مجلة الرسالة/العدد 639/من أحاديث المحبين
→ الفيلسوف أمين الريحاني | مجلة الرسالة - العدد 639 من أحاديث المحبين [[مؤلف:|]] |
من وحي جويو ← |
بتاريخ: 01 - 10 - 1945 |
الموسيقي العاشق
للأستاذ علي الطنطاوي
قال لي أمس صديقي حسني: أني لأعلم شغفك بالموسيقى، وحبك الفن القديم، فهل لك في سماع رجل هو أحد أعمدة هذا الفن في دمشق ومن أساطينه، وهو هامة اليوم أو غد، فإذا انهار أو شك ألا يقوم مثله أبداً؟
قلت: ما أحوجني إلى ذلك، فمن هو هذا الموسيقي الذي لا أعرفه إلى اليوم على ما ذكرت من إمامته وتقدمته، وعلى معرفتي بأرباب هذا الفن؟
قال: هو (ش) بك رجل تركي، كان من موسيقي القسطنطينية أيام السلطان عبد الحميد، وانتهت إليه رياسة (العود) فيها، وله اسطوانات هي عند الموسيقيين، كرسائل الجاحظ عند جماعة الأدباء، واسمع فعندي واحدة منها
وقام إلى (الحاكي) فأداره، ووضع اسطوانة عتيقة، فسمعت شيئاً ما حسبت مثله يكون، وبدا لي كل ما سمعت إلى اليوم من ضرب الموسيقيين كأنه إلى جانبه لعب أطفال. وخربشة مبتدئين
قلت: ويحك قم بنا إليه الآن
فقمنا وأخذنا منها شيخ الموشحات في دمشق الشيخ صبحي واثنين من محودي المغنين، وذهبنا إليه
ضربنا في الجبل حتى جاوزنا الدور الفخمة والقصور العامرة، ووصلنا إلى طائفة من المساكن هي أشبه بأكواخ، وقد بنيت من الطين وقامت دوين الصخر، فوقفنا عند واحد منها، وقرع الباب دليلنا حسني كنعان، ففتح لنا رجل طوال، عريض الألواح، حليق الوجه محمره، ولكن الكبر ظاهر عليه، قد جعد وجهه وإن لم يحن ظهره، ولم يهصر عوه، ورحب بنا على الطريقة التركية، يخفض يده، ويلوح بها على أسلوب معروف ثم يمس بها طرف ذقنه ويرفعها إلى جبهته، كأنه يقول: أني آخذ ذيل أحدكم فأقبله وأضعه على رأسي، وبالغ في الترحيب بنا ودعانا إلى الدخول فدخلنا، فإذا رحبته نظيفة ولكنها خالية من الأثاث، ما فيها إلا أشباه كراسي، وسدة من الخشب مفروشة ببساط هي السرير وه المجلس، وإذا الفقر باد، ولكن مع الفقر ذوقاً ونظافة. . . فقعدنا، وحلفنا عليه ألا يصنع لنا شيئاً، فما نريد إكرامنا منه إلا بأسماعنا ضربه. . .
أخذ قيثارته (كمانه) وقسم (تقاسيم) هزت حبة قلبي، فأحسست بلذة ما عرفتها من قبل، ومع اللذة شئ من السحر، يجعلك تتطلع إلى المجهول، وتسمو إلى عالم الروح، ويوقظ فيك ذكرياتك وآمالك كلها دفعة. . .
فلما انتهى، عرض عليه حسني العود، فأبى واعتذر وقال: إنه لا يضرب عليه. . .
قال حسني: كيف وأنت سيد من جس عود، وأنت إمام الضاربين!
قال: إنني لا أستطيع!
فلما ألحفنا وألححنا قال: إن لذلك قصة ما قصصتها على أحد، فاسمعوها، ولو أني وجدت ما أكرمكم به لما قصصتها عليكم، ولكني لا أملك شيئاً، ولن أجمع عليكم حرمان السماع وكتمان السبب. . .!
