مجلة الرسالة/العدد 669/رسالة الفن
→ إلى سعادة الأمين العام لجامعة الدول العربية: | مجلة الرسالة - العدد 669 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
البريد الأدبي ← |
بتاريخ: 29 - 04 - 1946 |
معرض القاهرة السادس والعشرون التصوير والنحت
للأستاذ نصري عطا الله سوس
نحب أن نمهد الحديث عن هذا المعرض بذكر بعض الأصول والبديهيات التي اهتدينا بهديها حين كتبنا هذا المقال، والتي كثيراً ما يؤدي الجهل بها أو التشكك فيها إلى الخطأ في الحكم والتقدير، ومن ثم فوات المقصود من إنتاج الفن أو مشاهدته:
البديهية الأولى - والأخيرة! - هي أن الفن هو التعبير الموفق عن العاطفة الصادقة، فالمصور يلجأ إلى التصوير للتعبير عن عاطفة جاشت بها نفسه وامتلأ بها قلبه، وهذه العاطفة تختلف عن عواطفنا اليومية العادية بقوتها، ووضوحها وكمالها، وفي الفن لا ترى الأشياء بعين الحاجة أو المنفعة؛ بل نراها لمجرد رؤيتها ونتأملها لغاية التأمل، وهذه النظرة للأشياء تتسم بدقة الإدراك ونقاء الأثر الذي تحدثه في نفس الفنان، وبالتالي في نفس المشاهد.
وخاصية فن التصوير هي التعبير عن عاطفة أو إحساس تلقيناه عن طريق العين، أثارته فينا الخصائص الشكلية للأشياء والمعاني، ولذا لا يمكن التعبير عنه إلا بالأشكال والألوان. ولو أمكن التعبير عنه بوسيلة أخرى، كاللغة مثلاً، لبطلت الحاجة إلى فن التصوير وانتفى وجوده.
وليست الغاية من الفن محاكاة الطبيعة أو النقل الأمين عنها كما يظن الكثيرون، فالفن لا يعطينا صورة من الأشياء بل من جوهر الأشياء، وحقيقتها الكاملة بما فيها من إمكانيات مستسرة وقيم عليا. ويختلف نصيب الأعمال الفنية من العظمة والجودة باختلاف نصيبها من القوة التعبيرية التي تقوم على قوة الحافز العاطفي ومتانة وصدق الأداء، وقوة الأثر وخلود الذكر من نصيب الأعمال الفنية التي تعالج العواطف الإنسانية العنصرية والأصيلة، والتي تطرد في الناس على اختلاف البيئات والزمان، والتي تعالج الحقائق الباقية والقوانين الكونية والمثل الإنسانية العليا، على أن يتسم الأداء بالقوة والكمال والبساطة، ويعبر عن دقة الفهم ولطف الإحساس.
المستوى العام للمعرض أعلى منه في السنوات القليلة الماضية، وهناك عدد لا بأس به م المصورين ينفرد كل منهم بطابع مستقل، وشخصية متميزة وعالم خاص وأعمالهم الفنية مرآة صافية لعواطف واحساسات، كثيراً ما تحول مشاغل حياتنا اليومية دون تعهدها والتمتع بها. ورسالة الفن أولاً وأخيراً هي أن يتم نواحي النقص في حياتنا النفسية والروحية، وأن يمهد لنا سبيل استنهاض هذه العواطف والاحساسات، وأن يعاونها على ارتياد آفاق جديدة، حتى يعاودها شبابها وعمقها وحيويتها، كما أن عددا كبيراً من الصور التي ينقصها النضوج والإتقان. وقديماً قيل أن الذوق لا يعلل، وكثيراً ما اتخذ هذا القول ذريعة للتسامح والتهاون والاستهتار، وحسبنا هذه الإشارة، وفيما يلي عرض سريع لمآثر المعرض:
عرض محمود سعيد بك لوحتين لا تمثلان خير إنتاجه. ومكانة سعيد بك معروفة، ولكنه لا يحاول أن ينوع أو يرتاد آفاقاً جديدة. وصورة هذا العام ليست إلا نسخاً أخرى من موضوعاته التي ألفناها.
