مجلة الرسالة/العدد 665/من غزل الفقهاء
→ نظرة لمعركة عين جالوت | مجلة الرسالة - العدد 665 من غزل الفقهاء [[مؤلف:|]] |
هذا هو الريف ← |
بتاريخ: 01 - 04 - 1946 |
للأستاذ علي الطنطاوي
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
واسمع يا سيدي أنشدك ما يحضرني من غزل الفقهاء، لا أستقصي ولا أعمد إلى الترتيب، وإنما أروي لك ما يجيئني، وما يدنو مني مصدره.
هذا أبو السعادات أسعد بن يحيى السنجاري الفقيه الشافعي المتوفى سنة 622 هـ فاسمع من شعره ما ترقص له القلوب، وتطرب الألباب: حلاوة ألفاظ، وبراعة معنى، وحسن أسلوب، قال من قصيدة له:
ومن هواك ما خطر السلو بباله ... ولأنت أعلم في الغرام بحاله
ومتى وشى واش إليك بأنه ... سال هواك فذاك من عذاله
أو ليس للكلِف المعنى شاهد ... من حاله يغنيك عن تسآله
جددت ثوب سقامه، وهتكت ستر غرامه، وصرمت حبل وصاله
أفزلة سبقت له أم خلة ... مألوف من تيهه ودلاله
وهذا الإمام الصوفي عبد الله بن القاسم الشهرزوري الملقب بالمرتضى أفما قرأت قصيدته:
لمعت نارهم وقد عسس الليل ... ومل الحادي وحار الدليل
التي لم يقل في معاني أهل الطريق مثلها، والتي نطاول بها أعلى شعراء (الرمزية) منكباً، ونسابق بها أوسعهم خطوة؟
أو ما سمعت شعره؟ هاك منه قوله:
فعاودت قلبي أسأل الصبر وقفه ... عليها فلا قلبي وجدت ولا صبري
وغابت شموس الوصل عني وأظلمت ... مسالكه حتى تحيرت في أمري
وهاك قول ظهير الدين الأهوازي الوزير الفقيه، تلميذ أبي إسحاق الشيرازي:
وإني لأبدي في هواك تجلدا ... وفي القلب مني لوعة وغليل
فلا تحسبن أني سلوت فربما ... ترى صحة بالمرء وهو عليل
وقول آبي القاسم القشيري الإمام الصوفي العلم: لو كنت ساعة بيننا ما بيننا ... ورأيت كيف نكرر التوديعا
لعلمت أن من الدموع محدثا ... وعلمت أن من الحديث دموعا
والبيت الثاني من مراقصات الشعر.
وكان مع ذلك علامة من الفقه والتفسير والحديث ومن فقهاء الشافعية الكبار، وهو صاحب الرسالة التي يعتدها الصوفية ككتاب سيبويه عند النحويين، ولا ينصرف الإطلاق إلا لها، ومن شعره:
ومن كان في طول الهوى ذاق لذة ... فإني من ليلى لها غير ذائق
وأكثر شيء نلته من وصلها ... أماني لم تصدق كخطفة بارق
ومن شعر القاضي عبد الوهاب المالكي الفقيه المشهور المتوفى سنه 422 والمدفون في قرافة مصر، وصاحب الخبر المستفيض لما خرج من بغداد وخرج أهلها لوداعه وهم يبكون ويعولون وهو يقول: والله يا أهل بغداد، لو وجدت عندكم رغيفاً كل يوم ما فارقتكم. ويقول:
سلام على بغداد في كل موطن ... وحق لها مني سلام مضاعف
فو الله ما فارقتها عن قلي لها ... وإني بشطي جانبيها لعارف
ولكنها ضاقت علي بأسرها ... ولم تكن الأرزاق فيها تساعف
وكانت كخل كنت أهوى دنوه ... وأخلاقه تنأى به وتخالف
ويقول فيها:
بغداد دار لأهل المال طيبة ... وللمفاليس دار الضنك والضيق
ظللت حيران أمشي في أزقتها ... كأنني مصحف في بيت زنديق
وهو معنى جيد وتشبيه عجيب.
وهو القائل:
متى يصل العطاش إلى ارتواءه ... إذا استقت البحار من الركايا
ومن يثني الأصاغر عن مراد ... وقد جلس الأكابر في الزوايا
وإن ترفع الوضعاء يوما ... على الرفعاء من إحدى الرزايا
إذا استوت الأسافل والأعالي ... فقد طابت منادمة المنايا ومن غزله الذي يتغزل فيه بلغة الفقه والقضاء، فيأتي فيه بالمرقص المطرب قوله:
ونائمة قبلتها فتنبهت ... وقالت تعالوا واطلبوا اللص بالحد
فقلت لها أني (فديتك) غاصب ... وما حكموا في غاصب بسوى الرد
خذيها وكفا عن أثيم ظلامة ... وإن أنت لم ترضي فألفاً على العد
فقالت قصاص يشهد العقل أنه ... على كبد الجاني ألذ من الشهد
فباتت يميني وهيِ هميان خصرها! ... وباتت يساري وهي واسطة العقد
فقالت ألمك تخبر بأنك زاهد؟ ... فقلت: بلى ما زلت أزهد في الزهد
وهاك القاضي الجرجاني مؤلف (الوساطة) علي بن عبد العزيز الفقيه الشافعي، الذي ذكره الشيرازي في طبقات الفقهاء، صاحب الأبيات المعلمة المشهورة:
يقولون: لي فيك انقباض، وإنما ... رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
أرى الناس من دانهم هان عندهم ... ومن أكرمته عزة النفس أكرما
وما كل برق لاح لي يستفزني ... ولا كل من لاقيت أرضاه منعما
وإني إذا ما فاتني الأمر لم أبت ... أقلب طرفي إثره متذمما
ولكنه أن جاء عفواً قبلته ... وإن لم أتبعه لولا وربما
وأقبض خطوي عن أمور كثيرة ... إذا لم أنلها وافر العرض مكرما
وأكرم نفسي أن أضحك عابساً ... وأن أتلقى بالمديح مذمما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ... ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهان ودنسوا ... محياه بالأطماع حتى تجهما
أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة؟ ... إذن فاتباع الجهل قد كان احزما
ويا ليت كل عام ينقش هذه الأبيات في صدر محرابه، وعلى صفحة قلبه، ويجعلها دستوره في حياته، وإمامه في خلائقه!.
