مجلة الرسالة/العدد 654/الملجأ الإسلامي الأول في عهد النبوة
→ حول تعقيب | مجلة الرسالة - العدد 654 الملجأ الإسلامي الأول في عهد النبوة [[مؤلف:|]] |
الحياة الأدبية في الحجاز ← |
بتاريخ: 14 - 01 - 1946 |
للأستاذ عبد المتعال الصعيدي
لله أنت يا رسول الله يا سيد المصلحين وإمام المشرعين، لقد مضى على أتباعك المسلمين قرون طويلة مظلمة حجبت عنهم محاسن شريعتك، وجعلتهم ينظرون إليها فيها وعلى أبصارهم غشاوة من الجهل، فتبدلت أوضاعها عندهم، وانحرفت عن سبلها المستقيمة إلى سبل معوجة، وصار كل شيء صالح فيها إلى فساد، وكل نظام جميل فيها إلى اختلال، وكل مظهر نشاط فيها إلى كسل وخمول، والإسلام دين إصلاح ونظام، ولابد لنا في نهضتنا الحاضرة من أن نرجع به إلى عهد نهضته، حتى لا يعوق المسلمين عن النهوض عائق من ناحية دينهم، وتسير فينا النهضة الدينية إلى جانب النهضة المدنية، متعاونتين في الوصول بنا إلى الإصلاح المنشود.
وها نحن أولاء نعالج الآن مشكلة السُّولة عن أوضاع ديننا معالجة مدنية، ونضع في ذلك الأوامر تلو الأوامر، والنواهي تلو النواهي، فلا يفيد في ذلك علاج، ولا ينقطع السُّولة عن هذه الحرفة الدنيئة، لأنا نقتصر في ذلك على علاجها من ناحية القانون الوضعي، ولا نحاول علاجها من ناحية الشرع السماوي، ليعلم الناس أن دينهم لا يبيح لهم هذه الحرفة الدنيئة، فكيف السُّولة عن تعاطيها، ويكف الذين يتصدقون عليهم أيديهم عنهم.
لقد ذم النبي ﷺ هذه الحرفة وشدد في الوعيد عليها، ومدح الذين يتعففون عن سؤال الناس. ومما ورد في ذلك قوله ﷺ: ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن به فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس. وقوله أيضاً: لأن يأخذ أحدكم حبله ثم يأتي الجبل فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه، وقد عالج الإسلام هذه المشكلة بعد منعه لها معالجة إيجابية، لأنه لا يصح أن يمنع المحتاجين من السؤال ويتركهم يتضورون جوعاً، أو يشقون في الحياة بجانب غيرهم من أهلها، فسنَّ الصدقة وفرض الزكاة على الأغنياء، وجعل من وظيفة الحكومة جمع الزكاة من أهلها، وصرفها على من يستحقها من الفقراء ونحوهم، فوقاهم بذلك ذل السؤال، وحفظ لهم كرامتهم، لأنهم لا يأخذونها من الحكومة امتنانا، وإنما يأخذونها حقاً تتقاض الأغنياء، وتقوم فيه بوظيفة الوسيط بينهم.
ولما هاجر المسلمون من مكة إلى المدينة منعهم المشركون أموالهم في مكة، فأصابهم من ضيق العيش في المدينة ما أصابهم، وعانى كثير منهم من شدة الفقر ما عانى، وهم أبناء سادة قريش وأشرافها، ولا تسمح لهم عزتهم وكرامتهم أن يمدوا أيديهم إلى الناس بالسؤال، فأنشأ لهم النبي ﷺ ملجأ يجمع بينهم، واختار له مكاناً متواضعاً بمسجد المدينة، وكان موضعاً مظللاً من ذلك المسجد، فسماه من أجل ذلك صفةً، واشتهر أهله بين أصحابه بأهل الصفة، وكانوا نحواً من أربعمائة رجل من مهاجري قريش، لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر، فآواهم النبيﷺ في ذلك المكان، وكان بهذا أول ملجأ اتخذ للفقراء في الإسلام.
وكان لهذا الملجأ نظامه فيمن يدخله من الفقراء، فكان لا يدخله منهم إلا الفقير الذي لا يستطيع ضرباً في الأرض للكسب، فلا يجد من كسبه ما يغنيه عن قبول الصدقة في هذا الملجأ من المسجد، وقد جاء هذا الشرط في وصف الله تعالى لفقراء هذا الملجأ في الآية - 273 - من سورة البقرة (للفقراء الذين احصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض، يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم، لا يسألون الناس إلحافاً، وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم).
وكان من نظامه أن جعل مدرسة لأولئك الفقراء، وكان مدرسة ليلية يتعلمون فيها القرآن وغيره من العلوم، لأن لهم عملا آخر سيأتي بيانه بالنهار، وبذلك كان النبي ﷺ أول من جعل من الملاجئ مدارس، لتكون دور علم وتعليم، وينتفع الناس بها في دينهم ودنياهم، ولا يذهب ما يتصدقون به عليها سدى.
وكان من نظامه أن جعل لهم عملا بالنهار ينفقون منه على أنفسهم، ولا يكلهم إلى الصدقة التي يتصدق بها عليهم، لأنها لم تكن مورداً دائما، بل كان من عنده فضل من المسلمين أتاهم به إذا أمسى، ولأن الإسلام دين عمل وجهاد، فلا يرضى لفريق من أهله أن يقعد عن العمل، ويتكل على ما يتصدق به عليه الناس. فكانوا يخرجون بالنهار فيجمعون النوى، ثم يرضخونه ويبيعونه لأصحاب الجمال.
وكان من نظامه أن جعل منهم جنداً للمسلمين، فكانوا يخرجون في كل سرية يبعثها رسول الله ﷺ، وفي كل غزوة يغزوها بنفسه، فيكون شأنهم في ذلك شأن كل مسلم، ولا ينقطعون إلى ملجئهم كما ينقطع الرهبان إلى صوامعهم.
ولقد قام هذا الملجأ يؤدي عمله على عهد النبي ﷺ، ثم تولى الخلافة أبو بكر رضي عنه فأبقاه على حاله التي كان عليها، ثم تولى بعده عمر رضي الله عنه، فاتسعت في عهده الفتوح، وفتحت للمسلمين خزائن الفرس والروم، وصارت أسباب الغنى سهلة وميسرة، فأمر رضى الله عنه بإغلاق هذا الملجأ، وأمر أهله أن يسلكوا تلك السبل الميسرة للغنى، لأنه لا يرضى بالفقر إلا أهل الخمول والكسل، والدنيا دار جهاد وعمل.
ومن ينظر إلى نظام هذا الملأ يجد أنه هو النظام الذي تأخذ به الأمم الحديثة في ملاجئها، لأنه هو النظام الذي يتفق وأسباب المدينة التي تأخذ بها، ولكن المسلمين حين انحرفوا عن دينهم بعد ضعفهم، تغير نظرهم إلى هذا الملجأ كما تغير نظرهم إلى غيره من أمور دينهم، فاتخذوا أساسا لما أنشئوا في تلك القرون المظلمة مما سموه تكايا وخانقاه، وأخذ أهلها من الصوفية يتمسحون بأهل ذلك الملجأ، ويزعمون أن اسمهم مشتق من الصفة التي كانوا يأوون إليها، على بعد ما بين اسمها واسمهم، وعلى بعد ما كان من نظام أهلها ونظامهم، وعلى انه كان نظاماً زال بزوال سببه، ولم يرضه عمر رضي الله عنه لأهله؛ ومثل عمر يؤخذ الدين عنه.
عبد المتعال الصعيدي