مجلة الرسالة/العدد 654/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 654 القصص [[مؤلف:|]] |
بتاريخ: 14 - 01 - 1946 |
من ذكريات الشباب
اجترار
للأستاذ حبيب الزحلاوي
- 1 -
قرأ أربعة رجال من نزلاء مصر خبر الحفلة التي أزمع السوريون إقامتها لتكريم رئيس الوزراء الذي قدم مصر ليشترك في حفلة افتتاح جامعة الدول العربية، فطاب لكل واحد منهم مشاركة مواطنيه في هذا التكريم الدال على أن الاغتراب عن الوطن والانتساب إلى غيره لا يحدان من العاطفة الوطنية ولا يصدان عن الحدب على أبناء وطنهم الأول، بل على العكس، يوقظ حادث كهذا الكثير من خبايا الذكريات الكامنة الحبيبة إلى النفس، خصوصاً ذكريات الطفولة والمدرسة والصبى.
لعل الذين اشتركوا في حفلة تكريم الوزير السوري، كان وجدانهم يضطرب بهذا الشعور أو ما يقاربه من أحاسيس بريئة، إلا أربعة رجال أزعم أنهم اشتركوا في هذا الاحتفال بدافع يخالف تلك الدوافع، ولعلنا لو سألنا كل واحد من هؤلاء الأربعة عن السبب لعجز عن ذكره.
رأيتهم يدخلون قاعة الاحتفال واحداً إثر واحد كأنهم على ميعاد، ولاحظت أنه ما من واحد من أعضاء لجنة الاستقبال التفت إليهم أو خصهم بكلمة ترحيب.
أهرعت إليهم وحييتهم أطيب تحية وأجلستهم مجلساً حسناً.
ما كاد أولئك السادة يطمئنون في مجلسهم حتى التفت كل منهم إلى جليسه ثم صوبوا نظرهم إلى فكانت مفاجأة من أبهج مفاجآت العمر وأحلاها، وكان أبهج من ذلك وأحلى أننا نتعانق ونبكى.
كنا أصدقاء، ولعل كلمة الصداقة تعجز عن تصوير الروابط الدموية التي كونت صداقتنا، وقد فرقتنا حوادث جسام ابتدأت في مستهل هذا القرن، ولم ننج منها إلا عقب إخفاق الثورة الدرزية، ولياذنا بمصر هذا البلد الأمين.
كنا فتياناً أغرارا يوم اقتفينا إثر زعمائنا في مناصبة الدولة العثمانية العداء، وكنا في حمأة من الضلال يوم حاربنا الإنجليز في (كوت الإمارة) وعلى ضفاف قناة السويس مع الجند العثماني جنباً إلى جنب، وكنا في غمرة من الجهل يوم اقتادونا لننتظم في جيش الخلافة نقاتل الأتراك، وكنا في جنون مطبق يوم قاتلنا الفرنسيين في (ميسلون) على أبواب دمشق، ثم لم يدركنا الرشد إلا بعيد فشل آخر ثورة دموية، وكانت جبال الدروز ميدانا لآخر قتال اشتركنا فيه بعد حرب العصابات في (غوطة) دمشق.
مرت بذهني صور تلك الحادثات، وتذكرت أياما قضيناها في السجون، تارة مجتمعين وتارة متفرقين، أما الليلة، أي بعد مضى حوالي ثلاثين عاما، فقد جمعتنا مصادفة من مصادفات المناسبات لتكريم الوزير السوري الأول: الذي ساير ولا بد حياتنا الجهادية تلك التي فتحنا عليها أذهاننا قبل أن تفتح لأنوار المعرفة عقولنا.
هل يعرفنا الوزير؟ هل نعرف الوزير؟ من من شهود هذا الحفل الحاشد يعرفنا؟!!
أسئلة ألقتها عيوننا بالنظرات، وبالنظرات أجابت عنها، فتفاهمنا كما كنا نتفاهم على تنفيذ أمر خطير مدبر! فانسللنا من مكان الاجتماع متعاقبين ليضمنا مجلس هادئ نتكلم فيه على هوانا!!
استوينا في مقاعدنا بمقهى ندخن النارجيلة ونحتسي القهوة، نتكلم عن ماضينا وكيف قطعنا مرحلة الشباب في الثورات والتشرد والمحاكمات والسجون حتى وهنت عزائمنا، وكلت هممنا فصرنا لا نصلح إلا لِعَلْك حياتنا الماضية واجترار أحداثها.
قال أحدنا: (منذ أخفقت الثورة الدرزية بسبب اختصام زعمائها على الزعامة الكبرى، وعلى استئثار كل فئة من المتحزبين بالأموال التي كانت ترد من هنا ومن هناك باسم الثورة، انسللت من بين الصفوف ولذت بمصر أداوى جراحاً حملتها أوسمة لا تصدأ ولا تمجد حاملها؟!!
فأجابه أحدهم مازحاً: (ظننت والله أنك سبقتنا إلى العالم الآخر). فرد عليه بلهجة جدية قائلا: أتحسب وفاء مني أن أرحل وأترككم هنا؟
وقال آخر: لقيت السلامة في سكنى هذا البلد الذي لم يعرفنا أهله إلا عن طريق السياسة؛ فصرت أعمل، لا عمل المطمئن المستقر، بل عمل إنسان (على سفر). وبالرغم من هذا القلق المعنوي، أسست تجارة، وبنيت أسرة، وتطورت ميولي الوطنية فصارت أِشبه بميول المشتاق لحبيب بعيد، واستوطنت مصر.
