الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 654/هذا العالم المتغير

مجلة الرسالة/العدد 654/هذا العالم المتغير

بتاريخ: 14 - 01 - 1946


(تصيب الذبحة الصدرية صفوة أبناء العالم، فكيف وفق

الأطباء المصريون إلى اكتشاف علاجها؟)

من وصفة بلدية: علاج للذبحة الصدرية

للأستاذ فوزي الشتوي

في حضرة عزرائيل - وصفة بلدية - جهل يقود العلم -

نجاح باهر - ونقدم العلاج أيضاً - عقبات

في حضرة عزرائيل:

جاءته الأزمة كما عرفها، فأوى إلى فراشه وقد نسى مهمته التي ارتدى من أجلها ملابسه، يرى زوجه وبينه يهرعون إليه بعقاقير الطبيب، فيتناول الجرعات في سكون، وهو يحس بتلك النغصة في صدره، ويشعر بحاجته الماسة إلى تنفس عميق، فلا يقوى على الزفير أو الشهيق، لأنهما يضاعفان الألم ويقربانه من عزرائيل وهو يطوف بفراشه. فيكتم الزفير ويمنع الشهيق إبقاء على سعادة أسرته، فأي مصير يحل بهم إن أتم عزرائيل مهمته في إحدى تلك الأزمات؟

ربما ينفذها في هذه الأزمة، وربما ينفذها في مرة تالية، وقد يهادنه مدة طويلة. ولكن أحمد بك كان يحس بجناحي ملك الموت تصفقان حوله كلما واتته أزمة الذبحة الصدرية، فيشفق على سعادة أسرته أكثر مما يشفق على نفسه!

وفي كل مرة كان ينظر إلى عقاقير الأطباء، فيعجب لعجزها، وتتولاه الدهشة لقصر يده ويد الطب عن إزالة غمته، واستقرار أمنة، ومستقبل عائلته. لم يدخر أحمد بك - كما حلا لي أن أسميه - وسعا في استشارات الأطباء والخضوع لوصاياهم، فقلل من نشاطه كما أمر، وداوم استعمال العقاقير، وهو يعرف أنها قد تأتيه بشر آخر، لأن الطب لم يعرف علاجاً أو مسكناً يهدئ العلة بغير أن يترك أثراً جديداً مؤذياً!

وهو يدرك تمام الإدراك أن العقاقير التي يتناولها تزيد ضربات قلبه وتضعفه، وتقلل ضغط الدم، وتجهد عضلات القلب قبل أن تؤثر على الشرايين الناجية للقب، وتكسبها السعة اللازمة لمرور كميات الدم اللازمة للحياة. فالذبحة الصدرية علة تصيب هذه العضلات، فتجعلها تنقبض وتضيق وتمنع مرور كميات الدم اللازمة لتغذية القلب، فتعرقل مهمته.

وصفة بلدية:

وأحمد بك كسواه من الطبقة المثقفة النشطة القليلة الإيمان بالوصفات البلدية: قدمت إليه زوجه مغلي بذر الخلة مرات ليجرب، فنظر إليها ساخراً أن يفلح الجهلة فيما فشلت فيه علوم الطب. سمع أحاديثها، وقصص جيرانه ومعارفه مرات عن فائدة بذر الخلة في شفاء الذبحة الصدرية، فلم يصدق أن الطب عمى عن رؤيتها. وقالوا له: جرب، فلن تخسر شيئاً. فأجابهم وأقنع نفسه بأنه قد يأتي لنفسه بعلة جديدة قد تكون أقوى وألعن.

واستشار أطباءه، فرأى في عيونهم نظرات السخرية والاحتقار، وقرأ فيها إمارات اللوم، لأنه يقبل أقوال الجهلاء والعامة. ولكن العلة كانت شديدة الإلحاح، فلا يكاد ينفعل، أو يبذل جانباً من نشاطه حتى تفاجئه، فتأتيه في مكتبه، وفي الطريق، وفي بيته أيضاً. فخشي أن ينفذ ملك الموت مهمته في غفلة منه، ودفعته فظاعة الألم وحب الحياة لأن يجرب، ولا سيما أن كثيراً من معارفه يتعاطونها، فلم تحدث لهم من مضاعفات كما يتوهم.

