مجلة الرسالة/العدد 644/نكبة فلسطين
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 644 نكبة فلسطين [[مؤلف:|]] |
من محاسن التشريع الإسلامي ← |
بتاريخ: 05 - 11 - 1945 |
في أيدي العرب سلاح ماض
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
نكبت السياسة البريطانية فلسطين على الخصوص، وبلاد العرب على العموم بوعد بلفور في إبان الحرب العالمية الماضية، ولم تحفل بالعهود والمواثيق التي أعطتها للمرحوم الملك حسين. وما كانت ثورة الملك حسين رحمه الله لتحرير الحجاز وحده، ولو أن هذا كان كل ما يبغي، لاكتفى بحصار الحامية التركية في المدينة، ولما كانت به حاجة إلى تسيير جيش كبير بقيادة ابنه الأمير فيصل (الملك فيصل فيما بعد) لم يزل يسير من نصر إلى نصر حتى دخل دمشق.
وقد ظهر من الصور الشمسية للمكاتبات التي تبودلت بين الملك حسين والسير هنري مكماهون المندوب السامي يومئذ في مَصر - وقد وزعتها وزارة الخارجية البريطانية على الوفود العربية في مؤتمر لندن الذي عقد في سنة 1938 من أجل فلسطين، أن الملك حسين طالب باستقلال العرب في سورية ولبنان وفلسطين والعراق وشبه جزيرة العرب، وقد أجيب إلى ما طلب، في تحرز كان المراد منه إرضاء مطامع فرنسا في لبنان ليس إلا، أما فلسطين فلم يرد عليها أي تحفظ، ومع ذلك لم تحجم السياسة البريطانية عن وعد بلفور المشهور! ثم جاء الانتداب البريطاني على فلسطين في أعقاب الحرب مباشرة، فأبى الملك حسين كل الإباء أن يعترف به، فكان هذا من أسباب تغيّر القلوب عليه في بريطانيا.
على أن وعد بلفور، على ما فيه من نكث بالعهود، ليس فيه أكثر من إقامة وطن قومي للصهيونية (في) فلسطين. ولم يكن مقصوداً به قط أن يجعل فلسطين كلها وطناً قومياً للصهيونية. وغير أن الصهيونيين الذين حاولوا أن يدركوا غايتهم في العهد العثماني وأخفقوا، أرادوا أن يكون وعد بلفور خطوة أولى في سبيل الغاية التي كان يضمرونها، وهي اجتياح فلسطين والاستئثار بها دون العرب، ولو أن كل ما يبغون هو إنشاء الوطن القومي لقنعوا بما تم لهم من سنوات، فقد أنشئ الوطن القومي، وانتهى الأمر، ولكنهم أبوا أن يقنعوا عند هذا الحد، فجاءوا بالمهاجرين سراً وعلانية، وراحوا يتوسعون في شراء الأراضي ويخرجون منها العرب، فثار العرب ثورتهم المشهورتين حتى كانت سنة 1938 فدعت بريطانيا إلى عقد مؤتمر مزدوج - أو مؤتمر على الأصح، واحد بينها وبين ممثلي فلسطين والعراق والدولة السعودية ومصر، وآخر بينها وبين ممثلي الصهيونيين. وعقد المؤتمران في وقت واحد ولكن في مكانين مختلفين. وحاول ممثلو بريطانيا في هذا المؤتمر أن يهتدوا إلى وسيلة للتوفيق بين الفريقين وإيجاد قاعدة للتعاون، فتعذر ذلك، فرأت بريطانيا أن تصدر كتاباً أبيض مبيناً لسياستها، وكان من قواعد هذه السياسة تحديد الهجرة الصهيونية في خمس سنوات، بحيث لا يتجاوز عدد اليهود في فلسطين ثلث السكان جميعاً أي نصف عدد العرب، وأن يخطر بيع الأراضي في مناطق، ويباح في مناطق، ويجوز في مناطق أخرى بإذن من المندوب السامي. ورأى العرب أن في هذا بعض دواعي الاطمئنان فتقبلوا هذه السياسة الوقتية إلى أن يتسنى الفصل في القضية على وجه حاسم. ثم كانت الحرب، فأخلد العرب إلى السكينة حتى تضع أوزارها.
