مجلة الرسالة/العدد 665/هذا هو الريف
→ من غزل الفقهاء | مجلة الرسالة - العدد 665 هذا هو الريف [[مؤلف:|]] |
الأدب في سير أعلامه: ← |
بتاريخ: 01 - 04 - 1946 |
بعثة طيبة. . .!
للأستاذ سيد قطب
(إلى المترفين في المدينة أولئك الذين يتشدقون بإصلاح الريف
وهم لا يدرون شيئاً عن هذا الريف)
كانت الساعة تقارب العاشرة صباحاً. . . كانوا قد تلقوا الدرسين الأول والثاني في مدرسة القرية، ثم انطلقوا. . . انطلقوا من الفصول كالعصافير الحبيسة حينما تنطلق من القفص بعد حبس طويل، انطلقوا يقفزون ويركضون، ويزعقون ويتصايحون، لغير ما قصد ولا غاية إلا تأكيد شعورهم بأنهم طلقاء بعد الحبس الطويل!
ثم لكي يفرغوا لنقل ما تحمله جيوبهم من بعض الأطعمة إلى بطونهم، فلقد حملوه نحو ساعتين، ولكن (النظام) في الفصل لم يكن يسمح لهم بعملية تفريغ الجيوب!
ثم لكي ينصرف أبناء الأغنياء منهم إلى (عشة عم خليل) بائع القصب والبلح، فيشتروا منها بمليم!
ولم تكن هذه كل قيمة (الفسحة)، فلقد كان لهؤلاء الأطفال مآرب في تلك الفسحة القصيرة - ربع ساعة - لقد كانت المدرسة في طرف القرية على حدود الحقول الواسعة. وإذا كانت وظيفة الحقل أن ينبت للناس وللماشية الحبَّ والأبَّ، فلقد كانت له وظيفة أخرى عند تلاميذ المدرسة، وعند غيرهم من سكان القرية. . . إنه يقوم لهم بوظيفة المراحيض العمومية!
انطلق التلاميذ إذن في كل مكان يفرغون ما تحمله جيوبهم في بطونهم، وما تحمله بطونهم في الحقول القريبة. . . ولكنهم فوجئوا بجرس المدرسة يدق دقاً عنيفاً متواصلا قبل الميعاد المقرر للحصة الثالثة.
وانتظموا صفوفاً بعد قليل، ولم يسمعوا تلك النداءات المعهودة التي يؤدون على أساسها بعض الحركات الرياضية الساذجة، ولكنهم سمعوا ناظر المدرسة يلقي عليهم خبراً غريباً عجيباً لم يسمعوا به قبل الآن. . . إنهم الآن ذاهبون إلى (دُوّار العمدة)، وسيسيرون في الطريق بنظام. وكان هذا يقتضيهم أن يقطعوا شوارع القرية كلها تقريباً، فدوار العمدة أقصى الطرف الآخر من القرية، والناظر يحذرهم من الإخلال بالنظام أثناء السير، والالتفات إلى اليسار أو إلى اليمين، وبخاصة عند مرورهم (بسويقة القرية)، حيث يعرض القصب والبلح والتفاح البلدي الفج!
يذهبون إلى دوار العمدة؟ ولماذا؟ وهم لم يدخلوا هذا الدوار قط، وان سمعوا من آبائهم وأهليهم انهم يذهبون في بعض الأحيان، عندما يستدعيهم أحد الخفراء، أو لأداء الشهادة، أو للشكوى من بعض الفلاحين. . . أما هم. . . هم تلاميذ المدرسة، فمالهم وكل هذه الأشياء؟
وكان هو جريئاً بعض الشيء على ناظر المدرسة ومدرسيها، فاستطاع أن يسأل: ولماذا نذهب إلى دوار العمدة؟
سأل، ويا ليته لم يسأل! لقد كان الجواب كارثة عظمى لم تخطر له على ولا لزملائه على بال. . أن (الحكيم) هناك - أي الطبيب - وهو يطلبهم جميعاً!
الحكيم؟ يا للداهية! اليوم دنت أخرتهم ولا شك، فعهدهم بالحكيم هذا ألا يزور القرية إلا في يوم اغبر أكدر، يوم يقع في البلد قتيل، ثم تحضر (النيابة)، ويحضر معها الحكيم لتشريح الجثة!
والنيابة والحكيم هذان هما الشيئان الهائلان المخيفان في القرية كلها. أما في أذهان الأطفال، فهما (هيولي) لا يتصورون لهما شكلا ولا حجما، فخيالهم الصغير يستطيع أن ينطلق في تصورهما كيف شاء، ولكنه لن يميزهما بحدود مما يميز الأشخاص والأشياء.
