مجلة الرسالة/العدد 640/القضاء في الإسلام
→ الطهارة والوضوء | مجلة الرسالة - العدد 640 القضاء في الإسلام [[مؤلف:|]] |
سجون بغداد ← |
بتاريخ: 08 - 10 - 1945 |
قطعة ثالثة من محاضرة ألقيت في دمشق ولم تنشر
للأستاذ علي الطنطاوي
ولقد اشترط القانون اليوم فيمن يولى القضاء سناً معينة لابد من إكمالها وامتحاناً مسلكيا. والشرع لم يشترط إلا البلوغ. ولما قلد المأمون يحيى بن أكثم قضاء البصرة وكان ابن ثماني عشرة تكلم بعض الناس فيه لحداثة سنه، فكتب إليه المأمون: كم سن القاضي؟ فكتب في جوابه: أنا على سن عتاب بن أسيد لما بعثه النبي ﷺ إلى مكة قاضياً وأميراً. فسكت عنه المأمون وأعجبه
والامتحان المسلكي معروف عندنا، وقد دعا عمر قاضياً كان في الشام حديث السن فامتحنه بالعلم فقال له: بم تقضي؟ قال: أقضي بما في كتاب الله. قال: فان لم تجد؟ قال: بما قضى به رسول الله. قال: فان لم تجد؟ قال: بما قضى به أبو بكر وعمر. قال: فان لم تجد؟ قال: اجتهد رأيي. فقال له عمر: أنت قاضيها. ورده إلى عمله. وحديث عمرو بن العاص لما جربه النبي ﷺ واختبره عمليا، معروف معلوم
والقاضي الشرعي اليوم لا يجرب ولا يدرب، كما يدرب (حاكم الصلح) إذ يعين عضواً ملازما ثم يبعث حاكما. بل إنه يستقل بالحكم من أول يوم. وهذا مما ينبغي النظر فيه. وليس يجوز أن ينفرد القاضي بالحكم حتى يتمرس به ويتمرن عليه مدة في محكمة من المحاكم، فإذا استأنس المفتي رشده ولمس مقدرته على القضاء، ورآه أهلا له، قيل له، أعل قوس المحكمة، وتوكل على الله، وكذلك في مصر يصنعون، على أن القضاء الشرعي فيها (إلا الجزئي منه) قضاء جماعة، فكيف وهو عندنا قضاء فرد، وان وظائف القاضي من قضاتنا في أنأى محاكم الجزيرة أو حوران وسلطانه كسلطان قاضي دمشق أو حلب ينظر نظره في كل دعوى، ويحكم حكمه في كل خلاف. والقضاء في مصر على درجتين يؤمن معهما الغلط، وهو عندنا على درجة واحدة، ما فوق القاضي إلا محكمة التمييز (النقض والإبرام) وهي تعني بالشكل لا بالأصل وتنقض حكم القاضي ولكنها لا تحكم في الدعوى.
هذا وإمام المسلمين مأمور بأن لا يقلد أحدا شيئاً من عمل المسلمين إلا إذا علم صلاحه له. روى عن الني ﷺ أن قال: (من قلد رجلا عملا وفى رعيته من هو أولى به منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين).
وكان الخليفة هو الذي يقلد القضاء، وربما قلده الوزير أو الأمير إذا ولاه الخليفة وصرح به في عهده، لأن القضاء في الأصل من حق الخليفة، وقد قضى النبي ﷺ واستقضى، وقضى الخلفاء الراشدون مكن بعده واستقضوا. وفي تاريخنا أسلوب بارع لتقليد القضاء، هو أن يدعو الخليفة أو الأمير مشيخة العلماء وكبار القوم ويأمرهم أن يعرضوا عليه أسماء من يصلح للقضاء، ويذكروا لكل عيوبه ومزاياه، ثم يختار من تجمع عليه الكلمة أو من يظهر فضله على غيره ظهوراً لا خفاء فيه، وأكثر ما رأيت هذا الأسلوب في قضاة مصر. ولقد كان تقلد عيسى بن المنكدر وأبي الذكر محمد بن يحيي بالانتخاب، ولما كان وفد مصر في العراق عند المنصور وجاءه نعي قاضي مصر، قال لهم: أعظم الله أجركم في قاضيكم أبي خزيمة. ثم التفت إلى الربيع فقال له: أبغنا لأهل مصر قاضياً، فقال له أبن حديج (وكان في الوفد): ما أردت بنا يا أمير المؤمنين؟! أردت أن تشهرنا في الأمصار بأن بلدنا ليس فيه من يصلح لقضائنا حتى تولي علينا من غيرنا. قال المنصور فسمّ رجلا. فقال: أبو معدان اليحصبي. فقال: إنه لخيار ولكن به صمم، ولا يصلح الأصم للقضاء. قال: فعبد الله بن لهيعة. فقال: فأين لهيعة.