وأخيراً، استسلم وأقبل على تناول مغلي بذور الخلة وهو يتجاهل طعمه الكريه، ويتحمله في صبر؛ فإذا العلة تهادنه، وإذا النغصات المؤلمة تبتعد عنه، فتقصي شبح عزرائيل واصطفاق جناحيه. واستمر بضعة أسابع، فاسترد حالته المعنوية، وأحس في وصفته البلدية بسر جهله الطب وأنكره، أو سخر منه!

جهل يقود العلم:

فقصد إلى طبيبه واثقاً من توفيقه، متوقعاً أن يسمع عبارات السخرية، وأن يرى نظرات اللوم. ولكن الطبيب لم يكن أقل دهشة منه لما رآه في حالته من تحسن ملموس، ولما وجده فيه من إيمان ويقين. ومن ثم بدأ الكشف العملي يزيح الستار عن عقار جديد وعلاج فعال للذبحة الصدرية التي تفتك بالصفوة المختارة من أبناء العالم كله. فهي لا تصيب في الغالب سوى الطبقة المفكرة الشديدة النشاط، والكثيرة الحساسية والإدراك.

واحتضن الكشف العلمي ثلاثة من أطباء كلية الطب وهم: الدكتور انرب أستاذ علم وظائف الأعضاء، والدكتور قناوي في الأمراض الباطنية، والدكتور شفيق برسوم من مدرسي علم وظائف الأعضاء أيضاً. وتكاتف ثلاثتهم لاستطلاع السر الجديد وإجراء أبحاثه وتجاربه منذ سنة ونصف، فاستخرجوا المادة الفعالة نقية خالصة من المواد الغريبة، وأطلقوا عليها اسم (الخلين).

واختبروا فعلها في الكلاب الضالة فيحقنونها بالبنج حتى تستغرق في رقادها العميق. وعندئذ يفتحون قفصها الصدري ويكشفون عن القلب والرئة، ثم يقيسون مقادير الدم الواردة إلى القلب عن طريق الشرايين التاجية، فإذا هي عادة تتراوح بين 30 إلى 40 سنتمتراً مكعباً في الدقيقة. ويحقنون الشرايين بمادة الخلين في جرعات تتراوح بين ملليمترين وعشرة ملليمترات، فإذا بالدم الوارد إلى القلب يتضاعف ثلاثة أمثاله في الحالات العادية، وإذا الشرايين تتسع ويستمر أثرها في الكلاب لمدة ثلاث ساعات.

نجاح باهر:

ولكن هذه النتيجة وحدها لا ترضى البحث العلمي الدقيق فأي أثر آخر يتركه الخلين على الأوعية التي يمر بها؟ وماذا يصيب القلب وعضلاته؟

واكتشف أطباؤنا نجاحاً باهراً، فإن الخلين لا يؤثر إلا على العضلات الملساء للشرايين التاجية، وهي العضلات التي تسبب الذبحة الصدرية. أما عضلات القلب كما يقول الدكتور قناوي فلا تتأثر. وكذلك القلب ذاته لا يتضخم، كما أن استخدام الخلين لا يؤدي إلي انخفاض ضغط الدم كما يحدث عند استخدام العقاقير الطبية المعروفة. وقد سجلت نتائج هذا البحث بالموجات الكهربائية مما يوضح تأثير العقار.

ومعنى هذا أن الطب وفق إلي عقار بالغ القدرة على اتقاء شر الذبحة الصدرية بدون أن يترك أثرا. أضف إلي ذلك أن تأثيره علي الإنسان يختلف عن تأثيره على الكلاب لأن مفعوله في الإنسان يتراوح بين 24إلى 48 ساعة تبعا لحالة المرض والمريض

وقد انتقل البحث فتناول الإنسان. ويعالج به الآن حوالي خمس وسبعين حالة أدي علاجها إلى نجاح باهر في 70 حالة. وكان نجاح خمس منها ضعيفا. ويرجع سبب ضعفها إلى تقدم المرض وإلى أن تصلب العضلات وصل إلى درجة التيبس نتيجة لكبر السن أو اقتران الذبحة الصدرية بمرض السكر أو غيرهما من العوامل.

