مجلة الرسالة/العدد 637/أول صلاة في الإسلام
→ درسان من دروس الحياة | مجلة الرسالة - العدد 637 أول صلاة في الإسلام [[مؤلف:|]] |
القبطان الأرضيان والإسكيمو ← |
بتاريخ: 17 - 09 - 1945 |
صلاة الركعتين
للدكتور جواد علي
(تتمة ما نشر في العدد الماضي)
والتهجد عبادة اختيارية في الأديان الأخرى وكذلك عرف عند اليهود والمسيحيين. كان نساك اليهود يتعبدون ليلا، يقيمون الصلاة تضرعاً إلى الله وخيفة، ويقرءون شيئاً من التوراة وكانت لهذه القراءة منزلة خاصة في قلوب اليهود لما لها من ثواب عظيم. جاء في المزامير: (في منتصف الليل أقوم لأحمدك على أحكام برك). وجاء عن النبي داود أنه كان ينام إلى منتصف الليل ثم توقظه جرادة كانت تأتي فراشه بتأثير هبوب الرياح الشمالية فيستيقظ ويفيق ويقضي النصف الثاني في القراءة وترتيل أناشيد الرب وذكر اسم الله العظيم
وعرف عن رهبان النصارى مثل ذلك، كانوا يتهجدون ليلا ويقضون جزءاً من الليل في العبادة، وفي تاريخ الأديان كفاية لمن أراد المزيد.
والآن فما دامت الصلوات الخمس لم تفرض إلا ليلة الإسراء فكيف كان يصلي الرسول؟ وهل كانت للرسول ولأصحابه صلاة خاصة؟ اختلف الفقهاء في الجواب، وذهب أكثرهم إلى أنه كان يصلي وإن (أول ما افترضت الصلاة على النبي ركعتين ركعتين كل صلاة، ثم إن الله أتمها في الحضر أربعا وأقرها في السفر على فرضها الأول ركعتين).
وذهب جمع إلى أنه لم يكن قبل الإسراء صلاة مفروضة لا عليه ولا على أمته إلا ما وقع الأمر به من صلاة الليل من غير تحديد (وفي كلام ابن حجر لم يكلف الناس إلا بالتوحيد فقط ثم استمر على ذلك مدة مديدة، ثم فرض عليهم من صلاة ما ذكر في سورة المزمل، ثم نسخ كله بالصلوات الخمس، ثم لم تكثر الفرائض ولم تتابع إلا بالمدينة. ولما ظهر الإسلام وتمكن في القلوب كان كلما زاد ظهوراً وتمكن ازدادت الفرائض وتتابعت).
وبعد فهذه آراء في الصلاة قبل الإسراء متباينة. أما ما بعد الإسراء فالإجماع حاصل على أنها خمس لا شك في ذلك. ولم يتمكن المفسرون على الرغم من الجهود التي بذلوها من تعيين آية صريحة في القرآن الكريم تشير بصراحة إلى الصلوات اليومية الخمس وتذكرها عداً دون تفسير ولا تأويل
ويظهر من أقدم الآيات والسور القرآنية أن النبي وأصحابه كانوا يصلون بين البعث والإسراء، ففي سورة العلق وهي من السور المكية ومن أول ما نزل من القرآن: (أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى) مما يدل على أن المسلمين كانوا يصلون. وفي الأخبار أن الرسول بعد أن صلى الصلاة الأولى أتى خديجة بنت خويلد فتوضأ وتوضأت وصلى وصلت كما صلى الرسول؛ ثم رآه علي بن أبي طالب ففعل كما رآه يفعل مما يدل على أن الصلاة كانت معروفة قبل الإسراء بزمن؛ فالمعروف أن وفاة خديجة كانت قبل الهجرة بثلاث سنين أي في السنة العاشرة من البعثة وهي أول من آمن به من النساء كما هو معلوم، ومن المعروف في كتب السير أيضاً أن (الرسول كان إذا حضرت الصلاة خرج إلى شعاب مكة وخرج معه علي بن أبي طالب مستخفياً من جميع أعمامه وسائر قومه فيصليان الصلوات فيها، فإذا أمسيا رجعا فمكثا كذلك ما شاء الله أن يمكثا. ثم إن أبا طالب عثر عليهما يوماً وهما يصليان فقال لرسول الله ﷺ: يا ابن أخي ما هذا الدين لذي أراك تدين به؟ قال: أي عم! هذا دين الله ودين ملائكته ودين رسله ودين أبينا إبراهيم. وكانت وفاة أبي طالب قبل الإسراء في العام الذي توفيت به خديجة فلو أخذنا بهذا الخبر وجب علينا إذاً أن نعترف بأن الصلاة كانت مفروضة منذ أيام الوحي الأولى.