انظروا أيها السادة إلى معرفة المنصور بأهل العلم من رعيته على بعد العراق ومصر، ورجوعه عن أمره الذي أمر به الربيع لما بدا له الحق فيما قال أبن حديج. واختياره الصالح للعمل بعد الاستشارة والسؤال. وتوليته إياه القضاء من غير طلب له ولا سعي منه إليه. ولولا حق المجاملة وإني ربما نشرت هذه المحاضرة في الرسالة، لقلت انظروا إلى حب أهل مصر بلدهم وقديم عصبيتهم له!
ونص الحنفية على أنه يجوز تقلد القضاء من السلطان العادل والجائر، وإنما يجوز تقلد القضاء من السلطان الجائر إذا كان يمكنه من القضاء بحق ولا يخوض في قضاياه بشر ولا يتداخل في أحكامه، ويجوز التقلد من أهل البغي كل ذلك لأن القضاء فريضة محكمة والقاضي إذا حكم بالحق فقد أقام الفريضة، وضرر تقلده من السلطان الجائر، أو الغاصب الباغي لا يعدل ضرر تعطيل القضاء وترك أمور الناس فوضى!
وكان أبو حنيفة يرى ولاية القاضي سنة واحدة يعزل بعدها ليعود إلى الاشتغال بالعلم فلا ينساه، وكان أبا حنيفة ينظر إلى ما وراء القرون فيرى هذا الزمان الذي فيه العلماء ينصرفون عن العلم إذا ولوا الولايات فكيف وقد كثر ما يتولاها الجاهلون. . .
وكان طلب الرجل العمل قادحاً في صلاحه ولم يكن الخلفاء يولون الأعمال طالبها. كان ذلك والإسلام إسلام؛ والناس ناس، فرحمة الله على أولئك الناس.
وكانت وظيفة القاضي (أي مرتبه) أجزل الوظائف ورزقه أكثر الأرزاق، ففي العهد الذي كان عمر يلبس فيه الثوب المرقع ويقنع بالزيت، وكان علىّ تجزئه قصعة ثريد، كان مرتب شريح القاضي خمسمائة درهم في الشهر، وكان مرتب أبن حجيرة الأكبر كما ذكره الكندي، ألف دينار في السنة فلا يحول عليه الحول وعنده منها شيء، بل كان ينفقها على أهله وإخوانه وفي وجوه البر. وكان مرتب أبن لهيعة ثلاثين ديناراً في الشهر. وأجرى مثل ذلك على القاضي المفضل به فضالة. وجعل عبد الله بن طاهر راتب القاضي عيسى بن المنكدر أربعة آلاف درهم في الشهر، وكان راتب أبي عبيد القاضي الفقيه مائة وعشرين ديناراً في الشهر، وكان يقول: مالي وللقضاء؟ لو اقتصرت على الوراقة ما كان خطي بالرديء!
وقد نقل الكندي في تاريخه صورة براءة (سند راتب) من أيام مروان بن محمد فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم من عيسى بن أبي عطاء إلى خزان بيت المال. فأعطوا إلى خزان بيت المال. فأعطوا عبد الرحمن بن سالم القاضي رزقه لشهر ربيع الأول وربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين ومائة عشرين ديناراً واكتبوا بذلك البراءة. وكتب يوم الأربعاء لليلة خلت من ربيع الأول سنة إحدى وثلاثين ومائة). وهي تبين لنا أن الرواتب قد تدفع سلفاً (وهي كذلك اليوم في بلاد الشام) وتكشف عن ناحية من الأسلوب المالي لدفع المرتبات.
نظر خلفاء المسلمين بنور الله فدفعوا إلى القضاة المال الوفير، والرزق الكثير، لتعف نفوسهم عن حرامه اكتفاء بحلاله، وذلك ما تفعله أرقى الأمم في زماننا وأقومها سيرة في القضاء، على أنهم لو تركوا قضائنا إلى دينهم لوزعهم، ولو خلوا بينهم وبين نفوسهم لقمعوها بخوف الله، وأزاحوا شهوتها بانتظار جنته وخشية ناره.
