مجلة الرسالة/العدد 644/من محاسن التشريع الإسلامي
→ نكبة فلسطين | مجلة الرسالة - العدد 644 من محاسن التشريع الإسلامي [[مؤلف:|]] |
في إرشاد الأريب ← |
بتاريخ: 05 - 11 - 1945 |
للأستاذ حسن أحمد الخطيب
للتشريع الإسلامي مزايا ومحاسن، جعلت شريعته أغنى الشرائع وأوفاها بحاجات الأفراد والجماعات، وأكفلها بتحقيق طمأنينة الأمم وسعادتها، وقوتها وعزتها، بل هي إذا اتبعت مع آداب الإسلام ووصاياه الأخرى كفيلة بتكوين أمة مثالية تجتمع فيها عناصر القوة والمنعة، والحياة الصالحة والمدنية الفاضلة، وتتهيأ لها أسباب التقدم والنهوض إلى أرفع المراتب وأعلى الدرجات، وبها تستحق خلافة الله في الأرض لتملأها عدلا وأمناً، وإحسانا ورحمة.
وليس في قدرتنا أن نحصي هذه المزايا لتنوعها وكثرتها، فحسبنا أن نذكر بعض محاسنها ليكون شاهد يكشف عما فيها من قوة الحياة، ونصوع العدالة، وسمو المبادئ، ونبل المقصد، وشرف الغاية، فنقول:
1 - موافقة أحكامه لمقتضى العقل
إن جميع أحكام الشرع الإسلامي جرت على مقتضى العقل، وجاءت وفق الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها قبل أن تفسدها الأهواء، وتطغي عليها الشهوات: فما نص عليه من الأحكام في الكتاب والسنة معقول المعنى، له حكم جليلة، وأسرار تشريعية سامية، حتى العبادات، لها في جملتها من الحكم والمنافع والآثار النفسية والتهذيبية والخلقية والاجتماعية، ما لا يمكن أن يخفي على ذوي العقول السليمة، ولا يضيرها أنها في بعض تفصيلاتها قد يخفي علينا وجه الحكمة فيها، فإن خفاءها لا ينفي وجودها، وقد تكون حكمته في العبادات اختبار قوة الإيمان في العبد، وامتحان طاعته وامتثاله لربه، وما لم ينص عليه، وهي الأحكام الاجتهادية المبنية على الرأي والقياس، ومراعاة المصالح، ودرء المفاسد - مصدر العقل وحرية الرأي التي لا تتقيد إلا بمراعاة العدالة، وإقرار الحقوق، وما ينبغي أن يراعي من أصول الاجتهاد الشرعي وقواعده.
فشريعة الإسلام شريعة العقل والفطرة، وليس فيها شيء يخالف القياس الصحيح، ولذا جاءت رحمة وحكمة، ومصلحة ونعمة، قال ابن قيم الجوزية في كتابه الطرق الحكمية:
(ما أثبت الله ورسوله قط حكما من الأحكام، يقطع ببطلان سنته حساً أو عقلا، فحاشا أحكامه - سبحانه - من ذلك، فإنه لا أحسن حكما منه سبحانه ولا أعدل، ولا يحكم حك يقول العقل ليته حكم بخلافه، بل أحكامه كلها مما شهد العقل والنظر بحسنها ووقوعها على أتم الوجوه وأحسنها، وأنه لا يصلح في موضوعها سواها)
2 - غايته تحقيق مصالح العباد
ومن محاسنه جعل غايته من التشريع تحقيق مصالح العباد في المعاش والمعاد، ودفع الضر والمفاسد عنهم، وتحقيق العدالة المطلقة، فما من حكم منصوص عليه، أو حكم اجتهادي إلا روعي فيه تحقيق هذه الغاية. قال ابن القيم في كتابه المذكور: (من له ذوق في الشريعة، واطلاع على كمالاتها، وأنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، وأنها جاءت بغاية العدل الذي يفصل بين الخلائق، وأنه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمنته من المصالح، وعرف أن السياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، وأن من له معرفة بمقاصدها، ووضعها مواضعها وحسن فهمه فيها - لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة).
وقال فيها أحد كبار الكتاب في هذا العصر: (الأمور الشرعية التي دونها الفقهاء المسلمون قبل نحو أحد عشر قرناً تبذ في عدالة أصولها وسمو مستواها واتفاقها مع الحق الطبيعي جميع القوانين الوضعية حتى التي سنت في القرن العشرين، ثم قال: إن من يتأمل في التشريع الذي استنبطه علماء المسلمين في الرق والأرقاء، وفي المرأة، وما يتعلق بها من حقوق طبيعية وروحية، وفي الأيتام والفقراء، وفي حقوق المحاربين والمعاهدين، والأجانب والذميين، وفي الشئون المدنية والجنائية، وفي العقوبات والتعزيز. . . من يتأمل في هذا كله يجد تفوقاً ظاهراً في التشريع الإسلامي على التشريع الأوربي في القرن العشرين).
ولا شك أن ذلك هو الجدير بشريعة جاءت مكملة لما كان في الشرائع قبلها من قصور أو نقص بعد أن استعدت أمم البشر لتلقي هذا الكمال، ونضجت لتقبل أسمى المبادئ وأشراف الغايات والمقاصد، وهو قُمن بشريعة عام جاءت لإصلاح البشر كافة بعد أن كانت كل شريعة قبلها خاصة بأمة معينة ومقصورة على زمن محدد: روى عن صاحب الشريعة محمد صلوات الله وسلامه عيه أنه قال: (مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى داراً فأكملها إلا موضع هذه لبنة، فكان من دخلها فنظر إليها فأعجب بها قال: ما أحسن هذه الدار إلا موضع هذه اللبنة، فأنا اللبنة، بي ختم الله الأنبياء والمرسلين) (البحث موصول)
حسن أحمد الخطيب