قال أحدهم يذكر صديقه بموقعة مع الفرنسيين وقعت لهما (برأس بعلبك)، وذكر آخر حادثة ثانية وقعت له يوم ثورة (حماه)، وذكر هذا واقعة جبال العلويين، وذاك حادثة (القنيطرة) وأخذوا يذكرون حوادث لثورات أشعلوها على الاستعمار الفرنسي.
قلت وقد كفوا عن اللغط: حقاً يا إخواني إن ذكرياتكم سجل لتاريخ حقبة من حياة سورية، وإن هاتيكم الذكريات ستبقى مكتومة في الصدور، أو مبعثرة على ألسنة الرواة، حتى تصادف مؤرخا غير مأجور على تلفيق تاريخ لسورية، والآن وقد جمعتنا المصادفة، هل لكم أن تذكروا أروع حادث وقع لكم في جهادكم وأخطر موقف وقفتموه؟
لم يدم صمتهم طويلا، فقد انبرى واحد منهم وقال:
- 2 -
لست أحسن التنميق ولا التزويق، إنما أقص الواقعة كما وقعت: أخذنا الأعداء على غرة، كانت أجنادهم في ذلك النهار عديدة، وكانوا لوفرتهم وتراصهم هدفاً لطلقات من بنادقنا لا تخطيء ولا تطيش. أخذتنا نشوة الإمعان في التقتيل، وعلى الأخص حين رأينا طرائدنا تتلوى وتتساقط. كنا نسرف في إطلاق الرصاص ونرمى رمى الواثق المطئمن، ولكني فطنت إلى نفاد ذخيرتى، وكانت صناديق الذخيرة يحملها إلينا في متاريسنا فتيان كتموا حماستهم من شدة سرورهم بالقتال والنصر. أخذت الشمس تزول وتنحدر، ولم أفطن إلى عطش أو جوع، وإنما فطنت إلى نفاد ذخيرتي، ولما التفت إلى زميل كان إلى جانبي لأستعير منه طلقات لبندقيتي، لقيته في حالة من التوتر والانفعال يعبر عنها بزغردات الظافر الناجي، ولكن نشوة الظفر تلك لم تطل إذ افتقد جعبة (الخرطوش) فإذا بجيوبه فارغة، فالتفت يطلب النجدة منى، ولم نلبث أن سمعنا خطوات إخواننا تقترب منا تطلب قذائف.
أنى لنا بذخيرة لا نعرف لها مستودعاً غير أكتافنا والصناديق ملقاة على الأرض فارغة أمامنا؟ أجمعنا على الإفلات من العدو الذي أدرك نفاد عتادنا فأخذ يتقدم بل يسرع في الدنو منا.
عمدنا إلى خيولنا، وكانت مربوطة في غيضة تبعد قليلا عن ميدان المعركة، وما كدنا نقطع بها البقعة الكثيفة الأشجار حتى تبين أن أسراباً من جند الأعداء تسرع من ناحيتين لتطويقنا. أطلقنا الأعنة لأفراسنا التي استثارتها صيحاتنا لننجو من الرصاص المصوب إلينا من الجانبين ومن الخلف وكان يتساقط علينا كالبرد.
ليس من المغالاة في شيء أن أقول لكم يا إخواني إن الخيول تنخو ككرام الرجال، وتنتشي إذا انتصرت كطبائع الناس. إن أنس لا أنس كيف كنت أتشبث بعرف فرسي كالطفل، وكيف ألصقت صدري بالسرج، تاركا لها العنان، وكيف تمهلت ثم التفتت، ثم أطلقت صهيلا تتحدى به اللاحقين بنا، وتندد بعجزهم عن إدراكنا، وأخذت تمشى الهوينا متبخترة كالغادة الهيفاء.
زال عنا خطر إحداق أعدائنا بنا، وأخذنا نفكر أين نبيت وماذا نأكل. قال أحدنا يمازحنا، ننام حيث تنام خيولنا، ولكن هل في وسعنا أن نأكل من زادها؟!
نبه مزاح صاحبنا معدنا فأخذنا نتلمسها، وبينما نحن نلاطف معدنا الخاوية، وإذ بأزيز طيارة يملأ الفضاء. نسينا الجوع كما نسيتنا معدنا، وفى هنيهة وجيزة، وبدافع من حب البقاء عمدنا إلى خيولنا؛ فأنمناها على جوانبها متباعدات، وانبطحنا بعيدين قليلاً عنها.
عجباً لتلك الأفراس كيف أدركت الخطر الداهم فاستنامت كأنها خائفة مثلنا، وكأن حب البقاء كان رائدها أيضا!
أخذت الطيارة تهبط كأنها فوقنا وتحوم حولنا. لقد كشفنا قائدها الخبيث، رأيتها ترتفع، ثم سمعت بأذني سكوت محركاتها، وسمعت أيضاً أزيز القنبلة في سقوطها وقد أدركت هدفها.
نزلت النازلة ورأيتها رأي العين تسقط على قيد أمتار منى، أحسست أنا الذي ما آمنت قط بغير قدرة الإنسان، أن كل ذرة من وجودي تهتف بقوة وضراعة تستنجد بخالق الإنسان، وقدرت أنى ورفاقي من الموت على طرفة عين.
انقضت الثواني والدقائق. لقد تفكك في غضونها كل عضو في مفاصلي إلا ذهني فقد بقى في يقظة يرتقب الموت المحتوم حين انفجار القنبلة. . .
القنبلة لم تنفجر! لم تنفجر القنبلة لأنها صادفت أرضاً رطبة!
آه. . . يا للأسف!! صرخة صرخها أحد المنصتين، وقد خرجت من أعماق صدره، وقد أتبعها بقوله: (والله لو انفجرت تلك القنبلة الخائبة وجرحت فرساً من أفراسكم لجزعت عليها، ولكن الله سلم)!!!
(يتبع)
حبيب الزحلاوي