مجلة الرسالة/العدد 642/الحياة الأدبية في الحجاز
→ سجون بغداد | مجلة الرسالة - العدد 642 الحياة الأدبية في الحجاز [[مؤلف:|]] |
من (لزوميات مخيمر) ← |
بتاريخ: 22 - 10 - 1945 |
نهضة النثر
للأستاذ أحمد أبو بكر إبراهيم
أثرت العوامل الثقافية والقومية والسياسية في النثر الحجازي كما أثرت في الشعر، فتخلص من قيود القديم، ولم يعد الآن بين الكاتبين في الحجاز من يصب على قوالب الأقدمين فيطرب للمحسنات أو يتحرى موضوعاتهم في العتاب والشكوى والمقامات.
وإنك لتعجب لهذا الانقلاب السريع الذي طرأ على النثر الحجازي؛ فإنهم استطاعوا أن يغيروا اتجاهه في فترة قصيرة من الزمان، ولعل الذي سهل لهم هذا الطريق هو ما سبق أن قررناه في الشعر من أن الأديب الحجازي وجد نفسه - منذ أن تفتحت أمامه سبل النهضة - متخلفا عن الركب العربي فدفع بنفسه دفعة قوية آملا أن يصل إلى أقصى الغايات. ثم إنه وجد أمامه طريق التجديد سهلة معبدة قد سلكها غيره من أدباء مصر والشام والمهجر فلم يتعثر طويلا في الطريق التي تعثروا فيها قبله وصاح صيحة قوية في وجه التقليد ودعا في حرارة وشغف إلى التعلق الجديد ومن قول عواد في ذلك: (إذن فما لنا نرجع إلى الوراء حتى في الأدب؟! جناية جناها على أفكارنا وأقلامنا الأقدمون فطأطأنا لها الرءوس.
كفى يا أدباء الحجاز، ألا نزال مقلدين حجريين إلى الممات؟ أقسم لولا حركة عصرية في الأدب قائمة الآن في الحجاز بهمة لفيف من أحرار الأدب العصري، لما عرف العالم شيئا في الحجاز يدعي الأدب الصحيح. . .
وفي الحجاز الآن مدرستان للنثر تقابلان مدرستي شعر؛ فإحداهما متئدة وهي متأثرة أشد التأثر بأدب مصر والشام، والثانية مجددة ممعنة في التجديد وهي متأثرة بأدب المهجر، وكان طبيعيا أن تقوم هاتان المدرستان في النثر بجانب مدرستي الشعر لاختلاف المصادر التي يستقي منها التجديد أدباء الحجاز وانقسامهم فريقين يختار كل منهما ما يحلو له وما يغذي اتجاهه. وثمة سبب آخر لعله أوضح من سابقه في ظهور هذين الاتجاهين في الشعر والنثر معا وهو أن التخصص لم يظهر بعد ظهورا واضحا عند أدباء الحجاز فأكثر الأدباء عندهم شعراء وكتاب وخطباء ولو أننا عددنا كاتبين كالسباعي وزيدان لم يحاولا الشعر ولم يحفلا به لوجدنا بجانبهما عشرات من الكتاب الشعراء فعبد القدوس والنقشبندي وعلي حافظ ومحمد سرور وغيرهم يكتبون ويشعرون فكان طبيعياً أن تظهر نزعاتهم الشعرية في نثرهم وأن ينهجوا منهجين في النثر كما نهجوهما في الشعر.
والنثر الجديد في الحجاز يحمل طابع الشعر وخصائصه: ففيه خياله الفياض وحماسته المتدفقة، وفيه التعبير عن العواطف والأحاسيس حتى ليخيل إليك وأنت تقرأ نثر المجددين منهم أنك أمام شعر شاعر قد تزاحم خياله ودقت عواطفه؛ فساق إليك المعاني في صور من الخيال مؤثرة، ولا تلحظ من الفوارق بين شعرهم ونثرهم إلا أن الأول موزون، والثاني غير موزون. فتأمل قول (عزيز ضياء) في قطعة عنوانها (وطني).
أنت يا وطني ينبوع تدفقت منه أنوار المدنية والحضارة والعلم.
من روابيك وربوعك، من جبالك وسهولك، من صحاريك وقفارك تعالى فيك صوت الدين الإسلامي الحنيف فسمعته الإنسانية؛ فاستيقظت فيها مواضع الإحساس وانبعث فيها روح الحياة.
