ما أخطو في الحياة المستقلة التي يدعونها بالحياة الزوجية ألمح أن هذه الحياة عابثة ومليئة بالضعف والبؤس، وليس لهذا من سبب إلا أنني لم أعد أتمسك بتلك الالتزامات الحكيمة التي تلقيتها في الدير، ولو أن مثيلاتي من السيدات (الأرستقراطيات) استطعن أن ينقلن تلك النصائح النفيسة إلى حياتهن الاجتماعية والزوجية لخلقن من أنفسهن نساء قويات.
ولكن الوقت لم يضع لم أراد أن يعمل خيراً كما يقول المثل. فلنحاول تجربة دواء الأم (ملكة الملائكة) ولأطبقه على حالتي الخاصة.
أنا (جينيفييف أوليفيه) تلميذة الدير سابقاً، و (الكونتيس دي بواستيل) اليوم والتي تبلغ من العمر اثنين وعشرين عاماً وقد مضى على زواجها ثلاثة أعوام، وهي متمتعة الآن بحب طفل تعبده، وبزوج خبيث وفاتن تعبده أيضا مع الأسف الشديد.
هاهي ذي الورقة البيضاء أمامي، وها أنذى امسك بقلمي وأجلس إلى مكتبي
إن الطفل الآن نائم، وإن مربيته الإنجليزية بجانبه، وإن (راءول) زوجي في النادي (في الساعة الثالثة بعد الظهر وفي يوم الأحد. . .! وعلى كل حال فلنصدق ذلك مؤقتاً) ولكن الذي لاشك فيه هو أنه لن يعكر علي صفوي أحد قبل مضي ساعتين، فلنبتدئ:
أنواع الاسوداد التي في نفسي الآن:
(أ) إن هذا اليوم هو يوم الأحد، وهو عندي يوم حزين ولاسيما في الساعات التي تفصل بين الغداء والعشاء، وفوق ذلك فإن الطقس حار جداً، وأنا حينما تشتد الحرارة أحس كأني لا أحيا في الوجود.
(ب) إن بشفة طفلي دملاً صغيراً؛ وعلى العموم إن هذا الطفل يقلقني منذ أسبوع لأنني ألاحظ أنه ممتقع قليلا، ودرجة الحرارة عنده تتخطى الحد الطبيعي، ومربيته تقول: إنه لا ينام نوماً هادئاً.
(جـ) إن (وايت فيرن) لم يفلح في صنع ملابس السفر التي كان يخيطها لي بالرغم من محاولاته المتكررة، وبعد عشر تجارب بعثها اليوم إلي قبل أن أستيقظ من نومي، ولاشك أنه فعل ذلك متعمداً لكي لا أجربها فألاحظ أخطاءها الجديدة وأعيدها مع العامل. وإنني في هذه الملابس مرعبة ومضحكة فعندما ألبسها أظهر كأنني أمثل دور سائق العربة في إحدى روايات (البولفار الهزلية). ولا ريب أن هذا الأمر سخيف لأن رحيلي إلى (تالوار) سيؤجل.
(د) وأخيراً؛ إن الاسوداد الحقيقي الذي يملأ نفسي، والذي هو جدير بأن يعد كنتيجة للتفكير الطويل هو أنني غيورة، وغيورة بصورة مزعجة. ولكنها ليست غيرة غبية حمقاء بلا مبرر إلا التلذذ بعذابي وعذاب زوجي. كلا بل إن لدي أسباباً قوية ومبررات قيمة لهذه الغيرة.
