مجلة الرسالة/العدد 640/سجون بغداد
→ القضاء في الإسلام | مجلة الرسالة - العدد 640 سجون بغداد [[مؤلف:|]] |
الفسطاط ← |
بتاريخ: 08 - 10 - 1945 |
زمن العباسيين
للأستاذ صلاح الدين المنجد
- 1 -
تمهيد
ما نحسب أن أحداً من المتقدمين أو المحدثين، نبحث في السجون على التفصيل. فهذا مبحث بكر طريف؛ سنحاول فيه أن نقدم إليك صورة واضحة تبين لك سبب السجن، وتريك أنواع السجون وضروب السجنى، ثم تطوف عليهم، فنرى ما يأكلون وما يلبسون؛ وكيف يفرون ومتى يخرجون. فإذا فرغنا عقدنا فصلاً خاصاً بأدب السجون، فأسمعناك طرفاً من الشعر المشرق الذي قيل في السجن المظلم. ثم استدركنا ما فاتنا من الحوادث والأخبار المتعلق بهذا الموضوع.
أسباب السجن
يتساءل الإنسان عند البحث في هذا الموضوع، عن الأسباب التي كان الناس يساقون بها إلى السجن. أفكانوا ينهجون نهجاً أو يتبعون شريعة إذا خرج عنها واحد، عوقب بالسجن؟ الحق أنه لم يكن شيء من هذا فقد كان يكفي أن يقول الخليفة أو الأمير أو صاحب الشرطة (الحبس) حتى يودعوا من لفظت بسببه المطبق. فقد كان الحبس سلاحا في يد الخلفاء والوزراء، وقوة يكيدون بها للمتمردين والعاصين والأعداء، ويهددون مخالفيهم فيما يشتهون ويحبون.
على أننا إذا استقرينا النصوص والأخبار، نجد أسباب السجن تتلخص فيما يلي:
(ا) الوزارة سبيل السجن
ومن العجب أن نرى أن الوزارة كانت سبيلا يوصل إلى السجن في غالب الأحيان. وندر من نجا من الوزراء، ولم يسجن. وربما قتل ولم يحبس، وربما صابه الأمران معاً. فقد سجن يعقوب بن داوود وزير المهدي، وجعفر بن يحي وزير الرشيد، ويحي بن خالد وابنه الفضل وسجن محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم والواثق بعد أن صودرت أمواله، ونهبت دوره، وضمت إلى القواد ضياعه. وسجن أبن الخصيب وزير المستعين ونكب. كما حبس أبو الصقر وزير المعتمد، وقتل. ولم ينج محمد بن عبيد الله من السجن، فقد عزله المقتدر من الوزارة وحبسه مع ابنه.
وسبب ذلك أن الخليفة كان يستمع إلى أقوال المنافسين، ويصغي إلى مقالة الحاسدين، فيأمر بعزل وزيره وسجنه. فإذا لم يسجن، جاء خلفه فسجنه انتقاما منه، وخشية أن يشغب فيبعده عن السلطان.
(ب) مناوئو الخلافة
أما مناوئو الخلافة، والشاغبون عليها، فكان مثواهم السجن. فقد سجن عبد الملك بن صالح وقد سعي به عند الرشيد بطلب الخلافة؛ وسجن العباس بن المأمون عند ما دعا إلى نفسه، فمات في الحبس. وحبس الإفشين لما شق عصا الطاعة على الخلافة، ولم يجدوا بداً من اتهامه بالزندقة ليقتلوه.
(ج) الديون والمصادرات
وكانت الديون والمصادرات تودي بصاحبها إلى السجن. وكثار من صودرت أموالهم وأودعوا السجون، ثم أتى بهم فنوقشوا الحساب، وطلب منهم رد الأموال. حدث سليمان ابن وهب قال: (كنت أنا والعباس بن الخصيب، مع خلق من العمال والكتاب معتقلين في يدي محمد عبد الملك في آخر وزارته للواثق، نطالب ببقايا مصادرات فقبض عليّ وأودعت الحبس. فسمعت ليلة صوت الأقفال تفتح فلم أشك في أنه القتل وفتحت الأبواب. . . وحملني الفراشون لثقل حديدي وحملت إلى اسحق بن إبراهيم، وكان صاحب الشرطة، فإذا فيه صاحب ديوان الخوارج، وصاحب ديوان الضياع، وصاحب الزمام، وبعض الكتاب. فطرحت في آخر المجلس. فشتمني اسحق بن إبراهيم أقبح شتم، وقال: (يا فاعل ويا صانع تعرضني الاستبطاء أمير المؤمنين؟ أين الأموال التي جمعتها وحبست بسببها؟ فاحتججت بنكبة أبن الزيات. فقال لي صاحب ديوان الضياع: أخذت من الناس أضعاف ما أديت، وعادت يدك إلى كتبه إيتاخ فأخذت ضياع السلطان وأقطعتها لنفسك وحزتها سرقة إليك، وأنت تستغلها ألفي ألف درهم، وتتزيا بزي الوزراء).
وقد ذكر التنوخي كثيراً من أحاديث هؤلاء المسجونين الديون ومصادرات فليرجع إليه.
