مجلة الرسالة/العدد 653/التيارات الفكرية العالمية والأزهر
→ من وراء حجاب | مجلة الرسالة - العدد 653 التيارات الفكرية العالمية والأزهر [[مؤلف:|]] |
درس في التفسير على طريقة التصوير ← |
بتاريخ: 07 - 01 - 1946 |
للأستاذ محمد فريد وجدي
كتب الله للجامعة الأزهرية أن تكون مثابة علمية للعالم الإسلامي كله، تشدّ إليها الرحال من جميع أقطار الأرض لتستمد الشعوب الإسلامية من ينبوعها النمير علماً وحكمة؛ وهي مكانة تجب المحافظة عليها مهما كلفتنا من الأموال والجهود. وأنت ترى أن الأمم تتنافس في سبيل نشر ثقافتها في بقاع الأرض منفقة في هذا السبيل مالاً جماً لا يعود عليها من ورائه في الظاهر شيء غير علاقات أدبية، ولكن هذه الأمم التي تعرف كيف تستفيد الثروة والمجد.
حرص المسلمون بدافع قوي من دينهم من لدن أن قامت لهم دولة، على أن يكون قوامها العلم والحكمة، فقرب ولاة أمورهم العلماء، ومكنوهم من تقوية بناء جماعتهم، وأمدوهم بكل الوسائل الممكنة لإقامة الجامعات، وتأسيس المكتبات، وترجمة المؤلفات؛ فكان طلاب العلم يجدون بين أيديهم من المدرسين والكتب ما لا يحتاجون معه إلى المزيد. وكان مما حرص عليه أولئك المدرسون ليحفظوا للإسلام سلطانه على العقول، أن يجمعوا كلُّ ما وجهه الملاحدة والمضللون إلى العقائد من تشكيكات وشبهات، وأن ينقدوها نقداً تحليلياً لا يدع في قلوب الطلاب حاجة للمزيد على قدر ما سمحت معارفهم به من تلك الأزمان.
ونحن اليوم في القرن العشرين، وقد تطورت فيه العقلية الإنسانية بتطور المعارف، وتعاقب الحوادث، تطوراً بعيد المدى بحيث ما كان يقنعها من العلم والحكمة قبل قرنين أو ثلاثة قرون لا ينقع لها غلة اليوم. فقد حدثت فيها أحداث اجتماعية، وتعارضت فيها مصالح طائفية، وتناقضت أساليب اقتصادية، وتصادمت عقائد دينية، وتفجرت بين كلُّ هذه المجريات المتعاكسة، ينابيع لنظريات جديدة لم يكن للعالم عهد بها، وقد تناولتها الفلسفة الأوربية شرحاً ونقداً، وتصويباً ودحضاً، ولا تزال الخصومات المذهبية قائمة إلى اليوم. وقد تسربت إلينا تيارات هذه المنازعات الفكرية، وأخذت في التأثير علينا كما أثرت على سوانا، ولكن مع هذا الفارق العظيم، وهو أنها تعتبر أهم مواضيع الحوار عندهم، ومسدول عليها حجب الكتمان عندنا، ولكنها مع هذا الكتمان الشديد تعمل عملها في الخفاء فتوجه النفوس وجهات شتى، ولا تجد النفوس الحيرى ما يستقر بها على قرار علمي مكين.
تعذر إن خبطت في دياجيها خبط العشواء، وقمشت حشواً رثاً من النظريات من هنا وهناك، ولا يجعل لها مذهباً مقرراً تعمل عليه، ولا غاية معينة تسعى لتحقيقها؟
جاء الإسلام ليؤسس ديناً للبشرية يستوعب الأديان عامة، ومجتمعاً عالمياً يسع الناس كافة، ووضع لذلك أصولاً أولية، وقرر له مبادئ كلية، وانطلق الآخذون الأولون به يحققون أغراضه هذه، فجالوا في أكناف الأرض نحو ثمانين سنة نشروا لواءه فيها على نحو ربع الكرة الأرضية، وأبلغوا دعوتهم إلى من لم يصلوا إليهم، وثبتوا في مواقفهم ثبات الرواسي، مستعينين على ذلك باقتباس كلُّ ما صادفوه من خير لدى من احتكوا بهم من الشعوب. ونحن اليوم ننزع لا إلى مثل ما عملوا، فهذا ما لا سبيل إليه، ولكن إلى الاحتفاظ بما حصلوا، فكيف يكون ذلك بغير اتباع السنة التي جروا عليها؟
أنهم كما قلنا عملوا على حفظ العقيدة الإسلامية، والدفاع عن طريقتهم الاجتماعية، بكل ما أوتوه من نشاط في العقل، وسعة في الصدر، حتى إنهم لم يتورعوا عن نقل الكفر الصراح والرد عليه، وأباحوا في سبيل الوصول إلى لباب المعارف، أن يتعلم المسلمون كلُّ ما يمكن تعلمه حتى السحر مع تحريمهم العمل به؛ فهل نضن نحن بأنفسنا على ما لم يضنوا بنفوسهم عليه، فنظل على أسلوبنا في تجاهل المؤثرات التي تنصب علينا حتى تزداد تغلغلاً في قلوب نابتتنا، وتسوقهم إلى الخروج عن حظيرتنا، قانعين بأن ما ينشر من إبطال فعلها في الجرائد والمجلات يكفي لدرء شرها عن العقول؟
إن الأزهر الذي أرادت العناية الإلهية أن تجعله مثابة علمية للمسلمين لا يزال يعنى بالمؤلفات نفسها التي كان يعنى بها آباؤنا الأولون لحياطة الدين من شبهات المشككين، ومذاهب المضللين؛ ولكن أين ما كان عليه المتكلمون في ذلك العهد مما عليه خلفاؤهم اليوم؟ وماذا كنت قائلاً حين تعلم أن أكثر ما يعنى به الأزهر من دفع الشبهات والاستنكارات قد أنقرض أهله منذ قرون، وحلت محلها مذاهب ونظريات تحتاج للفهم الدقيق، ويحتاج دحضها أو تعديلها للنظر البعيد، والعلم الغزير؟
كان آباؤنا الأولون يعنون بعلم الكلام لمجرد دحض الشبهات عن الدين، ونحن نطالب بوجوب تقرير دراسة التيارات الفكرية العالمية في الأزهر لا لهذه الغاية فحسب، ولكن لمقصد لا يقل عنها قيمة، وهو لما لدراسة هذه التيارات الفكرية من الأثر العظيم في رفع مستوى النظر والتفكير، وتوسيع مجال الفهم للشؤون الإنسانية، وهو ما يجب أن يكون عليه رجال الدين الذي جعل العلم أساسه الركين.
إن مهمة الإسلام لم تنته بعد، وإن ما علينا وعلى الأجيال الآتية أن نعمله يحتاج لتفكير طويل، وجهد عظيم. فإذا كان آباؤنا قد قاموا بما استطاعوا أن يعملوه في سبيله في طفولة البشرية، فعلينا له واجب خطير في عهد العلم والفلسفة الطبيعية، ولا سبيل لنا إلى القيام بهذا الواجب ونحن في غفلة عما ينشأ في العالم من آراء، وما يعترك فيه من مبادئ وأصول، وما يسقط ويقوم من مذاهب ونظريات.
محمد فريد وجدي