مجلة الرسالة/العدد 653/ذو الجناحين
→ درس في التفسير على طريقة التصوير | مجلة الرسالة - العدد 653 ذو الجناحين [[مؤلف:|]] |
مُثل عُليا في سيرة الرسول (ص) ← |
بتاريخ: 07 - 01 - 1946 |
للأستاذ محمود الخفيف
(إلى كلُّ مؤمن تهون عليه روحه في سبيل الله)
لذكرى شهادته أطرب ... وإني بها الساجع المطرب
ألوذُ بها في سواد الخطوب ... فيؤنس روحيَ ومض لها
كما يؤنس المدلجَ الكوكب
كمىٌّ أبُوَّته هاشم ... يشع الهدى وجهه الباسم
إذا الهول ضجت به حومة ... فكالسهم وثبته في الصفوف
وكالسيف عزم له صارم
أخوه عليٌّ إمام الهدى ... وخير السيوف غداة الفدا
شبيه به جعفر في حجاه ... ويشبهه إذ يهز الحسام
لضرب وإذ يتحدى الردى
أتى الروم آلافهم تزحف ... بمؤتة واد بهم يرجف
تضيق الأباطح عن سيلهم ... فلا العين أولَهم تستبين
ولا الوهم آخرهم يعرف
خضم ترامى بهم زاخر ... يغطى الضحى نَقْعُهُ الثائر
إذا أحصت العين آلافَهُم ... رأت حولها مائة أو تزيد
يَعِجُّ بهم مَوجُه الحادِرُ
دخان هناك ونقع هنا ... وبرْق لهم يبرق الأعْيُنا
وخيل تحمحم مهتاجة ... وَبِيضٌ يَظلَّلُ إيماضها
مُثارُ الغُبار وسُمرُ القنا
دَنَت من مُخيَّم جند العرب ... جياد من الروم رُعْنُ الخبب
جياد تلألأ ديباجها ... فوارسها يلبسون الحديد
على سُرُجٍ وُشِّيَتْ بالذِّهبْ
تداعوا إلى الضرب إذ أحدقوا ... بِجَمع يكاد بهم يُغرَقُ بجيش من البيد لم يدَّرع=بغير اليقين ولا رَاعَهُ
نُضَارٌ يَرَاهُ وإستِبْرقُ
قليل العديد ضئيل الخطر ... وما في الصحاري له من وزر
عجاف من الجوع خيل لهم ... مئات ثلاثون قد هدَّهم
على قلة الزاد طول السفر
قليل ولكنهم في اللقا ... كثير إذا اضطرم الملتقى
شداد وإن لم يجروا الحديد ... خفاف إلى الموت إن أقبلوا
ثقال إذا دخلوا مأزقا
تأمَّر زيد وأعلى اللَّواَء ... أميرْ من السيف أقوى مضاء
له البدء حتى إذا ما هوى ... فجعفر للجيش بعدُ الأمير
يعيد اللقاء ويحيى الرجاء
مشى بهم الفارس الأروع ... له الجيش من كَفِّهِ أطوع
هم المؤمنون الذين اشتروا ... بأرواحهم جنة مالهم
وراء الخلود بها مطمع
تداعى الرجال فسوَّى الصفوفا ... وشدَّ بهم ليخوضوا الحتوفا
فكاثره الروم إذا غاظهم ... من القلة البارزين لهم
حفاظ به يدفعون الألوفا
وراحت بهم ترجف الراجفة ... رُعُودُ المنَايا بها قاصفة
وخَفُّوا يبيعون أرواحهم ... فكم زلزلوا من صفوف العدو
وكم حَسروا لُجَّة جارفهْ
وسارَ ابنُ حارثةٍ مُعْجَلاَ ... فكان الشَّهيدَ بها الأوَّلا
ألحتْ عليهِ غلاظ السُّيوفِ ... وكم وثْبَةٍ هدَّها سيْفُهُ
وحيداً، وكمْ فَارسٍ جنْدَلا
وأقدمَ من بعده جعفرُ ... غَضُوباً كما وثبَ القَسْوَرُ
تلاطمَ موْجُ الرَّدى حوْلهُ ... وُجنَّ جنونُ الوغَى إذ جرَى على الأرضِ ذائِبُها الأحمرُ
وقلَّتْ بها القِلَّةُ الصابرة ... رَحى الموْتِ جدَّت بهم دائره
على الأرض من حولهم ظلمة ... غبار ورعد وبرق هنا
