مجلة الرسالة/العدد 637/درسان من دروس الحياة
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 637 درسان من دروس الحياة [[مؤلف:|]] |
أول صلاة في الإسلام ← |
بتاريخ: 17 - 09 - 1945 |
للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني
من أول ما تعلمته في حياتي أن الدنيا لي ولغيري، وإني لم أعطها وحدي، ولا أعطيها سواي ملكاً خالصاً له، ونحن جميعاً شركاء متكافئون في الحقوق، وعلينا من أجل ذلك واجبات متماثلة. وما دمنا شركاء إلى حين، وما دام أن المقام في الدنيا على كل حال قليل، فإن من الحماقة أن ننغص على أنفسنا هذه الحياة القصيرة بالعنت، أو أن تؤثر التي هي أخشن على التي هي أحسن في سيرتنا، وقد كنت أحمق الحمقى في صدر حياتي، وما زالت بي بقية غير هينة من الجماقة، فما انفكت الدنيا تنفضني كما ينفض الأسد فريسته، وتشيلني وتحطني، وترجني وترميني من هنا وههنا، حتى فاءت بي إلى الرفق والهوادة فأرحت واسترحت
أي نعم، تتسع الدنيا لي ولغيري، وتستغني عنا جميعاً! وليس أضل رأياً من يتوهم أن الحياة لا تطيب له إلا إذا خلا طريقه فيها من الناس. وما أحكم قول الإنكليز في أمثالهم: (عش، ودع غيرك يعش)! وما على المرء إلا أن يفكر فيما عسى أن تخسر الدنيا إذا هي خلت من الناس وعادت خراباً يبابا؟ لا شئ! لن يكف الفلك المسير عن الدوران، ولن يعوق الشمس شئ عن الطلوع والأفول، ولن تعدم الحياة على الأرض مظهراً آخر تتبدى فيه كما تبدت فينا نحن بني آدم! وهل نحن إلا صورة من صور الحياة؟ وهل أعظم غروراً أو أقل عقلا ممن يكبر في وهمه أن الحياة تنعدم إذا انقرض الإنسان وتقلص ظله عن الأرض؟
ولا يتوهم أحد أن هذا كلام زاهد أو متزهد، فما أنا بهذا ولا ذاك، وإني لمن أشد الناس رغبة في الحياة الرضية، ونشداناً للعيش الرغيد، وطلباً لأطايب الدنيا، وعكوفاً على متعها المشتهاة، وكل ما في الأمر أني لا أرى أن فوزي بما أبغي لا يستوجب أن يحرم الناس غيري ما يطلبون، أو أن يخيبوا ويخفقوا. وأي دنيا تكون هذه إذا كان نجاح فرد فيها وتوفيقه في إدراك آرابه لا يتسنى إلا بخيبة الباقين؟ ثم أني لا أحس أن الناس بنافسونني أو يزحمونني أو يضيقون علي المجال، فإن الأرض رحيبة، ومجالاتها لا آخر لها، وما رأيتني عجزت قط عن اختراع طريق بكر، أو الاهتداء إلى ميدان جديد، إذا شعرت بالحاجة إلى ذلك
وصحيح أن الحياة جهاد - جهاد مع الطبيعة ومع الإنسان - ولكنا لسنا من الحيوان، فنضالنا لا ينبغي أن يكون بالأنياب والمخالب، بل بالعقول. ونضال العقول متعة، وليس يعي به أو يستثقله أو يضجر منه إلا من لا يصلح لغير حمل الأثقال كالدواب. وليس أمر الدنيا إلى هؤلاء المساكين المستضعفين الذين يساقون ويسخرون، بل إلى أصحاب العقول. حتى حين تقوم الثورات لا تكون الثورة في حقيقة الأمر من الجمهور الأكبر والسواد الأعظم الذي يسفك الدماء ويعبث بالخراب والدماء، بل ممن يدفعونهم إلى ذلك ويغرونهم به ويحضونهم عليه صراحة وتلميحاً، وعفواً أو عن عمد، أي من أصحاب العقول. ولست تستطيع أن تعطل عقول الناس أو تعقل ألسنتهم. وخير وأرشد - لك وللناس - أن لا تفعل حتى إذا استطعت. وتصور دنيا ليس فيها من يفكر بعقله وينظر بعينه غير واحد ليس إلا! أي مزية يستفيدها هذا الفرد؟ وأي متعة أو نعيم له في حياته مع أشباه البهائم؟
إنما المتعة والنعيم في هذا النضال الذي تتصفح فيه عقول منافسيك وتضيفها إلى عقلك، وأنت بذلك تكسب أبداً ولا تخسر، وتضم كل يوم ثروة ذهنية إلى ما أوتيت من ذلك، وتمنع عقلك أن يصدأ، لأنك لا تنفك بفضل النضال الذي لا مهرب لك منه، تجلوه وتشحذه وترهفه
ولكن المرء لا يستطيع أن يناضل بعقله الفطري. وأعني بالفطري الذي لا زاد له من العلم، ولا مدد من المعرفة. وشبيه بذلك أن تقاوم مقذوفات المدافع بالحجارة. فلا معدى لنا عن تعهد ملكاتنا وتزويدها بالأداة التي تجعلها أمضى وأكثر غناءً
وعلمتني الحياة الابتسام! وأنه لعجيب أن يحتاج المرء أن يتعلمه! ألم يقل بعضهم في تعريف الإنسان أنه حيوان يبتسم؟ وأدعى إلى العجب من ذلك أن تكون المحن والشدائد هي التي علمتنيه وعودتنيه! أي والله! فقد كان صدري يضيق ومرارتي تكاد تنشق، من الغيظ، وكنت أجزع إذا حاق بي ما أنكره، وأقنط من قدرتي على اجتياز المحنة، حتى تلفت أعصابي واسودت الدنيا في عيني، بل كاد نور عيني يخبو وينطفئ لفرط ما كنت أعانيه من الاضطراب والألم والكمد، ثم لطف بي الله فتمردت على نفسي، وصرت إذا عراني ما كان يعروني من الجزع أو الخوف أو الاضطراب أقول لنفسي: قد جربت مثل هذا من قبل، وعرفت بالتجربة أنه كله يمضي ولا يخلف أثراً ولا يورثني إلا الأسف على ما أنهكت من أعصابي في احتماله، وقد لدغت آلاف المرات. فلا يجوز أن الدغ بعد ذلك أبداً، وخليق بي أن أتلقى كل ما يجيء - لا بالصبر والتشدد، فقد كان ذلك ما أفعل ولم يكن يكفي - بل بالسخرية والتهكم - سخرية العارف وتهكم المدرك للقيم الحقيقية للأشياء - وبالابتسام الذي يهون كل صعب ويحيل كل جسيم ضئيلا.