إذاً كيف بدأت الصلاة وهل كانت على الطراز الذي نقوم به في الوقت الحاضر؟ لا. كانت تختلف بعض الاختلاف عن الصلوات الخمس، كانت ركعتين ركعتين أي أن كل صلاة هي ركعتان فقط كما هو في صلاة الصبح في الوقت الحاضر أو في صلاة المسافر. وقد اختلفوا في أول صلاة صلاها الرسول: يقول أحمد بن واضح اليعقوبي: (وكان أول ما افترض عليه من الصلاة الظهر، أتاه جبريل فأراه الوضوء فتوضأ رسول الله كما توضأ جبريل ثم صلى ليريه كيف يصلي فصلى رسول الله) وقد ذهب هذا المذهب نفر من الرواة أيضاً
والذي أراه أن الرواية ضعيفة لما ذهب إليه بعض المفسرين من أن صلاة الظهر هي (الصلاة الوسطى) التي ورد ذكرها في القرآن الكريم (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين). فإذا كانت صلاة الظهر هي الصلاة الوسطى فيجب أن تكون وسطا بين صلاتين، وهذا مما يتعارض وكونها أول صلاة صلاها الرسول؛ لأن كونها صلاة وسطى يستوجب وجود صلاة أولى وصلاة أخرى. ثم إن العقل لا يؤيد أن أول صلاة هي صلاة الظهر؛ لأن الصلاة في أكثر الأديان هي في الصباح والمساء نظراً لسهولة معرفة الوقت؛ فلا يعقل أن تكون صلاة الظهر هي الصلاة الأولى) ثم الآيات القرآنية السابقة لا تؤيد الرواية المذكورة أبداً، وكذلك الآيات القرآنية التي نزلت بمكة كما سنرى.
والرواية التي تقول بأن أول صلاة صلاها الرسول هي صلاة الظهر هي رواية نافع، ورواية نافع هذه تحتمل الرفض وتحتمل القبول، ونافع كثير السقطات في الأخبار. على كل فقد ذهب بعض المفسرين إلى أن المقصود من الصلاة الوسطى صلاة الفجر وذهب بعضهم إلى أنها صلاة العصر. وحتى إذا ذهبنا هذا المذهب لا نستطيع الجزم بأن صلاة الظهر هي أول صلاة صلاها الرسول.
ولكن الذي يستنتج من مختلف كتب السير والأخبار أن الصلاة قبل الإسراء كانت في وقتين فقط وبركعتين: صلاة بالعشي وصلاة بالغداة وهذا ما يؤيد كون الصلاة الوسطى هي صلاة الظهر. ويؤيد هذه النظرية ما ورد في القرآن الكريم (يا أيها الذين آمنوا ليستأذننكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة ومن بعد صلاة العشاء، ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن طوافون عليكم بعضكم على بعض كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم) وروي عن مقاتل بن سليمان أنه قال: (فرض الله الصلاة في أول الإسلام ركعتين بالغداة أي قبل طلوع الشمس وركعتين بالعشي أي قبل غروب الشمس).
وهذا هو الرأي المعقول؛ لأن وقت الغروب ووقت الشروق علامتان يمكن إدراكهما بسهولة بدون حاجة إلى تعيين وقت ولا حساب. وأكثر الصلوات في هذين الوقتين، حتى الوثنيين والأقوام البدائية تتخذ هذين الوقتين للاحتفالات الدينية ولإقامة الصلوات والطقوس.
ومما يؤيد هذا الرأي قوله تعالى: (وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها) وقوله: (وسبح بالعشي والأبكار) وذهب نفر إلى أن صلاة العشي كانت قبل صلاة الغداة، ثم حدثت بعد ذلك صلاة الغداة). . وكان الرسول يخرج إلى الكعبة في أول النهار فيصلي صلاة الضحى وكانت صلاة لا تنكرها قريش، وكان هو وأصحابه إذا جاء وقت العصر تفرقوا في الشعاب فرادى ومثنى فيصلون صلاة العشي) ويظهر من هذه الرواية الأخيرة أن صلاة الضحى كانت وقت الضحى لا قبل الشروق).
من الممكن إذاً تعيين صلاتين قبل فرض الصلوات الخمس: صلاة الغداة وإن شئت فسمها (صلاة الصبح وهي صلاة كان يؤديها النبي حين قيامه من الفراش وقبل شروق الشمس، وصلاة العشي وإن شئت فسمها صلاة الغروب وهي قبيل غروب الشمس. وإذا ما وافقنا أكثر المفسرين على رأيهم من أن صلاة الظهر هي الصلاة الوسطى وهي وسط بين صلاتين فتكون بذلك قد عينا ثلاث صلوات هي الصلوات الأولى في الإسلام. ولا شك في أن الصلاة الوسطى وهي صلاة الظهر متأخرة نوعاً ما بالنسبة إلى الصلاتين.