ثم ها هو ذا الحكيم يطلبهم، يطلبهم هم بالذات، فماذا يكون الأمر؟
إنهم لا يعرفون لماذا يطلبهم مطلقاً؛ ولكنهم واثقون في قرارة نفوسهم انه لن يكون خيراً. وأنهم لن يخرجوا من الدوار - إذا خرجوا - وهم سالمون مثلما دخلوا بحال من الأحوال!
وما وظيفة الحكيم؟
أليست وظيفته أن يشرحّ جثث الموتى، وأن يبقر بطون المصابين، أو يقطع أيديهم وأرجلهم لمجرد الإيذاء، أو لكي يفحصها ويلتذ بفحصها؟ أو أن يسقي بعض المرضى (الفنجان) - أي السم - ليموتوا، حتى لا يتعب في علاجهم، أو تلبية لرغبة العمدة الذي يرشوه للتخلص من خصومه الذين يصابون في الحوادث!
فما هم وهذا الحكيم؟ إنهم ليسوا قتلى يشرحهم، وليسوا مصابين يقطع أوصالهم، أو يسقيهم (الفنجان). . . ولكن، أو يستدعيهم إلا لأمر ما؟ أخف شيء يصنعه بهم هو (التجريح). . . (وهو الاصطلاح الذي يطلقونه على عملية التطعيم)، تلك العملية المرعبة التي يندب لها بعض معاوني الصحة، وبعض الممرضين في الحين بعد الحين، فتروّع القرية ترويعاً. . . وما أن يعلن أن في البلد (الحكيم الصغير) (تمييزاً له من (الحكيم الكبير) الذي يطلبهم الآن والذي يرافق النيابة دائماً ولا يحضر منفرداً) ما أن يعلن هذا حتى ترتج وترتجف. فتخرج الأمهات إلى الشوارع مولولات مذعورات يلتقطن أطفالهن من كل مكان في ذعر وعجلة، ثم يغلقن على أنفسهن الأبواب، ويصعدن إلى السطح استعداداً للقفز عليها من بيت إلى بيت، فكثيراً ما يدق هؤلاء الشياطين الأبواب، ويكسرونها بمساعدة الخفراء، ويهجمون على من فيها (للتجريح)!
فأما من تستطيع القفز إلى البيوت المجاورة، فلن تقصر في سلوك طريق النجاة، وأما من لا تستطيع، فإنها تختبئ في صومعة الغلال، أو في خم الدجاج، حيث لا يخطر على قلب (الحكيم) أنها هناك!
هذا هو الحكيم الذي يعرفونه. . . فما بالهم بالحكيم الكبير الذي لا يحضر إلا مع النيابة، والذي لا يقع أحد في يده، ثم ينجوا إلا بمعجزة من معجزات القدر، أو ببركة (تميمة) لولى من كبار الأولياء؟!
وارتجفت مفاصلهم جميعاً وهم يسمعون الخبر الفاجع، اصفرت وجّوههم، وعلا صوت بعضهم بالنحيب والعويل!
ووصلوا إلى الدوار، ولا يعلم إلا الله كيف وصلوا. ووقفوا صفاً طويلاً. أوله في داخل الدوار - أي في منطقة الخطر - وآخره في الشارع أمامه. . . وعن اليمين وعن الشمال وقف الخفراء ببنادقهم (ولبدهم) الطويلة (جمع لبدة)؛ ووقف أحد المدرسين في أول الصف وأحدهم في آخره. أما الناظر فقد سبقهم إلى الحكيم ليطمئنهم قليلاً، ويظهر أمامهم بمظهر الشجاعة المطلوب!
وكان ترتيب الصف حسب الطول، فتقدم كبار التلاميذ وتبعهم الصغار أو القصار. وفي هذه اللحظة اصبح القصر نعمة من نعم الله! فأما الذين تقدموا فلا يعلم عنهم أحد شيئاً إلا الله، وأما المتخلفون فهم في تتطلع مستمر وقلق دائم، ينظرون ماذا سيُفعل بأول الداخلين، ليعرفوا نوع المصير الذي ينتظرهم بعد حين!
وكانت مفاجئة حين بدأ بعض الكبار يخرجون، بينما بقية الصغار ما يزالون في الصف الطويل. . . وانبعثت الصيحات والأسئلة التي لم يستطع كبحها الخفراء ولا المدرسون:
- دخلتم للحكيم؟
- نعم دخلنا!
- وماذا صنع بكم؟
- لا شيء! غزّنا في أصابعنا بالدبوس وشَفَطَ الدم! الدم! ولكن رؤيتهم لهم أحياء أصحاء مطمئنة على كل حال!