والأبيات الأخرى:
وقالوا: توصل بالخضوع إلى الغنى ... وما علموا أن الخضوع هو الفقر
وبيني وبين المال شيئان حرما ... عليَّ الغنى: نفسي الأبية والدهر
ذا قيل هذا اليسر أبصرت دونه ... مواقف خير من وقفي بها العسر وله في هذا المعنى الشعر الكثير الجيد، أما غزله فسهل حلو منه قوله:
مالي ومالك يا فراق ... أبداً رحيل وانطلاق
يا نفس موتي بعدهم ... فكذا يكون الاشتياق
وقوله:
قد برح الحب بمشتاقك ... فأوله أحسن أخلاقك
لا تجفه وارع له حقه ... فإنه آخر عشاقك
وهاك القاضي سوار (الأصغر) بن عبد الله من القرن الثالث الذي يقول:
سلبت عظامي لحمها فتركتها ... عوارى في أجلادها تتكسر
وأخيلة منها مخها فكأنها ... أنابيب في أجوافها الريح تصفر
إذا سمعت باسم الفراق ترعدت ... مفاصلها من هول ما تتحذر
خذي بيدي ثم اكشفي الثوب فانظري ... بلى جسدي لكنني أتستر!
وليس الذي يجري من العين ماءها ... ولكنها روح تذوب فتقطر
وهاك قاضي القضاة ابن خلكان المشهور، وكان يعشق الملك المسعود بن المظفر، وكان قد تيمه حبه، قال القاضي التبرزي: كنت عنده في العادلية (دار المجمع العلمي اليوم) في بعض الليالي، فلما انصرف الناس من عنده قال لي: نم أنت هاهنا. وألقى علي فروة، وقام يدور حول البركة، ويكرر هذين البيتين إلى أن أصبحنا فتوضأنا وصلينا، والبيتان هما:
أنا والله هالك ... آيس من سلامتي
أو أرى القامة التي ... قد أقامت قيامتي
ولما فشا أمره، منع الملك انه من الركوب، فاشتد ذلك على ابن خلكان، فكان مما قال:
أن لم تجودوا بالوصال تعطفاً ... ورأيتم هجري وفرط تجنبي
لا تمنعوا عيني القريحة أن ترى ... يوم الخميس جمالكم في الموكب
لو كنت تعلم يا حبيبي ما الذي ... ألقاه من كمد إذا لم تركب
لرحمتني ورثيت لي من حالة ... لولاك لم يك حملها من مذهبي
ومن البلية والرزية أنني ... أقضي ولا تدري الذي قد حل بي
قسما بوجهك وهو بدر طالع ... وبليل طرتك التي كالغيهب لو لم أكن في رتبة أرعى لها ... العهد القديم صيانة للمنصب
لهتكت ستري في هزاك ولذ لي ... خلع العذار ولو ألح مؤني
لكني خشيت بأن يقول عواذلي ... قد جن هذا الشيخ في هذا الصبي
فارحم فديتك حرقة قد قاربت ... كشف القناع بحق ذياك النبي
لا تفضحن بحبك الصب الذي ... جرعته في الحب أكدر مشرب
وله فيه شعر كثير جدا.
ومن شعر محمد بن داود الظاهري، وكان فقيهاً على مذهب أبيه داود وكان شاعراً:
أنزه في روض المحاسن مقتلي ... وأمنع نفسي أن تنال محرما
وأحمل من ثقل الهوى ما لو انه ... يصب على الصخر الأصم تهدما
ومن شعر أبي الفضل الحصكفي الفقيه الشافعي:
أشكو إلى الله من نارين: واحدة ... في وجنتيه وأخرى منه في كبدي
ومن سقامين: سقم قد أحل دمي ... من الجفون وسقم حل في جسدي
ومن نمومين: دمعي حين أذكره ... يذيع سري وواش منه بالرصد
ومن ضعيفين صبري حين أبصره ... ووده ويراه الناس طوع يدي
لو ابتغيت الاستقصاء، وتتبعت المراجع، لجمعت من غزل الفقهاء كتابا، فأين بعد هذا يزعمون أن الفقهاء كرهوا الشعر، وتنزهوا عنه؟
أما إنها لم تفل ألسنة علمائنا، ولم تكل أقلامهم، ولم تخفت أصواتهم، إلا حين أضاعوا ملكة البيان، وزهدوا في الأدب، وحقروا الشعر. . . فهل لعلمائنا العودة إلى ما هم أخلق به، وأدنى إليه، وأقدر لو أرادوه عليه؟!
وردت في المقال المنشور في العدد الماضي كلمتان في أبيات سعيد بن المسيب على غير وجههما الصحيح وهما:
وعلّت فتات المسك، وقامت ترائي يوم جمع، وصوابهما: وعالت، وتراءَى.
علي الطنطاوي