منك يا وطني انبثق الفجر الذي بدد ليل الهمجية والوحشية الذي ظلت تتخبط في دياجيره الإنسانية قرونا طوالا.
يا وطني يا مهبط الوحي ومشرق الإصلاح.
يا منجم الأبطال الخالدين ومنبت العباقرة النابغين
يا مهد الحرية والعدالة والمساواة.
يا مهد طفولتي السعيدة، يا من استقبلت فيه وجه الحياة وعرفت فيه معنى الوجود.
يا جوهرتي الغالية يا كنزي الثمين، يا رمز مجد العالم، يا شارة فخر الإنسانية.
أحبك يا وطني.
أتفانى في حبك كما يتفانى الفراش في النور.
يلذ لي أن أحترق بخورا في مجمرة الواجب الذي على نحوك.
من ثدي أمي رضعت لبان حبك.
من حرارة شمسك استمددت حرارة إخلاصي.
من صفاء جوك اكتسب الصفاء ضميري.
وسأظل يا وطني.
سأظل وفيا ما دامت لبان أمي تجري في دمائي.
وستظل حرارة إخلاصي ما دامت حرارة شمسك
وسيدوم صفاء ضميري مادام صفاء جوك.
أحبك يا وطني. . . . . . . . . الخ)
ألسنا نرى في هذه القطعة من الخيال وطريقة العرض ما يحملنا على القول بأنها شعر منثور قد توافرت فيه خصائص الشعر في المعاني والأخيلة والأساليب وطريقة الأداء؟!
وقد يكون هذا الإمعان في الخيال ناتجا من عدم تخصص أدبائهم في صنعة من الصناعتين، وقد يكون راجعا إلى قراءتهم أدب المهجر، فإنك لا تكاد تظفر بكاتب من كتاب المهجر لا يقول الشعر، بل إنهم ليحاولون دائما التقريب بين الشعر والنثر: فيخففون من قيود القافية ويتحررون من التزامها، ولكنهم في النثر يكررون بعض الجمل ويلتزمونها بل إنهم يسجعون أحيانا لا لأنهم يريدون السجع ولكنهم يرون مثل هذا في قافية الشعر فيريدون التقريب بينهما لتزول الفوارق.
وهذه الظاهرة يجدها القارئ لنثر الحجازيين فهم خياليون في نثرهم، وهم يتخيرون الألفاظ الموسيقية التي تشبه ألفاظ الشعر وهم فوق هذا وذاك يطرقون به أغراض الشعر العاطفية التي تتدفق حماسة وقوة. وهم كثيرا ما يفصلون الجمل فصلا كأن كل جملة من جمل النثر بيت من أبيات الشعر غير متصل بما بعده في تركيبه وإن اتصل به في معناه.
ومن الأمثلة الحديثة في نثر الحجاز ما كتبه (حسين خزندار) بعنوان (ذراع الجبار) وقد أراد في كلامه أن يصور بطولة جندي جاهد في سبيل الواجب حتى قتل فهو يقول من كلام طويل:
أرأيت تلك السهول الفسيحة؟
فهناك في تلك الأكمة الخالدة.
وهناك حيث التضحية والشهامة.
تثوي عظام الجبار الخالد.
فهي رمز البقاء الدائم.
تنادي من أعماقها:
الحرية أو الموت.
تعالي يا فتاتي ولننشد نشيد السعادة.
مرددين مقطوعته العذبة.
الحرية أو الموت.
فالحياة بدونها كابية كئيبة.
والحياة بدونها موحشة قد ارتدت سلاب الحزن.
فهي سر الحياة كالأرواح.
ومنبع الإحساس في نفوس الأباة.
فإما الثريا وإما الثرى.
ولسنا نريد من هذا الكلام أن نقول: إن كل كتابة في الحجاز تتبع الطريقة التي ذكرناها فإن المدرسة المتئدة تتأثر أدب مصر والشام فتتحرى الدقة في التعبير وتحاول أن تخاطب العقل أكثر مما تخاطب العاطفة في كلام مترابط متسلسل يتبع أساليب المنطق، وقد رأينا من هؤلاء الأدباء
(عبد السلام عمر، وأحمد العربي، وعلي حافظ، وزيدان، وأمين عقيل، وعنبر وغيرهم).