ومن ها هنا كرَّةٌ سافرة
وخاض الوغى الفارس المُعْلَمُ ... يسربله - نقعها والدم
بيمناهُ رايتها جعفرٌ ... يثور به عِرقُهُ الهاشميُّ
كما نَفِرَ القَسْوَرُ الضَّيْغَم
تحدَّى الحتوفَ وأهوالها ... وقد هاجت الحرب أبطالها
وما زُلزلَ القِلةُ المؤمنونَ ... وإن غصَّ بالأكثرين الفضاء
وزلزلتِ الأرضُ زلزَالها
تنقَّل في حرَّها جاهداً ... صبوراً لِلأَوائها صامدا
إلى أنْ تصَدَّى له فاتكٌ ... فأهوى على يده ضارباً
بِسيفٍ أطنَّ بهِ السَّاعِدا
تماسكَ للخطب لم يجزعِ ... وكرَّ الكمِيُّ ولم يرجعِ
بيسراه رايته، واليمين ... على الأرض ساعدها فِلْذَةٌ
تموت، من البطل الأرْوَعِ
وظلتْ بقيَّتها نازفةْ ... وقد صخبت حوله العاصفة
فلله وثبته إذ يفورُ ... دم قد سقى الأرض منه
ومن كَثبٍ كثرةٌ زاحفة
مضى مُنْهكاً يتلقى الرماحا ... وصمم ليس يخاف اجتياحا
تراه ورايته في الشمال ... كنسر يَجر الجناحَ المهيضَ
ويرفع كما يطير جناحا
وفتيان صدقٍ مضوا حوله ... وقد رقَّ كل فؤادٍ له
يذودون عن بطل نازفٍ ... يقل المثيل له في الرجال
وما فاقة فارس قبله جليدٌ مع النزف لا يستطارُ ... وفي وجهه للحمام اصفرارُ
تسلَّلَ حتى دنا دارعٌ ... فما زال يضرب حتى هَوت
من الليث بعد اليمين اليسار
فهلْ فزعَ الحرُّ واستسلما ... ولم تُبقِ منه السيوف دما؟
تقدم محتضناً ممسكاً ... بزنديه رايته في الصفوف
وظل الكميَّ بها المعلما
ترنح مما به الفارسُ ... وما وهنَ الأسدُ العابسُ
وظلَّ على صهواتِ الخطوب ... يلاقي الرَّدى فِلذةً فِلذةً
وما قلَّ عزمٌ له هاجسُ
وأسلم مهجته للظُّبا ... كؤوسَ المنيَّة مُستعذبا
فيا هول مصرعه والسيوف ... تهاوى على جسمه القَسوريِّ
وما يملك الليث أن يضربا
تكلم مُرتجزاً مُنشداً ... (لدين الهدى قلَّ منى الفدا
ألا خسئ الكفر والكافرون ... جزائي غداً جنة المتقين
وأعظم بجَنَّتِهم موردا)
تبسَّمَ للموت إذ أغمضا ... على وجهه لمحات الرضا
فتى بات للمجد أنشودة ... إذا ذَكَرَ المؤمنون الفداء
على الدهر ذكرٌ له أوْ مضا
تقشَّع من فوقه العِثْيَرُ ... وآماق أصحابه تُمْطِرُ
جراح ثمانون في جسمه ... ومن عَضُدَيه نجيعٌ يسيل
ومن عاتقيه دم يقطر
بقيَّة ليثٍ رَدَاه استبقْ ... وجسمٌ بتلك الفيافي مِزَقْ
تجاوز في البأس جهد الخيال ... وأبلى بَلاََء امرئ صادق
وأين له الند فيما صدق
نَعَاهُ النبيُّ وفي قلبه ... بكاءٌ عليه وبشر به وصلى عليه الرسول الكريم ... وقال وفي مقلتيه الدموع
لمن علم الرزء من صحبه:
(هنيئاً له نفسه الراضية ... بجنات عدن غدت ثاوية
سيبدلك الله بالساعدين ... جناحين يا ابن أبي طالب
فتسبح في الجنة العالية)
وزاد الرسول: (كأني أرى ... هناك الشهيد الفتى النيَّرا
ففي جنة الخلد رهط يطير ... ملائكة بينهم جعفر
يهز الجناحين مستبشرا)
شهيد فؤادي له يطرب ... وأني به الشاعر المطرب
أُجَدِّدُ ذكراه مُستوحياً ... فيملأ قلبي وحيٌ لها
يضيء كما بزغ الكوكب
الخفيف