وتقدم العلاج أيضاً:

وتقدمت أبحاث العلاج أيضاً فأن الخلين مادة لا تستسيغ النفس مرارتها، فجرب استعماله في أقراص (برشام)، وفي حقن تعطى في الدم. والخلين لا يزيل المرض نهائيا ولكنه وقتي التأثير حتى الآن. ويتعاطى المريض مقادير منه تبعا لحالته. ولكن الأمل قوي في أن يصل البحث إلى العلاج النهائي؛ فقد لوحظ أن بعض الحالات شفيت نهائيا، واستغني المريض عن مواصلة العلاج. والمهم أن يوالي المريض استخدام الخلين حتى لا يصاب بنوبات الذبحة، حتى تستعيد العضلات حالتها الطبيعية بالتدريج.

ونوبات الذبحة الصدرية أو أزماتها تفاجئ مريضها في أوقات مختلفة، وتتراوح مدتها من نصف دقيقة إلى 20. وقد تصيبه مرة في اليوم، كما أنها قد تصيبه بضع مرات. وهي غالباً تحدث على أثر أي إجهاد سواء أكان عقليا أم جسمانياً.

وتكثر الإصابة بالذبحة الصدرية في الفترة التي نسميها منتصف العمر نتيجة لكسل بعض الغدد عن أداء وظيفتها مما يسبب تصلب الشرايين. وبرغم أن نسبتها كبيرة في مصر إذ تبلغ 50 % من المرضى من الطبقة النافعة، فإن مصر تعد أقل بلاد العالم في انتشار هذه المرض الذي يموت بفعله حوالي 20 % من مرضاه نتيجة لهبوط القلب أو انقباض العضلة.

أما في الخارج فالإصابة بالذبحة الصدرية شديدة الانتشار مما جعل اكتشاف العقار من المسائل العالمية فاهتمت به الدوائر العالمية، ونشرته كبريات الصحف الطبية، مرحبة باستخدامه كعلاج ناجح لمرض مستعص.

ويقدر العنصر الهام من بذر الخلة بنسبة 3 %، أما الباقي فشوائب وجد أن بعضها يترك أثراً ضاراً بالكلى.

عقبات:

ولم تمر فترات البحث حتى الآن سهلة لينة، بل اعترضته عقبتان كادت أولاهما توقف البحث في مراحله الأولى. فعندما أريد استخلاص مادة الخلين من بذر الخلة تحطم جهاز التقطير. وواجه الأطباء معضلة إحضار جهاز آخر. وطريق الواردات ممنوعة أو مستحيلة. ولكنهم أقبلوا على صنع جهاز جديد، فاستعاضوا عن الزجاج بالمعادن، وأدخلوا عليها من التعديلات ما جعل الجهاز أصح استخداما، وأجدى نفعا من الأصلي.

وفي المرة التالية توصلوا إلى المادة التي يذاب فيها الخلين، ولكنها كانت قليلة وأوشكت على النفاد من القطر المصري كله؛ ولكن الحظ واتاهم فتطوع بعض مندوبي مصر إلى مؤتمر العدل الدولي لإحضارها من أمريكا، واشتروها فعلا. ولكنهم لاحظوا عند العودة أن الحقيبة التي تحملها ناقصة فأبرقوا إلى المحطات التي مروا بها حتى عثروا عليها وأعادوها لأصحابها وهم في المطار يستعدون لركوب الطائرة إلى مصر.

وهكذا قدمت مصر للعالم بحثا طبيا بالغ النفع لأنه يحتفظ للعالم أجمع بصحة صفوة أناسه ممن خبروا الحياة، ويساهمون في بناء المدينة بأكبر قسط. كما قدمت أيضاً لباحثينا مادة جديدة لأبحاث يانعة توارثناها مئات الأجيال في وصفاتنا البلدية التي طالما احتقرناها. ولو أنصف علماؤنا لاحتضنوها فلا يتركون منها واحدة حتى يثبت البحث العلمي الدقيق ضررها فما لاشك فيه أن شوائبها كثيرة وواجبهم تنقيتها.

فوزي الشتوي