مجلة الرسالة/العدد 653/مُثل عُليا في سيرة الرسول (ص)
→ ذو الجناحين | مجلة الرسالة - العدد 653 مُثل عُليا في سيرة الرسول (ص) [[مؤلف:|]] |
شراء المعاني من أسواق الرحمات ← |
بتاريخ: 07 - 01 - 1946 |
للأستاذ محمد محمد المدني
يحتفظ التاريخ لكثير من العباقرة والعظماء بسير مفصلة أو مجملة تطالع الناس منها مثلٌ تحتذي في العلم أو الشجاعة أو الصبر أو التضحية أو الإيثار أو التفاني أو نحو ذلك من خصال العظمة أو صفات الشرف. ولهذه المُثل تأثيرات في النفوس، وتوجيهات للقلوب، تتفاوت ويختلف مداها تبعاً لقيمها الخاصة، واختلاف مصادرها ومواردها، وتفاوت وجوه النظر إليها.
ولا يعرف التاريخ سيرة هي أزكى أصولاً، وأطيب فروعاً، وأدنى قطوفاً، وأحفل بالثمار، وأملأ بالمُثل العليا، وأكبر تأثيراً في النفوس، وأصبر على البحث والدرس، وأثبت على اختلاف النظر، وأبقى على وجه الزمان، من سيرة نبي الإسلام (محمد ﷺ):
فصول متلاحقة، وصفحات مشرقة، وصور رائعة، ومعان كلما زدتها نظراً تجلّت لك منها نواح متجددة تزيدك إيماناً، وتزيدك نوراً، وتفتح أمام عينيك آفاقاً واسعة لا يكاد ينتهي مداها. ولم يكن ذلك لأن (محمداً) ﷺ (عظيم) أو (عبقري) فما كانت العظمة ولا العبقرية من الصفات التي يحدّد بها فضل الله على نبي اصطفاه وصنعه على عينه، ورعاه وربّاه، وأدّبه فأحسن تأديبه، وأكرمه برسالته، وأمده بوحيه، وإنما كان ذلك لأن (محمداً) رسول الله فحسب، والله أعلم حيث يجعل رسالته.
من بين المثل الكثيرة التي تطالعنا من خلال السيرة المحمدية الطاهرة ثلاثة مثل يقف المرء أمامها معجباً بها مأخوذاً بعظمتها وجلالها كما يقف الناظر أمام صورة رائعة ذات معنى قد أحتفل بها رسامُها وأودعها فنه وذوقه وما وهبه الله من قدرة على الإبداع والإتقان، ثلاثة مُثُل يصوَّر كلُّ واحد منهما أسمى ما يتصوره البشر من الكمال، وأنبل ما يتطلع إليه الناس من النبل، ولا أذكر أني مررت بمثل منها إلا وقفت عنده وقفة تطول أو تقصر، ولكنها تهز قلبي هزاً، وتحلَّق بي في جو من الصفاء الروحي، والنعيم الفكري، لا أحسبني قادراً على وصفه.
وإليكم أيها القراء الكرام هذا المثل الثلاثة: 1 - هذا يوم من أيام رسول الله ﷺ قضاه (بالطائف) تلك البقعة الخصبة الغنية بكرومها وبساتينها وفاكهتها الكثيرة: جاء إلى هذه البلدة، وقد احتوته مكة، وضاقت عليه بما رحبت، ولم يألُه المشركون فيها إيذاء واضطهاداً، وقد مات نصيراه: أبو طالب وخديجة، وتجرّأ عليه بعدهما من لم يكن يتجرّأ عليه في حياتهما. جاء إلى هذه البلدة وحيداً فريداً يلتمس النصرة من ثقيف لدينه ودعوته، ويستعين بهم على أهل مكة الذين أذاقوه وأصحابه الويل بضع سنين. يا لجلال الإيمان! ويا لحرارة الإخلاص! رجل واحد يقدم على بلدة لا يعرفه فيها أحد، ولا يؤمن بدعوته أحد، وهو حلف ضنى، ونضو أذى، وموضع اضطهاد من قومه وإعنات، وقد سارت بذكرى مساءا تهم إليه الركبان، ولكنه مع ذلك يقدم على هذه البلدة مستهيناً بما في ذلك الإقدام من أخطار، لأنه قد فني في دعوته، وأخلص نفسه لربه، فلم يعد يثنيه خطر، ولا يرهبه غرر! فكيف استقبلته (الطائف)؟ كيف استقبلته هذه البلدة الطيبة ذات الجو الهادئ الصافي، الذي من شأنه أن يهذب النفوس، ويعطف القلوب، ويثير نوازع الكرم وبواعث النخوة والنجدة؟ كيف استقبلت هذا الداعي الكريم الذي تتفجر من لسانه الحكمة، وتبدو على قسمات وجهه علائم الصدق والإخلاص؟
لقد (عمد إلى نفر من ثقيف هم يومئذ سادتها وأشرافها، وهم أخوة ثلاثة، فجلس إليهم ودعاهم إلى الله، وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال له أحدهم: أنا أمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك! وقال الآخر: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك؟ وقال الثالث: والله لا أكلمك أبداً؟ لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك! فقام رسول الله ﷺ من عندهم وقد يئس من خيرهم).