ولقد كانوا على المرتب الكثير، والعطاء الجزل، أولى تقشف وزهد، ينفقون المال يشترون به الجنة ثم يعودون إلى زهادتهم وقناعتهم: حدث إبراهيم بن نشيط قال: دخلت على القاضي أبن حجيرة الأصغر (وكان قد تغدى) فقال: أتتغدى؟ قلت: نعم. قال: أعيدي عليه الغداء يا جارية. فأتت بعدس بارد على طبق خوص وكعك وماء. فقال: ابلل وكل، فلم تتركنا الحقوق نشبع من الخبز!
وأي حقوق هي يا سادة؟! حقوق الله، حقوق الشرف والنبل والكرم. حقوق المسلمين. ابلل وكل يا إبراهيم! هذه لعمري أعظم وأجل من موائد الملوك:
واسمعوا تتمة القصة تعلموا ما هذه الحقوق؟ قال: وأتاه رجل يسأل حاجة. فقال: ليرجع. وسأل عنه وحقق عن فقره، فلما عرف فاقته. أعطاه ثمانية عشر ديناراً.
هذه هي التي تركته لا يشبع الخبز!
ولقد كانوا يغرمون الغرامات في أموالهم: كان القاضي أبو زرعة كثير الشفقة رقيق القلب، يغرم عن الفقراء والمستورين إذا أفلسوا، حتى كان بعضهم إذا أراد أن يتكسب أخذ بيد رفيقه فادعى عليه عند القاضي، فيعترف ويبكي ويدعي أنه لا يقدر على وفائه فيغرم عنه. وحصلت لبعض الشاميين إضافة (والشامي ولا مؤاخذة بصير باصطياد الدراهم) فقال لبعض أصدقائه: قدني إلى القاضي فلعله يعطيك عني شيئاً أنتفع به، ففعل وقال: أيد الله القاضي: لي على هذا الرجل ستون درهماً. قال: ما تقول؟ فأقر. فقال: أعطيه حقه. فبكى وقال: ما معي شيء، فقال للمدعي: إن رأيت أن تنظره. قال: فصالحه. قال: لا. قال: فما الذي تريد؟ قال: السجن. قال: لا تفعل. وأدخل يده تحت مصلاه فأخرج دراهم فعد منها ستين درهماً فدفعها إلى الرجل.
قال صاحب القصة: وآليت ألا أعود لمثلها!
وكان بمصر أخوان توأمان تكهلا ولا يفرق بينهما من رآهما من قوة الشبه بينهما فوجب على أحدهما دين فحبسه القاضي أبو عبيد، وكان أخوه يجيء زائرا له فيجلس مكانه في الحبس ويتوجه الأول. وشاع ذلك حتى بلغ القاضي فأحضرهما وقال: أيكما فلان؟ فقال كل واحد منهما: أنا! فأطرق القاضي. ثم طلب الغريم فدفع إليه الدين من ماله فراراً من الغلط في الحكم. فهل سمعتم في قضاة أمة بمثل هذا؟
على أن القضاة من كان يقضي بالمجان. قال أبن خذامر: ما أخذت على القضاء شيئاً إلا جوزتين فلما صرفت تصدقت بهما! وقريب من هذا ما صنعه القاضي بكار بن قتيبة لما هم ابن طولون بخلع الموفق من ولاية العهد، وأجابه القضاة كلهم إلا بكارا، فطلب أن يلعنوا الموفق فأمتنع بكار فألح عليه فأصر على الامتناع حتى أغضبه، فقال له: أين جوائزي؟ وكان يصله كل سنة بألف دينار، فقال: هي على حالها، هناك، فنظروا فإذا هي ملقاة بأكياسها في دهليز منزله. فبعث أحمد فقبضها.
على أن الغنم بالغرم. وإذا كثرت مرتبات القضاة فلقد كثرت تكاليفهم وازدادت الواجبات عليهم، وإذا كان العرف اليوم على أن الموظف إذا قام بعمله كان حراً في نفسه ووقته.