وهذه هي القصة مترجمة إلى لغة القلم:
قال: كان ذلك منذ أمد بعيد نسيه الناس وأدخلوه في منطقة التاريخ المظلمة، فلا يرون منه إلا نقطاً مضيئة مثلما يرى راكب الطيارة من مدينة يمر بها ليلا، أما أنا فلا أزال أحس به بجوارحي كلها، ولا يزال حياً في نفسي، بل أنا لا أزال أحيا فيه، وما عشت بعده قط إلا بذكراه. لقد مر على قصتي زمن طويل عندكم لأنكم تقدرونه بعدد السنين، نصف قرن. . . أما أنا فأقدره بذكراه الحية في نفسي فأجده ساعة واحدة. . . لحظة. . . إني أنظر الآن إلى عينيها، وأشم عطرها، وأجلس في مجلسها. . . إن ما أراه حولي ظلال، وتلك المشاهد هي الحقيقة. أفعلمتم من قبل أن ذكرى قد تضح وتظهر حتى تطمس المرئيات، وتغطى على الحقائق، هذه هي ذكرياتي. . .
كان أبي من الباشوات الكبار المقربين من السلطان، فلما علم أني اشتغلت بالموسيقى، كره ذلك مني، وصرفني عنه، وعاقبني عليه، فلما أصررت عليه، أهملني واطرحني، وطردني من داره، فلبثت أتنقل في بيوت أقربائي وأصدقاء أبي، أمارس تعلم الموسيقى لأبناء الأسر الكبيرة، وكان (فلان) باشا من الآخذين بأسباب الحياة الجديدة، يحب أن يقبس عن أوربا طرائقها في معيشتها ويقلدها في السير عليها، فدعاني لأعلم ابنته، وكنت يومئذ في الثلاثين، ولكنهم كانوا يقولون عني: (إنه أجمل شاب في حاضرة الخلافة). . . وأحسب أني كنت كذلك، ولكني - ولست أكذبكم - ما عرفت طريق الحرام، ولا الحلال استطعت سلوك طريقه!
قابلت الباشا، فأدخلني على ابنته لأعلمها، فنظرت إليها، فإذا هي ملتفة بـ (يشمق) من الحرير الأبيض، لا يبدو منه إلا وجهها، وأنه لأشد بياضاً وليناً من هذا الحرير، لا البياض الذي تعرفونه في النساء، بل بياض النور، لا، لم أستطع الإبانة عما في نفسي، أنه ليس كذلك، هو شئ ثمين عذب مقدس، يملأ نفسك عاطفة لا شهوة، وإكباراً لا ميلا، وتقديساً لا رغبة، وكانت عيناها مسبلتين حياء وخفراً، تظهر على خديها ظلال أهدابها الطويلة فلم أر لونها، وكانت في نحو السادسة عشرة من عمرها، مثل الفلة الأرجة إبان تفتحها. . .
وانصرف أبوها بعدما عرفني بها وعرفها بي، وبدأ الدرس على استحياء مني ومنها، ورفعت عينيها مرة، فمشى بي منهما مثل الكهرباء إن لمست سلكتها. . . عينين زرقاوين واسعتين، فيهما شئ لا يوصف أبداً، ولكنك تنسى إن رأيتهما أن وراءك دنيا. . . أنها تصغر دنياك حتى تنحصر فيهما، فلا تأمل إن رأيتهما في شئ بعدهما. . . العفو يا سادة! أنا لست أدبياً، ولا أحسن وصف الكلم، ففسروا أنتم كلامي، وترجموه إلى لسان الأدب، وأين الأديب الذي يملك من الكلام ما يحيط بأسرار العيون؟ أنه لعلم أوسع وأعمق من الفلسفة والكيمياء والفلك. . . أعندكم في وصفها إلا أن تقولوا: عينان سوداوان أو زرقاوان، واسعتان أو ضيقتان، حوراوان دعجاوان، وتخلطوا ذلك بشيء من تشبيهاتكم؟ أعرضوا عيون الفتيات تروا أنكم لم تصفوا شيئاً، هاتان عينان متشابهتان في سعتهما ولونهما وأهدابهما، ولكن في هذه الجمال الوادع الحالم، وفي تلك الجمال الشرس الأخاذ، وفي أخرى العمق والرهبة، وفي هذه الأمل، وعين فيها فتنة، وعين فيها خشوع، وعيون فيها شئ لا تعرف ما هو على التحقيق، ولكنه يبدل حياتك، ويقلب عليك دنياك باللمحة الخاطفة!
