مجلة الرسالة/العدد 639/من وحي جويو
→ من أحاديث المحبين | مجلة الرسالة - العدد 639 من وحي جويو [[مؤلف:|]] |
من الأدب القومي: ← |
بتاريخ: 01 - 10 - 1945 |
الحياة. . .!
للأستاذ زكريا إبراهيم
هؤلاء الفلاسفة الذين طالما عنينا أنفسنا بدراسة آثارهم وتتبع أفكارهم، ما بالهم قد حدثونا عن كل شئ إلا الحياة؟ لقد ملأوا أسماعنا بأحاديثهم عن الفكر والوجود والعلة والقوة واللذة والغريزة ولكن أحداً منهم لم يحدثنا عن الحياة حديثاً شاملا مفصلا. أتراهم قد توهموا أن الحياة ليست شيئاً أكثر من الغريزة أو من حساب اللذات (على طريقة بنتام)، أو من الأنانية وتقديس الذات (على طريقة نيتشه)؟. . . ولكن، لا؛ إن الحياة شئ أكثر من هذا كله، لأنها في جوهرها فيض وتوسع وامتداد. فإذا كان أبيقور يقول: (إن الكائن يمضي حيث تدعوه لذته) فإن في استطاعتنا أن نرد عليه بأن نقول: (كلا، بل أن الكائن ليمضي مدفوعا من تلقاء نفسه، ثم يجد اللذة في الطريق. فاللذة ليست هي الشيء الأول، وإنما الشيء الأول والأخير هو الحياة). والحياة تسير دون حاجة إلى قوة أعلى منها، لأنها بذاتها حركة وقوة واندفاع. فليست الحياة حساباً للذات، كما زعم بتنام، بل هي فعل ونشاط وفيض مستمر.
أجل، إن الحياة لتنطوي في صميمها على مبدأ الامتداد والتوسع والخصب والانتشار. فالوجود الحقيقي إنما هو ذلك الذي يتمثل في تلك الحياة الخصبة الممتلئة، التي لا تألو جهداً في أن تفيض على الآخرين، وتبذل من نفسها للآخرين، وتشرك نفسها مع الآخرين. والكائن الحي، إذا بلغ درجة كبيرة من الرقي، فانه يكون أشد نزوعا إلى حياة الجماعة، لأن في هذه الحياة فيضاً وتوسعاً وامتداداً
والحياة لا يمكن أن تكون أنانية خالصة، حتى إذا أراد المرء ذلك؛ فإن ثمة ضرباً من السخاء يلازم الوجود دائماً، وبدونه يموت الكائن الحي أو تذبل نفسه. فإذا أردنا أن نستبقي حياتنا كان علينا دائماً أن نزهر؛ وما زهرة الحياة الإنسانية إلا الإيثار والتضحية وبذل الذات
إن الذات التي يزعمون أنها مغلقة، هي في الحقيقة مفتوحة، وهي على اتفاق بالفطرة مع الذوات الأخرى؛ بل أنها لتنفتح شيئاً فشيئاً، وأكثر فأكثر. وإذن فالامتداد نحو الآخرين ليس معارضاً لطبيعة الحياة - كما توهم بعض الفلاسفة - وإنما هو على العكس من ذلك موافق للطبيعة، بل شرط ضروري للحياة المليئة الخصبة - والواقع أن محبة الآخرين لا تفترق أبداً عن الحياة الحافلة الفائضة، لأن مثل هذه الحياة مثل الأمومة الواسعة التي لا تستطيع أن تقف عند حدود الأسرة. (إن ثدي الأم (كما يقول جويو) في حاجة إلى الشفاه النهمة التي تلتهمه وترتشف رحيقه الثر؛ كذلك قلب الكائن الإنساني حقاً، هو في حاجة أيضاً إلى أن يرتمي الآخرون في أحضانه، لكي يجدوا فيه الغوث والنجدة. بل إن في قلب المحسن نزوعا باطناً، وميلا دفيناً، نحو أولئك الذين يتجرعون مرارة الألم).
أليست الحياة إذن إيثاراً وتضحية وبذلا للذات؟ أليس جويو على حق حين يقول: (لي يدان: واحدة أصافح بها من أسير معه في طريق الحياة، والأخرى انهض بها من يعثر. وفي استطاعتي أيضاً أن أمد كلتا يدي لهؤلاء.)؟ أليست الحياة العليا إنما هي تلك التي لا تألو جهداً في أن تفيض على الآخرين، كما سبق لنا القول؟
إن اللذات الدنيا هي وحدها التي تتسم بطابع الأنانية. فحينما لا تكون هناك غير قطعة واحدة من الحلوى، نجد أن الطفل يريد أن يستأثر بها. أما اللذات العليا فإنها بطبيعتها لذات ليس فيها من الأنانية شيء.
قد يشهر الإنسان بلذة فنية، فهنا نراه لا يريد أن يستمتع بها بمفرده، بل تريد أن يشعر الآخرين أنه يستمتع ويتذوق فعند اللذة الفنية يريد المرء دائماً أن يعرف الآخرون أنه حي، وأنه يشعر، أو أنه يقاسي أو أنه يحب. أنه يريد أن يمزق نقاب الفردية.
والفنان الحقيقي لا يريد أن يكون بمفرده عند مشاهدته لشيء جميل أو عند اكتشافه لشيء عليه مسحة الصدق، أو عند شعوره بعاطفة نبيلة.
أليس الفن للحياة وبالحياة فكيف لا يظهر فيه طابع الحياة مع أنه هو المعني الباطن للحياة؟ ألم يقل جويو أنني حينما أبصر الجمال، فهناك أود أن أكون اثنين (لا واحداً)؟ إذن فكيف لا يكون الفن في جوهرة مشاركة وتوافقاً؟
إن الحياة الخصبة الحافلة هي أولا وبالذات حياة اجتماعية؛ فأينما فتشت عن الحياة، وجدت الإيثار والتضحية وبذل الذات والأنانية هي سلب للحياة نفسها، وإنكار لكل خصب وامتلاء؛ لذلك كانت الحياة الفائضة الطافحة، هي تلك التي تمثل الوجود الحقيقي.
وبعد هذا كله ليس في وسعنا إلا أن يقول كل منا مع جويو: (أنا لست مالكا لنفسي، فإن كل موجود بدون الكل لا شيء!) والإنسان لا يمكن أن يحيا أو يفكر أو يعمل، إلا إذا كان ذلك للآخرين وبالآخرين، ومع الآخرين!
(مصر الجديدة)
زكريا إبراهيم