ولكن الصهيونيين لا يسكنون ولا يكفون عن السعي، لأن لهم غاية أبعد من مجرد الوطن القومي الذي فازوا به، وهي أن يستولوا على فلسطين كلها ويخرجوا العرب منها، ويقيموا لأنفسهم فيها دولة. وحتى هذه ليست إلا خطوة ثانية في سبيل غرض أكبر وأعظم، فقد صرح مندوبوهم في المؤتمر الصهيوني الذي عقدوه منذ بضعة شهور في لندن، بأن الشرق الأوسط كله (مجال حيوي لهم) كما كان هتلر يقول إن شرقي أوربة وجنوبها الشرقي (مجال حيوي) للرايخ الثالث.
فالبلاد العربية كلها - لا فلسطين بمجردها - مهددة بالاجتياح والاستعباد والاقتصاد والسياسي إذا نجح الصهيونيون في إقامة دولة لهم. ومن هنا كان إجماع البلاد العربية على الحيلولة دون قيام هذه الدولة، دفاعاً واجباً عن الذات.
ولسنا ندري هل اليهود جميعاً صهيونيون، أو أن الصهيونيين جماعة منهم ليس إلا كما يزعم البعض، وإنما الذي ندريه أن الصهيونيين يملكون كل وسائل الدعاية، وإذا كان هناك يهود غير صهيونيين فإننا لا نكاد نسمع لهم صوتاً، على أن هذا التمييز لا قيمة له، والمهم أن الصهيونية قد استطاعت أن تحمل رئيس جمهورية الولايات المتحدة على مناصرتها، فطلب من بريطانيا أن تأذن في الهجرة لمائة ألف يهودي في ألمانيا، كان أكثر من مائة مليون في أوربة يعانون الفاقة والمرض لا يستحقون مثل هذا العطف. ثم إن المهم أن بريطانيا حائرة بين إرضاء أمريكا وإرضاء العرب، وهي لا تستغني عن أمريكا، ولا يوافقها أن تغضب العرب عليها، فإن بها حاجة إلى أسواقهم وبها حاجة إلى معونتهم إذ تأزمت الأمور وفسد ما بينها وبين روسيا. ثم هي تسعى للاقتراض من أمريكا لتفرج ما هي فيه من أزمة مستحكمة، وتود أن تضمن عونها أيضاً حيال روسيا.
وهذه حيرة لا تبعث على الاطمئنان، فيحسن بالعرب أن يتولوا بأنفسهم جميع أمرهم، وأن لا يعولوا في إحباط مساعي الصهيونية على أحد غيرهم، فإذا أنصفتهم بريطانيا فبها، وإلا مضوا في سبيلهم حتى يقضي الله بينهم وبين الصهيونيين.
ودعوتي هي إلى المقاطعة التامة الجامعة المانعة لكل ما هو صهيوني، لا في فلسطين وحدها، بل في البلاد العربية جميعاً، فقد غزا الصهيونيون أسواقها بسلعهم مغتنمين فرصة الحرب وقلة الواردات من الغرب. وليكن العرب على يقين جازم بأن هذا سلاح ماض، وانهم إذا نجحوا في مقاطعة الصهيونية، ارتحل القوم عنهم مؤثرين العافية.
ولا سبيل إلى نجاح المقاطعة إلا بالتنظيم وحسن التدبير، فما تصلح الأمور فوضى. وأظن أن هذا سلاح تستطيع جامعة الدول العربية أن تشهره وتصيب به الصهيونية في مقاتلها دون أن تحتاج إلى سلاح سواه. ولن يلومها أحد فيه إذا هي استخدمته فإنه وسيلة سلمية للدفاع عن النفس، وله مزية أخرى هي أنه يعلم الأمم الغربية أن العرب ليسوا كما مهملا يقضي في أمرهم بغير رأيهم. والغرب يجيد فهم هذه اللغة - لغة المقاطعة - وهو أحرى بأن يكون أحسن فهماً لها بعد هذه الحرب التي هبطت بتجارته إلى الحضيض الأوهد، وتركته أشد ما يكون حاجة إلى أسواق الشرق الأوسط خاصة.
وثم وسائل أخرى كثيرة، ولكن هذه الوسيلة أول ما يجب البدء به، ونجاحها مكفول فلنتوكل على الله، فما زال صحيحاً أنه ما حك جلدك مثل ظفرك
إبراهيم عبد القادر المازني