وهو لعمر الفضيلة عرف أشبه بالنكر، وإذا كان القانون اليوم لا (يكاد) يؤاخذ قاضياً على فسوق في نفسه أو عصيان لربه ما لم يتصل بعمله، فلقد كان القاضي يؤاخذ على الصغيرة والكبيرة وتطلب منه أخلاق الملائكة، وشمائل الصديقين، قد بوبت في ذلك الأبواب، وصنفت فيه الكتب، وشاع واشتهر، وأغنى الخبر فيه عن الخبر، ولم يبق للكلام فيه مجال، ولا لقائل مقال. وإني لأسرد طائفة من ذلك على سبيل التمثيل عليها، والإشارة إليها، لا أريد منها بالمحاكمة وأصولها فسيأتي الكلام في ذلك، ولكن أريد شمائل القاضي وآدابه في نفسه، وملاكها استعار التقوى، وإدامة المراقبة لله عز وجل. وقد امتحن علي رضي الله عنه قاضياً فقال له: بم صلاح هذا الأمر؟ قال: بالورع. قال: ففيم فساده؟ قال: بالطمع. قال: حق لك أن تقضي. ونصوا على أن من آكد الواجبات على القاضي ألا يحفل بالناس، ولا تأخذه لومة من لائم، وأن يقيم الحق، ولو أغضب الحق أقواماً. قيل لشريح: كيف أصبحت؟ قال: أصبحت وشطر الناس علي غضبان.
وهذه يا أيها السادة مزلة أقدام القضاة، ولا سيما في أيامنا، لأن القاضي اليوم لا يعدم في كل قضية شفاعة ووساطة، فإذا أمضى الحق لم يحفل بالشفاعات ولا الوساطات، لم يخل من أعداء يشون به إلى أولى أمره، ويسودون ما بينهم وبينه، فيسوء رأيهم فيه، ويطول عتبهم عليه، ويؤخرون ترفيعه، وربما احتالوا على قانون حصانة القاضي فنقلوه إلى مكان سحيق، لأن العرف الحكومي اليوم أن الموظف الصالح هو الذي يألف ويؤلف، ويرضي عنه من حوله، ولا تثور عليه ثائرة، ولا تضح ضجة. وهل ينال ذلك قاض نزيه لا يعرف من الطرق إلا الصراط المستقيم. وليس له إلا وجهه الواحد الذي ركبه الله له. ولسانه الفرد الذي وضعه فيه، وما معه إلا قانون واحد يسوق بعصاه الوجيه والحامل، والكبير والصغير.
وقديماً نال بعض قضاتنا أذى كبير من أجل إقامة العدل ودحض الظلم، والصدع بالحق؛ ولكنهم صبروا فأعزهم الله بصبرهم وأظهرهم وأعلى أمرهم. هذا الحارث بن مسكين قاضي مصر يحمل إلى المأمون أيام المحنة، محنة الدين والخلق التي جربت فيها صلابة الرجال، وقوة العزائم ففاز في هذا الامتحان أقوام وخسر أقوام.
وكان إمام الفائزين أحمد بن حنبل - فيظل الحارث على ما يرى أنه الحق - ما لانت له عزيمة ولا وهت له قوة. وهذا عمر بن حبيب القاضي لا يسعه أن يسمع الطعن على أبي هريرة ويسكت فيحتسب دمه عند الله ويرد رأي الخليفة العظيم الذي قال للغمامة أمطري حيث شئت فسيأتيني خراجك: هارون الذي أباد البرامكة في ساعة وكانوا أعزة الأرض وكرام الناس، يرد عليه فيغضب ويعرضه على السيف والنطع، فيغلب حقه وثباته عليه، بطشة الرشيد البطاش، فيلين ويعفو ويكافئ ويشكر.
أو سمعتم قصة سلطان العلماء العز بن عبد السلام القاضي، أحد أفذاذ البشر علماً وحزماً وإيماناً ومضاءً، لما صح عنده أن المماليك لم يفارقهم الرق وهم حق لبيت المال، والمماليك يومئذ هم الملوك يا سادة! هم أصحاب الدولة والسلطان، فنادى ببيعهم فقاموا عليه قومة رجل واحد، وقام معهم كل متزلف من الناس لذوي الإمارة، وهددوه وسعى ساعيهم بالسيف إلى باب داره، فنزل إليه فأطفأ بهيبة إيمانه شعلة غضبه، وفل بعزيمته حد سيفه. وبقى على موقفه منهم حتى باعهم في سوق العبيد وقبض أثمانهم. . يا أيها السادة. إن منا قضاة كانوا يبيعون الملوك!
(دمشق)
علي الطنطاوي