وقدم الأستاذ مصطفى دربالة دراسة رائعة (للبوظة) في عدة لوحات وفق في معظمها توفيقاً نادراً إلى التعبير الصادق المتقن عن روح (البوظة) وطابع شخصيات روادها ونفسياتهم.
وفي صور الأستاذ زوريان أشود طلاقة وحرية في التعبير الجيد عن الخصائص الكلية للأشياء. وله صورة وجهيه (صورة نورا) نعتبرها أنموذجاً كاملاً لما يجب أن يكون عليه هذا الفن، ففيها يمتزج المعنى والمبنى وتأتلف كل عناصر الفن، وفضلاً عن أنه وفق إلى التعبير عن روح صاحبة هذه الصورة، منعكسة على سماتها وملامحها، فالصورة ذات مميزات بارزة إذا نظرت كشيْ قائم بذاته.
وعرض الأستاذ نعيم جاب الله ثلاث لوحات قيمة تدل على حيوية كبيرة: فالطبيعة التي تبدو للعيون هامدة خامدة تتجلى في صورة نشطة نشاطاً عارماً مليئة بالقوة والحياة. ونحن نشهد لهذا المصور الشاب بعمق الشعور ودقة الذوق الممثلين في حسن اختياره للألوان، ونشهد له بإحساسه القوي بالنور المصري الصافي، وهو إحساس نفسي لا بصري فقط - ورسالة الفن تتلقاها العين ولكن تؤديها النفس - وصورة تذكرني بقول الشاعر كيتس: (الألحان المسموعة حلوة، ولكن غير المسموعة أحلى) لأن فيها ألحاناً غير مسموعة، وهي بذلك تؤدي رسالة الفن التي تقصر عن أدائها الألفاظ.
وقد قلت عن (الآنسة إحسان خليل) لعامين خليا في مجلة الرسالة: (إن هذه الفتاة فنانة حتى أطراف أناملها. والذي يتأمل المناظر الطبيعية التي رسمتها يحس أنها تتناول الفرشة بقلبها الرقيق لا بأصابع يديها). وصورها هذا العام تعبر بجلاء عن شاعريتها وروحها الصوفية الرقيقة، ففيها صلاة وعبادة للطبيعة، وفيها نفاذ إلى روح المنظر، وفيها موسيقى تراها العين ويحسها القلب، كما أنها توحي بالسلام والاطمئنان اللذين نحسهما عندما نخرج من أسر النفس، ونرتفع عن مستواها لنندمج في الكون الكبير.
والأستاذ عز الدين حمودة رسام أنيق ودقيق في اختيار موضوعاته: (مدام سول، في أحلام الترف، شرقية) وهو موفق في الأداء، وصورة جياشة بالمعاني النفسية. ولعل حسن اختياره لموضوعات صورة، وكلها صور سيدات، هو سر توفيقه. غير أني أحس أنه غير موفق كثيراً في (في أحلام الترف) ويبدو هذا بجلاء عندما نقارن هذه الصورة بصورة سعيد بك: (زبيدة) ففي الأخيرة تكاد كل ذرة تعبر عن (أحلام اللحم) كما أن المشاهد يحس على الأثر أن للصورة روحا، وهذا لا يتوفر في صورة حموده.
والأستاذ منير شريف موفق جداً في التعبير عن إحساسه بمناظر البحر، وهو يؤدي إحساسه هذا ببساطة وخلو من التعقيد ودون لجوء إلى التزويق والمحسنات. وسر نجاحه أن الأداء عنده طريق ممهد سهل للوصول إلى عاطفته ومشاركته فيها.