وإذا بالابتسام له فعل السحر بل أقوى. تفتح حنكك ربع قيراط، وتكلف عينك أن تومض قليلا فتتغير الدنيا كلها! تجف الدموع إذا كنت تبكي، وينضب معينها، وينشرح صدرك إذا كان منقبضاً، وتشعر بخفة في بدنك بعد أن كان على كاهلك وقر ترزح تحته، ويزايلك ما كنت تحاذر كأنما كان ضلا ارتمى عليه لورفنسخه، ويتجدد الأمل الذي كان قد استحال إلى يأس، وتنشط للعمل والسعي والجهاد وأنت مفعم بالرجاء، بعد أن كانت رجلاك كأنما شدتا إلى قنطارين من الحديد، ولا تعود تبالي أنك في ضيق، أو أنك عاطل، أو مريض، أو أنك فقدت عزيزاً، أو أن تجارتك بارت وخسرت ألف ألف جنيه! كل ذلك الكرب الممض يصبح غير ذي قيمة لا لشيء سوى أنك استطعت أن تتبسم! ولست أتمنى للقراء إلا الخير محضاً، ولكنه ما من حياة تخلو من دواعي الانقباض أو الألم أو الحزن، فليجربوا الابتسام إذا مر بهم - لا قدر الله - شئ من ذلك، وليتأملوا فعل سحره، فقد وجدته في كل حال وصفة نافعة.
وليس الابتسام سهلا في مثل هذه الحالات، فانه مغالبة للنفس، ومغالبتها تتطلب جهداً عظيماً، ولكن التمرة تستحق العناء، والمثوبة على قدر المشقة. وأول ما يكون على المرء أن يتغلب عليه، هو الاستحياء من أن يبتسم في موقف حزن أو كرب شديد مخافة أن يقول الناس أنه يسرف في التكلف. وما من شك في أنه لا يتأتى في أول الأمر إلا بتكلف شديد، ولكنه لا يلبث بعد أن ينجح في تكلفه أن يصبح طبيعياً، لأن مجرد الابتسام يفجر ينابيع البشر في النفس فتفيض
ولان يتكلف المرء الابتسام خير - وأسهل أيضاً - من أن يحتمل ما هو فيه من الآلام، وما يساوره من المخاوف والوساوس والأوهام
ومتى ابتسم المرء في الشدائد والمحن، فإن الميزان يعتدل من تلقاء نفسه، فيفطن المرء إلى القيمة الحقيقية - لا المتوهمة - لما هو فيه أو لما يخشى أن يكون. فتراه يقول لنفسه إذا كان قد فقد عزيزاً: (لقد مات، وكان لابد أن يموت يوماً ما، وسنموت جميعاً متى وافانا الأجل، فلا حيلة في هذا. وصحيح أنه مات في وقت أنا أحوج ما أكون فيه إليه والى عونه، ولكن إطالة عمره لم تكن في يدي، واستغراق الحزن لي ليس من شأنه أن يجعلني أقدر على النهوض بالعبء الذي انتقل إلى كاهلي)
وكان قبل أن يبتسم يقول: (يا ويلتاه! وا مصيبتاه! ماذا أصنع الآن! لقد فقدت المعين، فأنا ضائع لا محالة! وكيف تطيب الحياة لي بعد؟ الخ الخ). نعم، هو سحر، ولكنه سحر في وسعنا جميعاً أن نعالجه ونوفق فيه. وكل شئ في مبتداه عسير، ثم يهون بالدربة والمرانة ويصبح عادة وأشبه بالطباع، ويكسب المرء مناعة وحصانة، فلا تعود صروف الأيام قادرة على تقويض كيانها ونقض بنيانها. فجربوا هذا كما جربته، واشكروني
المازني