فقبل كل شيء لم يعد (راءول) يحبني، ومع ذلك فلو أني مت لسبَّب له موتي حزناً. غير أني أعتقد أن عاطفته نحوي تقف عند هذا الحد، إذ أن من الواضح أني أضايقه، وأنه يتمنى أن يكون حيث لا أكون (أنا أجرح قلبي بيدي عندما أكتب هذه الكلمات، ولكن الطريقة محددة، وهي أن من أراد أن يكتنه الاسوداد الذي في نفسه، فعليه أن يكون صريحاً ومخلصاً إلى حد القسوة). من فظائع الأمور ألا تروق المرأة زوجها، ولكن ليس هذا كل شيء، فراءول يروقه شيء آخر في الخارج
أوه! أنا لا أدري بالضبط من هي تلك التي سلبتنيه، ولا أدري كذلك إلى أي حد أنتزع مني. . . آه لو كنت أدري! غير أن الذي لاشك فيه هو أنه مستلب الآن مني! إن شكوكي تتردد بين آنسة وسيدة شابة! آنسة؟ هل يمكن أن تدعى واحدة من هذا النوع (بآنسة)؟ تلك الكلمة نفسها التي كانت تطلق علينا ونحن في الدير، تطلق علينا نحن الطاهرات البريئات الحبيبات المحفوظات من كل دنس! أما تلك الفتاة فهي الآنسة (لوس دي جيفيرني)، وهي واحدة من هاتيك الشابات الباريسيات اللواتي أفرطن في الحياة الاجتماعية إلى حد الابتذال، واللواتي نقلن إلينا العادات الأمريكية بعد أن جردنها من الكرامة واحترام الذات، لأن الأمريكيات - وإن بدا عليهن المجون والخلاعةـ يعرفن كيف يدافعن عن أنفسهن عند الإحساس بالخطر! إن الآنسة (لوس دي جيفيرني) تخرج للنزهة في المركبة وحدها، وأحياناً يصادفها بعض الناس في معرض رسام مع شاب يشرح لها اللوحات، ومادامت مركبة والدتها الفخمة تنتظرها على باب المعرض، فهذا يكفيها كشهادة حسن سلوكها. وفي المرقص تختار راقصاً على ذوقها، وبعد الرقص تختلي وإياه في زاوية بعيدة عن أعين النظارة ثم تحتفظ به طول السهرة. وفي حفلة أسرة (أفرزاك) أمس الأول كان زوجي هو الذي وقع عليه الاختيار. . . ومع ذلك فقد كان هذا الزوج دهشاً حينما اعترتني النوبة العصبية في المركبة ونحن عائدان إلى المنزل.
وكما أن الآنسة (دي جيفيرني) توجد كسحابة في أفق حياتي كذلك تلوح من خلال هذا الأفق سحابة أخرى، وهي (مدام ديلافو) زوجة الرسام، وهي سمانة صغيرة، شقراء بيضاء مشربة بحمرة كأنها وردة. إنها لجميلة، بل تخطت حد الجمال
لماذا نستقبل في طبقتنا أشخاصاً ليسوا منا في شيء كديلافو وزوجته وأمثالهما الذين كانوا قبل أن نرفعهم إلى صفنا يتناولون طعامهم في حوانيت الجبن والزبدة، ويرقصون في المراقص العامة، ويعملون كصناع في معارض الرسامين. من أين جاء هذا الرجل بزوجته هذه؟ يخيل إلي أنه طالما اتخذها نموذجاً لصوره زمناً طويلاً قبل أن يتزوج بها، وأن حياتهما معاً سبقت عهد زواجهما بوقت غير قصير. غير أنهما قد استُقبلا في عالمنا الأرستقراطي، لأن الزوج موهوب وحاضر النكتة، وقد أصبح ثريا، ولأن زوجته جميلة إلى حد أنها تستطيع - بلمسة أو بإيماءة - أن تسحر الرجال فتحولهم إلى حيوانات. إنها أغرت زوجي وليس هذا بغريب، فكل النساء يحاولن إغراءه. أيها الإله! لقد كنت أتمنى أن يكون زوجي أقل فتنة منه الآن، ولو كان كذلك لكان حبي إياه مساوياً لحبي الحاضر، ولكانت محاولة سلبه مني أقل مما أعانيه الآن.
ظلت إذاً مادام لافو نحو خمسة عشر يوما تحاول إغراء زوجي كما تفعل معه النساء الأخريات، وقد كان (راءول) أثناء هذه الأيام يظهر عليه الافتتان والسرور، ولكنهما لم يلبثا أن غيرا خطتهما فلم يعودا يتحدثان معاً كأن القطيعة قد تمت بينهما؛ أما أنا فحين رأيت هذه القطيعة الظاهرية كنت أشبه شيء بالحيوان غباوة وبلادة، وأخذت أحس بالسرور وأقول في نفسي: أية سعادة! إنهما لم يتحابا قط، وإنني كنت مخدوعة في هذه الريبة.