ولما تكلمت سمعت صوتها كأنما هو. . . مالي وللتشبيهات التي لا أحسنها؟ وأين ما يشبه به صوتها، وفيه الخفر وفيه الرقة وفيه فتنة وفيه رفاهية؟ لا تعجبوا فإن من الأصوات الصوت المهذب والصوت الوقح، والصوت المرفه، والصوت البائس؛ وصوتاً خليعاً وآخر صيناً. إن الصوت لينطق من غير حروف. ورب ناطقة بلا إله إلا الله، وصوتها يدعو إلى الفحشاء! وقائلة كلمة الفجور وصوتها ينهي عنه! وإنك لتستطيع أن تتخيل المرأة من صوتها. ولم يكن في زماننا هذا الهاتف (التلفون) ولكني أعذر من أسمع عنهم أنهم يعشقون بالتلفون. فالأذن تعشق قبل العين أحياناً.
لم أجاوز الدرس ولم أقل فوقه كلمة واحدة. وكنت اشد منها حياءً وخجلا. ولم يكن أبناء زماننا أولى وقاحة وجرأة كهذه الجرأة التي نراها اليوم، وندر فيهم من كان مثل (الباشا) يسمح لابنته الناهد أن تتلقى العلم عن الرجال - وهو يعلم أن الشاب والشابة في الطريق أو المدرسة يتخاطبان بلغة العيون خطاب الرجل والمرأة، قبل أن يتحرك اللسانان بحديث المعلم والتلميذة. وانقضى الدرس بسلام، ولكني لما فارقتها رأيت كل شئ قد تبدل، فقد تعلقت بالحياة وكنت بها زاهداً، ورأيت ضوء الشمس أشد نوراً، وأحسست بالوجود من حولي وقد كنت انظر إليه غافلا، وكان لي أصحاب لم أكن أعدل بمجلسهم وصبحتهم شيئاً ففارقتهم تلك الليلة وهربت منهم، وذهبت إلى غرفتي فلم أطق فيها قراراً، ولا اشتهيت طعاماً ولا شراباً، ووجدتني أخرج على الرغم مني، فأؤم دارها، فيردني بابها فأهيم حولها أوغل السير في التلال الشجراء عند (بيوغلي) لا أستطيع النأي عن دارها. صارت هي كوني ودنياي، قد تبدلت قيم الأشياء في نظري، فعز ما كان منها أو يمت بصلة إليها، وهان كل شيء سواه، وانطويت على نفسي أفكر فيها وأتصور أدق حركة أو سكنة منها. وكلما ذكرتها يهز شئ قلبي فيخفق كجناح طائر علقت رجله بالفخ، ثم يندفع الشيء إلى عيني فيفيضان بالدمع. ولا أدري كيف أمضيت ليلتي، حتى إذا أزف موعد الدرس الثاني شعرت كأني عدت إلى جنتي التي خرجت منها، وعشت ساعة في لذة لو جمعت لذاذات الأرض كلها ما بلغت نقطة من بحرها. وعندما ودعتها نظرت أليّ نظرة شكت (وحرمة الحب) كبدي وزلزلتني زلزالا، وكدت من سروري بها أطير فوق رؤوس الناس خفة وفرحاً، فقد علمت أن لي عندها مثل الذي لها عندي، على أني ما كلمتها في غير موضوع الدرس كلمة ولا لمست طرف ثوبها، وما هي إلا نظرة واحدة ولكنها قالت فأبلغت، وحدثت فأفهمت!