وتطغى الروح الأكاديمية على معروضات جماعة الدعاية الفنية (وقوامها الأساتذة حبيب جورجي، شفيق رزق، نجيب أسعد، الآنسة صوفي جرجس) ولكنهم ينسجون على منوال واحد في التعبير. ومن الصعب جداً تمييز أعمال أي منهم من أعمال بقية الجماعة، وجانب الصنعة عندهم يطغى على جانب الإحساس وإن كانت الصنعة نفسها لا تمتاز بالقوة أو المهارة. وتنطبق هذه الأقوال على مدرسي الفن في المدارس والمعاهد ومنهم الأساتذة عبد العزيز درويش، وسند بسطاً، وكامل مصطفى محمد (ونشهد له بالنجاح في صوره الوجهية: الآنسة كوليت، جارتي) وصدقي الجباخنجي ورمزي السيد مصطفى إلى حد ما. فهل نستنتج من هذا أن ممارسة الفن كمهنة يقتل الموهبة ويذهب بحيويتها؟؟
وللأستاذ يوسف كامل صور وجهية لا بأس بها (نصري. عبد القدوس). والأستاذ طويل ريمي يقتصد جداً في الأداء فينجح إذا كان الاقتصاد اقتصاراً على التعبير على الخصائص الجوهرية مثل (شيخ يقرأ) ولا ينجح إذا انقلب الاقتصاد إلى قصور في التعبير مثل (فناء العزبة).
وقد خطا الأستاذ أحمد شاكر خطوة موفقة في صوره الوجهية (المصور: مدام نجاتي بك) وبقى أن يعمل للوصول إلى المستوى نفسه في المناظر الطبيعية. وينطبق القول نفسه على الأستاذ عزت إبراهيم.
وفي المعرض أكثر من صورة تمثل الأمومة، وأحسنها وأقواها صورة الأستاذ إدوار رزق الله، وما من ناقد يستطيع أن ينكر على الآنسة مرجريت نخلة قدرتها التعبيرية، ولكن النهج الذي تؤثره في الأداء يغلب عليه طابع (الكاريكاتور). وأعتقد أن الأستاذ جمال الدين سجيني رساماً أكثر منه مثالاً.
وتمتاز صور الآنسة جينان جاكلين، بشيء من الشاعرية، والعاطفة الشابة، وإحساس بالنور يبدو على أتمه وأقواه في (في الجزيرة)؛ ولكن الأداء يخونها أحياناً. وتدل معروضات الآنستين بثينة أحمد وعائشة عبد العال على روح فنية لم يكتمل نضجها بعد، ولكنها سليمة، كما أن الآنسة تحية وهبة لم تبذل كل ما كان يمكنها أن تبذله من مجهود.
ومما يلفت النظر أن خصائص الروح المصرية ممثلة تمثيلاً ملحوظاً في التماثيل المعروضة هذا العام. ويكفي أن نذكر تمثال (العمدة) للأستاذ عبد الحميد حمدي وهو يمثل الطيبة والسذاجة التي تكاد تصل إلى حد البلاهة، و (رأس شيخ) له أيضاً، و (عامل) للأستاذ ميشيل جرجس، وهو يمثل الطيبة والخشونة وقوة الاحتمال. ومن أبرز المثالين هذا العام الأستاذ ناتان أبسخيرون، وحسبه تمثاله الرائع (أحلام). وللأستاذ حلمي يوسف تمثال جيد للمرحوم أحمد ماهر باشا.
وقد عرضت الآنسة عايدة عبد الكريم - وهي ما تزال طالبة - عدة تماثيل تمتاز بالحيوية والنضوج. وما من شك في أن هذه الفتاة ينتظرها مستقبل باهر في النحت؛ فهي واسعة الأفق، قديرة على التنويع، خبيرة بالعواطف النفسية وتجيد التعبير عنها.
والمعرض في مجموعه جدير بالدراسة والتأمل، وفيه فرصة متاحة للجميع للمتعة الذوقية الرفيعة.
نصري عطا الله سوس