غير أن والدتي التي كانت دائماً بعيدة النظر وكانت هي التي تنبئني قبل كل إنسان بما يفعل راءول معي من شر، وتفهمني متى ينبغي أن أغضب، قالت لي: احترسي، إنهما لم يعودا يتضاحكان أمام الناس كما كانا يفعلان قبل الآن، ومعنى هذا أنهما يستعيضان عن ذلك في مكان آخر فراقبي زوجك.
وعلى أثر هذه النصيحة ألقيت على والدتي هذا السؤال:
- إذا فليس هذا الإغراء متجهاً إلى الآنسة جيفيرني. . .؟
- واحترسي أيضا من جيفيرني.
ونتيجة هذا كله أنني أتألم ألماً مزعجاً!
هذه هي مجموعة الاسوداد التي تحتل نفسي، وإنني لا ألمح غيرها، فلأمر يتعلق الآن بمناقشة هذه النقط وبمحوها إذا كان ذلك مستطاعاً. وسوف لا أقف طويلا عند النقطة الأولى، فيوم الأحد وحرارة الطقس، هاتان ظاهرتان يمكن إسنادهما إلى القدر، والتخلص منهما سهل، فأما الحرارة فإني أستطيع أن أتقيها بالأمر بإغلاق النوافذ المعرضة للشمس، وأما بقية نهار الأحد فإني أستطيع أن أقضيها في الكنيسة بالاستمتاع إلى الأناشيد الدينية، وفي هذا خير شاغل للوقت ومنسٍ للضجر.
أما النقطة الثانية أو الاسوداد الثاني وهو توعك الطفل فإن الدكتور (أرنو) أعلن أنه لا يوجد لديه ما يخيف، ومع ذلك فلما كان وباء الجدري منتشراً في المدينة فقد اعتزمت أن أكتب إلى الدكتور. . . (روبان) الذي لي فيه كبير الثقة لأرجوه أن يجيء غداً لفحصه.
أما الاسوداد الثالث - وهو الملابس التي فسدت - فسأتخلص منها بردها إلى (وايت فيرن) وسأنبئه بأنني لن أحتفظ بها، وإنني مستعدة لقبول الشروع في غيرها، وفي مدة خمسة أيام ستكون أخرى قد أعدت، وبناء على ذلك فلن يتأخر سفري إلى تالوار مطلقاً. وبعد هذا كله لم يبق إلا الاسوداد الأساسي، وهو زوجي أو (راءولي) الخبيث.
أيتها الأم الخيرة (ملكة الملائكة) ألهميني في هذا الموقف أن أكون زوجة متعقلة ومتدينة. أنت تفهمين تماما أنني لا أستطيع أن أقبل بسرور أن أكون مهجورة من أجل امرأة كمدام ديلافو أو فتاة كالآنسة (جيفيرني) ولاسيما أني لا أجد في نفسي ما أستحق عليه التأنيب، إذ أنني أحب (راءول) ولا أفكر إلا فيه، وفوق ذلك فأنا لست دميمة، بل إني أؤكد لك أيتها الأم أن كثيراً من الشبان قد حاولوا إغرائي منذ اندمجت في المجتمع فلم يفلح واحد منهم في ذلك مطلقاً، فهل من العدالة أنه بقدر ما يحس أنني ملكة يمعن في ألا يكترث بي؟. وهل ينبغي إذاً ألا أشعره بحناني نحوه، وأن ألهب غيرته على نحو ما هو مألوف في المهازل التمثيلية؟ كم هذا يقززني! كلا، كلا. أنا لن أقف نفسي - ولو في الظاهر - موقف المرأة الساقطة، لكي أجتذب حب زوجي. غاية ما في الأمر أنا أعتقد أن من الحكمة أن أراقب قلبي وأن أفهم (راءول) حزني، ولكن لا بواسطة الدموع، بل عن طريق السكوت وتجنب مظاهر المودة. ولا ريب أن هذا سيكلفني كثيراً، وسيكون شاقاً على نفسي، ومع ذلك فهو الذي ينبغي عمله. سأعامل زوجي منذ اليوم بفتور وبخضوع فحسب. والآن، ماذا أستطيع أن أعمل ضد عدوتي اللدودتين: الآنسة (دي جيفيرني) و (مدام ديلافو)؟. أنا لا أريد أن أمثل معهما رواية عامة طبعاً، وفوق ذلك، فإن (راءول) - على الرغم من صلته الشائكة بهاتين المخلوقتين - لا يزال زوجاً مهذباً، لا يؤخذ عليه شيء في كل ما يتصل بي. ولو أنني أردت أن أمثل منظراً عاماً من هذه الرواية لما مكنني من فرصة تمثيله. وإذاً، فلم يبق لي إلا أن أحتمل؛ ولكن كلا، فأنا لا أستطيع ذلك الاحتمال لأني لست بطلة إلى الحد الذي أقبل معه أن يخدعني زوجي. ولست أحسب أن الإله يكلفني ذلك، فإن لي الحق في أمانة زوجي، فإذا لم تتحقق لي هذه الأمانة فإنني أفضل أن أحيا وحيدة مع طفلي العزيز الذي قد يعزيني عما أقاسيه.