- وماذا هذا في أيديكم؟
- حق من الصفيح نأتي فيه بعينة براز وزجاجة صغيرة نأتي فيها بعينة بول!
- عينة براز وعينة بول! ولماذا؟
- لا ندري! هكذا طلب منا الحكيم!
- الحكيم نفسه طلب منكم هذا؟
- لا. . . الحكيم الكبير غزنا. والحكماء الصغيرون سلمونا الحق والزجاجة وطلبوا منا العينة للحكيم!
وتوارى الفزع قليلا ليحل محله التساؤل المصحوب بالدهشة والاستغراب لهذا الطلب الغريب!
إن أحداً لم يطلب منهم مثل هذا الطلب من قبل. وماذا يصنع الحكيم بهذه العينات العجيبة؟ انهم أن فهموا غزهم بالدبوس وشفط الدم، فإنهم لا يفهمون طلب العينات. أن الغز والدم لازمتان طبيعيتان للحكيم. . . ولكن هذا! من يدري؟ إنه الحكيم!
وعلى سهولة الطلب ورخصه إلا فإنه بدا عزيزاً وصعباً في كثير من الحالات. . . لقد طلب إليهم جميعاً أن ينطلقوا إلى دورات المياه بمساجد القرية، وأن يعودوا بعد نصف ساعة ومعهم المطلوب.
وليس كل تلميذ بمستعد لتلبية هذا الطلب في مثل هذا الوقت، ولا سيما أن (الفسحة) المدرسية كانت قد أفرغت ما في البطون. . . لو كان هذا قبل الفسحة لكان كل شيء حاضراً وبخاصة إحدى العينتين التي لا تأتي هكذا عند اللزوم!
فأما الذين كان في أمعائهم بقية فقد انطلقوا مطمئنين، وأما الذين أحسوا أن أمعائهم لا تستجيب لهم، أو حاولوا ولم يفلحوا، فقد علا وجههم الاصفرار، وارتفعت دقات قلوبهم من الخوف، وركبتهم الحيرة التي تركب المذعورين!
ماذا يصنعون؟ وكيف يعودون إلى الدوار، أو كيف يغيبون عن الموعد المرسوم؟
أن أقل ما يتصورون أن هم عادوا فارغين أن يقبر الحكيم بطونهم ليتناول منها العينة المطلوبة أو أن يدخل في أجسامهم قنوات طويلة لسحب هذه العينة. وفي الأولى الموت أو خطر الموت، وفي الثانية العار أمام إخوانهم وعند القرويين!
وهنا تتفق الحيلة، وتبدو قيمة التعاون!
إن التلاميذ لإخوة، فمتى تظهر قيمة هذه الأخوة إن لم تظهر الآن؟!
لقد انطلق المحرجون يرجون إخوانهم أن يمدوهم بعونهم، وان يتولوا عنهم ملء هذه الإحقاق!
وهنا تظهر الطبائع على حقيقتها. فالشدائد هي افضل محك لها فأما ذوو الأصل الطيب والطبع النبيل من التلاميذ فقد تقدموا لمعاونة زملائهم بلا تردد. وأما قليلو الأصل وذوو الطبائع اللئيمة، فبعضهم امتنع شفاء لحزازات قديمة، وبعضهم تمنع لؤما وانتهازاً للفرصة!
ولكن هذا التعاون لم يسد الحاجة إلا إلى حدّ معين، وبقى عدد من الإخوان الذين لا يجدون ما ينفقون!. . . وهنا تفتقت عبقرية أحدهم عن حيلة بارعة:
أن في مراحيض المساجد متسعاً للجميع!
أما كيف كان ذلك! فلا بد من بيان عن هذه المراحيض:
كان في القرية نحو عشرة مساجد كلها مبنية على الطراز العتيق. وكانت دورا المياه بها عجيبة. فهي مؤلفة من (مغطس) هو حوض مبني من الطوب ومطلي بالسمنت من الداخل والخارج، يملؤه عامل خاص، يمتح بالدلو من البئر ويصب فيه حتى يمتلئ. وفي الحائط الخارجي للمغطس ركبت صنابير تصل من البناء مباشرة إلى الماء بداخله. ومنها يتوضأ المصلون.
ولكن المغطس لا يستخدم فقط للوضوء. إنما هو الحمام المختار لعدد كبير من الناس الذين يعوزهم الماء في بيوتهم للغسل، فيذهبون إليه في جنح الظلام قبيل الفجر، حيث يسورون حائطه، ويرفعون غطاءه الخشبي؛ ثم يغطسون، فينقّون أجسامهم من الأوضار المادية والمعنوية، ويدعونها هناك للمتوضئين!