أما أحمد سباعي وهو أثبت الناثرين قدما في الحجاز وأقواهم قلما فإنه يتبع المنهاجين ويسير على الطريقتين، فتارة يكتب كما يكتب أدباء مصر وأخرى يسير كما يسير أدباء المهجر في عرض الموضوع وطريقة الأسلوب، ومثله في طريقته الشيخ سرور الصبان.
قال السباعي من قطعة له بعنوان (حذار أن تكون ضعيفا).
(ما رأيت كالقوة منعة تحصن جانب المرء وتعزز مكانته وتحفظ عليه كرامته، وإنه يخيل إلي أن البسيطة بأهلها وأهلها بقواعدهم اصطلحوا على احتقار الضعيف وأطبقوا على الاستهانة به والسخرية منه، فحذار يا صاحبي، حذار أن تكون ضعيفا.
شهدت ضعيفا يدلج في أحد الشوارع وعاصفة من الصفير تدوي في أذنه وكوكبة من الأطفال تعبث به، فقلت هو الضعيف ويله من الصغار والجهلاء!
وشهدت آخر تكالب جمع غفير على إيذائه، هذا يصفعه، وذاك يمتطي ظهره وغيره يدفعه ليغريه بالرقص واللعب، وكانت زفرات المسكين تتصاعد فتتلاشى في ضحك الضاحكين وقهقهة الصاخبين، فقلت هو الضعيف ويله من غوغاء الشوارع وأوباشها!. . .
ويقول:
وسمرت ليلة في جمع من أرباب الحجى وذوي الفضل، فتصدرنا ضعيف أخذوه بيده إلى أرفع مجلس فأوهموه العظمة وراحوا على حساب ذلك يتغامزون ويعبثون. ومضت ليلة حسبت صاحبي سيقضي في نهايتها كمداً وهماً، فقلت هو الضيف ويله من أبناء الحياة صغارهم وكبارهم وغوغائهم وأشرافهم!!
فحذار. حذار يا صاحبي أن تكون ضعيفا. . .)
ومن هذا الكلام تستبين تأثر الكاتب بطريقة المنفلوطي كما تستبين حماسته التي استفادها من أدباء المهجر
والشعر الحجازي لا يزال أقوى من النثر، ويظهر أن هذه حقيقة مقررة في كل أدب ناشئ؛ فإن الشعر دائما في بداية النهضات يطغي على النثر حتى إذا ما توافرت أسباب النهوض ونمت دوحة الأدب تقدم النثر لاهتمام الناس به وتأخر الشعر عن منزلته شيئا فشيئا، وقد حدث مثل هذا في نهضتنا المصرية في العهد الحاضر.
ويعالج النثر الحجازي في الغالب الكثير النواحي الاجتماعية: فهو يتناول النواحي الخلقية يحاول إصلاحها وهو ينتقد ضعف الشباب وعدم طموحه ويرسم له المثل العليا، وهو يتحدث عن المرأة الحجازية ليقوي مكانتها الاجتماعية فتصبح أماً صالحة تستطيع أن تربي أبنائها وتأخذ بأيديهم إلى طريق الفلاح وهكذا. . . وهو يسوق ذلك كله في طرائق مختلفة، وأظهر تلك الطرائق التهكم من الحالة الاجتماعية القائمة والعرض القصصي والأسلوب الخيالي.
أما القصة العصرية عندهم فلا تزال مجهولة وذلك لأن إتقان القصة يحتاج إلى زمن طويل يتملأ فيه الأدباء مناهج الغربيين ويعرفون طرائقهم فيها، وإذا كانت مصر إلى الآن لا تزال متعثرة في فن القصص مع أنها بدأت تترجم هذا الفن عن الغربيين منذ عهد إسماعيل فما بالك بالحجاز ونهضته لا تعدو ثلاثين سنة.
نعم، لقد بدأ بعض الحجازيين ممن يعلمون اللغات الأجنبية يترجمون بعضا من الأقاصيص الأوربية وينشرونها في مجلاتهم ليربوا الذوق القصصي في البلاد، ولكن هذا العمل لا يزال في البداية وسوف لا تظهر ثمرته إلا بعد وقت طويل من الزمان.
أحمد أبو بكر إبراهيم