وتمثل، عليه السلام، قومه، وقد علموا برد ثقيف إياه، فكره ما يكون من شماتتهم به وانبعاثهم في إيذائه، فقال للذين ردوه: أما إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني. ولكنهم (أغروا به سفهائهم وعبيدهم يسبّونه ويصيحون به حتى اجتمع عليهم الناس، فكان يمشي بين سماطين منهم، فكلما نقل قدماً رجموا عراقيبه بالحجارة حتى اختضب نعلاه بالدماء، فإذا أذلقته، الحجارة قعد إلى الأرض فيأخذون بعضديه فيقيمونه فإذا مشى رجموه وهم يضحكون. . . وألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة، فكلما انصرف عنه من كان يتبعه من السفهاء اتجه ببصره إلى السماء ودعا ربه قائلاً: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس! يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي! إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي! ولكن عافيتك أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سخطك! لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك!).
شكا إلى ربه ضعف قوته وقلة حيلته وهوانه على الناس، لا تبرّماً بما لقي، ولا تهرّباً مما حمل ولكنه يريد للدعوة نجاحاً عاجلاً، ونصراً سريعاً، ويرى الناس وقد تنكروا لها في شخصه فامنعوا بها تنكيلًا وحرباً لا فرق في ذلك بين المشركين في شعاب مكة، والمشركين في سهول الطائف، فكأنما تواصى الجميع على وأد هذه الدعوة والحيلولة بينها وبين الحياة، ولذلك قال: إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ فإلقاء هذا المعنى في روع النبي ﷺ، وإجراؤه على لسانه في دعائه لربه كان إيذاناً بأن أمر الدعوة سيتجه بعد اليوم وجهة أخرى، وسيهيئ الله له من القلوب المستعدة ما يكون كفيلاً بتقدمه ونجاحه، وهذه سنة الله في خلقه: أن يأتي الفرج بعد الشدة، والنور بعد الظلمة. وقد كان ذلك فعلاً فلم يطل الأمر بدعوة الإسلام حتى هيأ الله لها قلوب الأنصار في يثرب، واستبدل بالمعاندين المصرّين قوماً آخرين.
وما أعظم هذه الكلمة الطيبة التي يقولها (محمد) لربه في مناجاته إياه (إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي!) تلك مرتبة الرضا والفناء في الحب، والاستهانة بكل ما سواه من أهوال الدنيا.
هذا مثل التضحية، والإخلاص للفكرة، والإقدام في سبيلها على الخطر، والفناء وإنكار الذات!
2 - ومثل آخر يضربه للمؤمنين (محمد) صلوات الله وسلامه عليه، هو مثل السياسة الرشيدة الحكيمة، المستندة إلى المحبة، القائمة على الإخلاص:
لما أعطى رسول الله ﷺ المؤلفة قلوبهم عطاياه السمحة وكان فيهم من قومه أبو سفيان وأبنه معاوية وغيرهما ممن أسلموا بعد فتح مكة، وجد الأنصار بعض الشيء من ذلك، وضاقت له صدورهم، وكأنهم نظروا إلى هؤلاء الذين كانوا بالأمس أعداءهم، والذين أذاقوا رسول الله وأذاقوهم ألوان العذاب وقد أصبحوا فيما يوم وليلة يتمتعون بهذا العطف النبوي الكريم حتى ليزيد حظهم عند القسم على حظوظ السابقين من المؤمنين، فلم تتضح عندهم الحكمة في هذا الصنيع، ومشى بعضهم إلى بعض يتهامسون ويتساءلون، وقال قائل منهم لصاحبه (لقد لقي رسول الله قومه!) يريد أن عاطفته لقومه وعشيرته قد غلبته حتى أنسته سابقة الأنصار، وفضل الأنصار.