ويلحق بدورة المياه المراحيض، وبنائها عجيب. فهي تقع في صف طويل، يفصل بين كل اثنين منها حائط؛ ولكنها من الداخل متصلة بقناة مكشوفة يجري فيها الماء للجميع من منفذ في الحوائط الفاصلة بسعة القناة وتملأ هذه القناة بالماء من البئر كما يملأ المغطس ومن هذا الماء الجاري المتصل، يتناول المصلون وغير المصلين للاستنجاء بأيديهم، وهم داخل المراحيض، والماء يجري ويتصل بالجميع!
أما بناء المراحيض ذاتها فأعجب. فالمراحيض يتكون من (كتفين) يجلس فوقهما من يريد. وبينهما فجوة واسعة تضطر الجالس أن يباعد ما بين رجليه كي لا يسقط في الفتحة الكبيرة. في هذه الفتحة يتساقط ما يتساقط، فيتراكم قريبا من الجالس. لأن خزانات المساجد محدودة، والعدد الذي يتردد عليها ضخم جداً - إذ ليس في المنازل مراحيض إلا نادراً - وجميع الرجال والأولاد الكبار يلجئون إلى المساجد والحقول. أما النساء والأطفال ففي سطوح المنازل متسع للجميع!
وتبقى هذه الحالة طوال السنة والرائحة التي لا تطاق تنبعث من هذه المراحيض المكشوفة، والمواد النازلة على مرأى من الجالس لقضاء الحاجة، والبعوض يتبادل مواقفه تارة على هذه المواد المكشوفة، وتارة على وجوه الجالسين، فإذا خلت منهم المراحيض اخذ طريقه إلى المصلين وإلى البيوت المجاورة جيئة وذهاباً حيثما يريد!
وفي موعد خاص يستقدم (السُّرَ بَاتِيّة) أي الذين يكسحون المجارير. يستقدمون من المدينة القريبة بمقاولة خاصة لنزح خزانات مسجد أو عدة مساجد، ولهذا النزح طريقة عجيبة.
أن العربات الخاصة لم تكن تستخدم هناك على النحو المتبع في بعض المدن الخالية من المجاري. وما الداعي لهذه العربات؟ وهناك طريقة طبيعية مقتبسة من البيئة الزراعية؟!
ألا تستخدم القنوات في الحقول لنقل الماء من مكان إلى مكان؟ فلماذا لا تستخدم كذلك في نقل هذه المواد من المجارير إلى الحقول؟! ألا إنها لتستخدم! فما هو إلا أن تحفر قناة مكشوفة من المسجد الذي يراد كسح خزاناته إلى الحقول خارج القرية، وتمر هذه القناة بالبيوت والحوانيت في وسط الشارع، ثم يربط جردل بحبل ويعلق هذا ببكرة، ويقف عاملان يتناوبان فوق الخزان، يملآن هذا الجردل من الخزان ويصبانه في أصل القناة وبعد هنيهة يجري التيار حاملاً كل شيء إلى الحقوق المحظوظة بهذا السماد الطبيعي الثمين!
هذا ويتفق أن تكون عدة مساجد متفرقة في القرية في حاجة إلى التطهير، فتوفيراً للقنوات المتعددة، توصل قناة بقناة، وإذا بالقرية كلها شبكة واحدة من القنوات المتصلة. . . وعلى سكان البيوت والحوانيت أن يتمتعوا بالنضر الفذ والرائحة القوية أسبوعاً أو أسبوعين. . . فتلك بيوت الله ولا يجوز أن يتأذى أحد من فضلات المصلين!
قرب المواد المطلوب في فتحات هذه المراحيض العجيبة، هو الذي فتق الحيلة البارعة التي نبتت في ذهن هذا التلميذ العبقري!
وما إن طلع بها على إخوانه الملهوفين، حتى طلع عليهم الفرج بعد الضيق. . . وما هي إلا دقائق حتى كانت الإحقاق كلها مليئة، فتسلمها الحكماء في اطمئنان عميق. . . وسمح للتلاميذ بإجازة بقية اليوم، فعادوا إلى منازلهم غير مصدقين!
وعلم فيما بعد أنها كانت بعثة طبية للقيام بإحصاء طبي عن حالات الأنيميا والبلهارسيا والانكلستوما والإسكارس.
ولكنه لم يعلم كيف كانت النتائج التي دونتها البعثة في إحصاءاتها الرسمية الوثيقة!!!
سيد قطب