وسكت الموسيقي وجال الدمع في عينيه، ثم قال وهو يكاد يشرق بدمعه وقد ضاع في رنة البكاء صوته:
أتدرون ما عمري اليوم؟ أنا فوق الثمانين، وقد مر على هذا الحب دهر، ولكني أراه كأنه كان أمس، وإني لا أزال شاباً ينطوي صدره على قلب صبي. ولقد حسبت أني أستطيع أن أتحدث عنه كما يتحدث الشيوخ عن ماضيات لياليهم - فوجدتني لا أستطيع، لا أستطيع فاعذروني إن هذه الذكرى قد خالطت شعاف قلبي، ومازجت لحمي وعظمي، وإني لأحس وأنا أحدثكم أني أمزق جسدي لأستل منه هذه الذكريات!
قلت: فاخبرنا ماذا كان بعد ذلك؟
قال: كان ما أخشى التحدث عنه، إني لا أحب الذكرى وأثيرها، إنكم لا تدرون ماذا تصنع بي؟ أنها تحرقني، تنتزع روحي. . .
كان يا سادة: أني تدلهت بحبها، وهمت بها، وجعلتها هي كل شئ لي، إن كنت معها لم أذكر غيرها، وإن فارقتها ذكرتها وفكرت فيها. فهي ماضي وحاضري ومستقبلي، وهي ذكرياتي كلها وآمالي، أراها طالعة علي من كل طريق أسير فيه، وأرى صورتها في صفحة البدر إن طلع علي البدر، وفي صحيفة (النوطة) إن جلست إلى (البيان)، ومن سطور الكتاب إن عمدت إلى القراءة في كتاب، فإذا جلست إليها والعود في حجري، وعيناها في عيني، وأذناها إلى عودي، تخيلت أني معانقها هي لا العود، وغبت عني، وسمت روحي إلى عالم أعرفه ولا أعرف ما اسمه، فرجعت منه بالسحر فجرت به يدي على العود، فمن هناك تلك (الأسطوانات) التي كنتم تعرفونها لي.
لا، لا تلحفوا علي (سألتكم بالله)، لن أذكر لكم هذه التفاصيل، إنني انتزعها من لحمي ودمي، فدعوها لي، أنها حظي من حياتي أتعلل بها وحدي. لا أحب أن تلوكها الأفواه ويتلهى بها قراء المجلات. لقد كانت الخاتمة أن أصدقاء أبي عطفوا علي، فخطبوها لي وكان العقد وصارت زوجتي، ولكن الله لم يشأ أن تتم سعادتي فمرضت ثم. . .
وغلب عليه البكاء، فلم يستطع أن يخرج الكلمة، فأداها بإشارة مبتلة بالدمع، محروقة بأنفاس الألم!
وسكتنا - فقال بعد هنية:
وقد ذهبت أودعها - فأخذت يدها بيدي، وكانت تلك أول مرة وآخرها، كأني أنازع الموت إياها - وأسحبها منه:
- أنك غداً، تحب غيري وتضرب لها على عودك.
قلت. لك علي عهد الحب، لا نظرت بعدك إلى امرأة، ولا أجريت يدي على عود.
ومسكت، ونظر إلى العود كأنه يريد أن يعتنقه لينطقه بالمعجزات، ونترجم به عن لواعجه، ثم غلبه البكاء مرة ثانية فقام، وانسللنا نحن واحداً بعد واحد، وأغلقنا الباب ونحن نسمع نشجيه!
(دمشق)
علي الطنطاوي