كان من الممكن أن تستشري هذه الموجدة في نفوس الأنصار، وكان من الممكن أن تغذيها الطبيعة البشرية بغذائها حتى يستفحل داؤها، وكان من الممكن - على الزمن - أن تمرض هذه القلوب الصافية المؤمنة التي تلقت الإسلام غضاً فتعهدته حتى نما وترعرع وأظهره الله وأتم به النعمة. كان من الممكن أن يكون ذلك كله لو كان أحد ما مكان (محمد) ولو كانت بيئة ما غير بيئة الإيمان والحب والثقة. ولكن الله ألهم سعد بن عبادة الأنصاري أن يبلغ النبي ﷺ قالة الأنصار، فلما سمعها بادر بجمعهم وقال لهم: يا معشر الأنصار. ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضُلاَّلاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألّف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى. الله ورسوله أمنُّ وأفضل. قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك؟ لله ولرسوله المنُّ والفضل! قال: أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصُدِّقتم: أتيتنا مكذباً فصدَّقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في لُعَاعة من الدنيا تألّفتُ بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟! فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار. ولو سلكت الناس شِعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار. اللهم أرحم الأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار!
فلما انتهى رسول الله ﷺ من كلمته تأثر بها الأنصار حتى بكوا وقالوا: رضينا برسول الله قِسما وحظاً؟
هذه هي السياسة الرشيدة التي تستل ما في النفوس من موجدة، وتتلافى بوادر الشر فتحسمه قبل أن يتفاقم. وإن هذا الكلام الذي ألقاه النبي في الأنصار ليحتاج إلى عالم قدير من علماء النفس ليبين لنا مدى انطباقه على الأسلوب العلمي الحديث لطب النفوس.
3 - والمثل الثالث - وياله من مثل - هو آية العدل والتسوية وعدم المحاباة، وإيثار الله على كلُّ ما سواه: ذلك أن أبا طالب عم النبي ﷺ وكافله وناصره ومجيره من أعدائه، على الخلاف بينهما في الدين، لما مات، كأن المسلمين ترقبوا أن يستغفر له الرسول وأن يؤذن لهم في أن يستغفروا له، إعظاماً لشأن أبي طالب، ووفاء لصنيعه مع النبي وتسلية لأبنائه وقرابته وفيهم عليّ، وكأن رسول الله ﷺ، قد هم بذلك أو فعله فنزل قوله تعالى (ما كان للنبي والذين آمنوا معه أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم، وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعده وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه إنّ إبراهيم لأواه حليم).
بذلك وضع الأمر في نصابه، وتبين للمؤمنين أن لا محاباة ولا قرابة ولا صهر أمام الحق، وأن العلاقة الوحيدة التي تجب رعايتها والاعتداد بها هي علاقة الإيمان فحسب.
ولقد كان هذا الأمر كافياً لزلزلة النفوس في هذه البيئة العربية التي تعنى بالقرابات، وتهتم بالعصبيات، ولا سيما في شأن أبي طالب شيخ قريش، وأبى عليّ، وأخي العباس، وعم محمد، ولكن القوم قبل كلُّ شيء مؤمنون قد امتلأت نفوسهم بحب الله، فما على الرسول إلا البلاغ، وما عليهمإلا الرضا والامتثال!
من لنا بأن نجتلي هذه المُثل العليا وأمثالها في سيرة نبينا محمد ﷺ، لتكون لنا نوراً وهدى في هذه الظلمات التي يتخبط فيها الناس.
اللهم إنا نسألك التوفيق.
محمد محمد المدني
المدرس بكلية الشريعة