(د) الزندقة، الشعوبية، القرامطة، الملاحدة، الرافضة:
وكان الزنادقة يقتلون طوراً ويسجنون طوراً. وربما اتخذوا الزندقة سبيلا للقتل أو السجن. وكان الزنادقة يودعون سجناً خاصاً في المطبق. ذكر أبو نواس قال: كنت أتوهم جماد عجرد إنما يرمي بالزندقة لمجونه في شعره، حتى حبست في حبس الزنادقة فإذا حماد عجرد إمام من أئمتهم، وإذا له شعر مزاوج بيتين بيتين يقرئون به في صلاتهم.
وقد سجن أبو نواس متهماً بالزندقة؛ وكان قد عرض بالأمين (صاحب التاج) وأعتقد أن تعريضه هو سبب سجنه، وأنهم جعلوا الزندقة سبباً. فقد قال:
وقد زادني تيهاً على الناس أنني ... أراني أغناهم وإن كنت ذا فقر
فلو لم أنل فخراً لكانت صيانتي ... فمى عن جميع الناس حسبي من فخر
فلا يطمعن في ذاك مني طامع ... ولا صاحب التاج المحجب بالقصر
فقال له الأمين وقد أتى به (أبلغ بك الأمر إلى أن تعرض فيّ في شعرك يا أبن الخنساء. . .؟) ثم اتخذوا عليه حجة أنه زنديق؛ فقد شرب ماء المطر مع الخمر، وقال: هاأنذا أشرب الملائكة، فان مع كل قطرة ملكا. . .).
ومن الطريف أن نتابع القصة: فقد ذكروا أن خال الفضل أبن الربيع كان يتعهد المحبوسين ويسأل عنهم. وكانت فيه غفلة. فدخل على أبي نواس فقال: ما جرمك حتى حبست في حبس الزنادقة؟ أزنديق أنت؟ فقال: معاذ الله! قال أتعبد الكبش؟ قال: ولكني آكله بصوفه! قال: أفتعبد الشمس؟ قال: والله ما أجلس فيها فكيف أعبدها؟ قال: أفتعبد الديك؟ قال: لا والله، بل آكله. . . ولقد ذبحت ألف ديك لأن ديكا نقرني مرة، فحلفت ألا أجد ديكا إلا ذبحته. قال: فلأي شيء حبست؟ قال: لأني أشرب شراب أهل الجنة، وأنام خلف الناس. فقال: وأنا أيضاً أفعل ذلك. فخرج خال الفضل إلى الفضل وقال له: ما تحسنون جوار الله! تحبسون من لا ذنب له؟ سألت رجلا في الحبس عن خبره، فقال كذا وكذا، وعرفه بما جرى بينهما، فضحك ودخل على الأمين فأخبره الخبر، فأمر بتخليته.
وكان الشعوبيون يسجنون لتهجمهم على العرب، وقد سجن الرشيد أبا نواس لقصيدة وهجا العرب بها.
وحبس فيما بعد، محمد بن هارون الوراق الملحد، ومات في السجن، وطلب ابن الراوندي الملحد لسجنه ففر.
وسجن المقتدر رجالا كثار من الدعاة إلى القرامطة والذاهبين مذهبهم، وسجن جماعة من الرافضة، كانوا يجتمعون في مسجد لسب الصحابة والخروج عن الطاعة.
(هـ) مخالفة رأي الخليفة، ادعاء النبوة
وكان مخالف رأي الخليفة أو الوزير معرضاً للسجن. وقد سجن ألوف وقتل ألوف في محنة خلق القرآن. وكان أحمد بن حنبل، الذي لم يقل بخلق القرآن، أحد من سجنوا.
وكان المتنبئون يسجنون إن لم يقتلوا. وقد كثر التنبؤ في عصر بني العباس وكان لأصحابه مع الخلفاء نوادر وأحاديث.
(و) المجوق، الفسق، الشراب
وكان المستهترون والفساق يسجنون حتى ينالهم العفو. وذكر أبن المعتز أن اسحق بن إبراهيم لما بلغه ما فيه أبو العبر من الخلاعة والمجانة أمر بحبسه. فكتب إليه أبو العبر رقعة يذكر أنه تائب، ويسأله أن يخرجه من الحبس حتى يعلمه رقية العقرب فأحضره وقال: هات علمنا. فقال: إذا رأيت العقرب فتناول النعل واضربها ضربة شديدة فإنها لا تعود تتحرك. . .
فضحك وقال والله إنه لا يفلح أبداً.
وأمر المهدي إبراهيم الموصلي ألا يشرب ولا يتبذل ولا يغني، فغنى إبراهيم عند إخوانه وتبذل وشرب، فضربه ثلاثمائة سوط، وقيده وحبسه.
ووجد العسس أبا دلامة زيد بن جون سكران في بعض الليالي فقبضوا عليه، وأخذوه فحرقوا ثيابه وساجه وحبسوه. فلما أفاق قال أبياتاً وأرسلها إلى المنصور منها:
أمير المؤمنين فدتك نفسي ... علام حبستني وخرقت ساجي
أمن صهباء صافية المزاج ... كأن شعاعها ضوء السراج
وقد طبخت بنار الله حتى ... لقد صارت من النُّطف النضاج أقاد إلى السجون بغير جرم ... كأني بعض عمال الخراج
(يتبع)
صلاح الدين المنجد