ها أنذى قد صممت على أن أعرف الحقيقة، فإذا كانت شديدة القسوة فإنني سأرجو من والدتي أن تصحبني وطفلي إلى ممتلكاتنا في الريف لنعيش معاً هناك، ولكن كيف أعرف هذه الحقيقة؟
لقد تسلمت منذ أيام كتاباً وارداً باسمي ففضضته أمام زوجي ولم أكن أعرف ماذا يحتويه فإذا به آت من مكتب البوليس الخاص يعرض علي أن يراقب زوجي إذا أردت ذلك ليرى أله صلة خفية بإحدى السيدات أم لا؟ وبعد أن قرأت هذه الرسالة ناولت زوجي إياها فألقى عليها نظرة مقززة، ثم دعكها وقذف بها إلى الأرض؛ ولقد كان مخطئا في هذا الغضب، لأني لن الجأ أبداً إلى مثل هذه الطريقة؛ ولكني سأرقبه بنفسي كما يراقب القائد الجندي المتهم بأن نفسه تحدثه بالتفريط في واجبه العسكري. نعم إنه ليس لديه ما يخشاه مني من حيث فض رسائله أو تفتيش أدراج مكتبه، ولكن مادام للمرأة أن تتبع زوجها في أي مكان، ومادام ليس للرجل أن يذهب إلى أي موضع دون أن يصطحب زوجته فليحذر هذه النتيجة، إذ قد يذهب يوما من الأيام ملبياً أحد مواعيده، سعيداً بإحدى تلك المسرات الرديئة التي أقرئها في عينيه أوفي صوته، أو في حركاته، فإذا وصل إلى مكان هذا الموعد ألفاني هناك ووقف أمامي وجهاً لوجه.
هاهي ذي نهاية تفكيري، وهي لم تعزني، ولكنها هدأتني قليلاً، وسأغادر اللحظة مكتبي لأنظر هنيهة من نافذة غرفتي المطلة على الطنف، لأنني أريد أن أتنسم هواء المساء الرطيب؛ فلقد فكرت طويلاً والآن قد احتجبت الشمس خلف أشجار الكافور التي تنتصب في حديقة المنزل كأنها سور عظيم. وعندما تختفي الشمس من الحديقة يسود جوها هواء فاتر لذيذ. إن الطقس الآن بديع، وإن هذه الحديقة وذلك المنزل من النوادر التي يحسد عليها في وسط باريس. كم لدي من الأسباب الظاهرية ما يجعلني أتذوق الحياة وأسعد بها: أسرة عطوفة، وزوج رشيق، وطفل محبوب، وفوق ذلك كليه فجميع رغباتي محققة. آه! لو أن العينين الزرقاوين والعينين السوداوين لم تكن موجودة لكنت أعبد الحياة!
أنا لست شريرة، ولكن لو أنني كنت أستطيع أن أطفئ نور هذه الأعين الأربع بهدوء دون أن أولم صاحبتيها، ودون أن أحزن الذين يحبونهما، وأقصد طبعاً الذين لهم الحق في حبهما لفعلت!
(يتبع)
محمد غلاب