قلنا إن الصلاة الوسطى هي صلاة الظهر (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين) ولكن سورة البقرة وهي السورة التي ذكرت فيها هذه الآية مدنية لا آية 281 فإنها نزلت بمنى وهذا مما لا يتفق وما ذهبنا إليه، لأن ذلك يدل على أن فرض (الصلاة الوسطى) كان بالمدينة أي بعد الإسراء؛ فإما أن تكون الآية مكية ولكنها حسبت مدنية وتكون الصلاة الوسطى حينئذ قد فرضت بمكة فلا تحتاج المسألة عندئذ إلى تفكير، وأما أن تكون مدنية فتحمل الآية حينئذ محمل الأمر والتذكير بشيء سابق لا نستطيع تعينه بالضبط.
ذكر المفسرون بأن المقصود من الآية (حافظوا على الصلوات) الصلوات الخمس، وهذا طبعا هو تفسير المفسرين لأن الآية صريحة كل الصراحة لم تعين العدد. وإنما ذكروا العدد ليوفقوا بين حديث الإسراء وبين هذه الآية، ولكن ما الذي يمنع إذا ذهبنا مذهباً آخر جديداً هو أن الصلوات الخمس لم تتم بهذا الشكل المألوف إلا في المدينة وإلا بعد الهجرة، ولان كثيراً من الأحكام لم تأخذ شكلها النهائي إلا في المدينة؛ وبذلك يتيسر لنا شرح الآية بدون حاجة إلى تأويلات بعيدة لا طائل تحتها كما حاول ذلك المفسرون الذين حاروا في تعليل العطف الذي جاء بعد (حافظوا على الصلوات) فبعد أن قالوا أن المقصود من الصلوات، الصلوات الخمس اعترضهم اعتراض هام هو أن الصلاة الوسطى هي صلاة مهما قيل في المقصود منها فإنها واحدة من الصلوات الخمس، إذاً فما معنى العطف في وقوله تعالى: (والصلاة الوسطى) بعد أن ذكر الصلوات كلها؟ عللوا ذلك بقولهم أنه تعالى: (أفردها بالذكر لفضلها).
ثم ذهبوا مذهباً بعيداً للتفتيش عن ذلك الفصل. ولو ذهبنا نحن إلى أن الصلوات لم تكن كاملة إلى أن هاجر الرسول إلى المدينة ثم كمل ذلك فيما بعد لما احتجنا إلى كل هذه الاحتمالات. وخبر الإسراء خبر وما جاء فيه لم يذكر في القرآن.
ولليهود في القديم صلاتان: صلاة عند الصباح وصلاة عند المساء وتعرف عندهم باسم (شماع) أو (سماع) ' تقرأ في الصلاتين وصية إسرائيل (اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا رب واحد. فتحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوتك. ولتكن هذه الكلمات التي أنا أوصيك بها اليوم على قلبك) وتقرأ عند المساء والصباح من كل يوم (وقصها على أولادك وتكلم بها حين تحبس في بيتك وحين تمشي في الطريق وحين تنام وحين تقوم).
وفي الديانة الفارسية القديمة صلاتان: صلاة في الصباح عند النهوض، وصلاة في المساء قبيل الذهاب إلى الفراش وهي تشبه صلاة (الشماع) عند اليهود. والغرض من الصلاتين التوسل إلى (مزدا) لطرد الأرواح الخبيثة والأنفس الشريرة. وفي وسع المؤمن طرد الشيطان بالصلاة عند الصبح، فبعد النهوض من الفراش يتجه الإنسان إلى فيصلى له الصلوات الثلاث ثم يذكر اسم مرتين واسم ثلاث مرات واسم أربع مرات ثم يصلي إلى - فتهرب الأرواح الخبيثة من الإنسان ولا تمسه بعدئذ بسوء وقد نشأت من ذلك تعاويذ خاصة يقرؤها الإنسان لطرد الخبائث والشياطين عنه
وقد انتقلت مثل هذه الأفكار البدائية إلى اليهود أيضاً. فكان يوشع بن لاوي يشفي الأمراض بقراءة بعض الآيات من المزمور الحادي والتسعين، ولكن كان من المحرم قراءة شئ من التوراة على المرضى.
وذكر عن (هونا) عن (يوسف) أن الإنسان يصلي صلاة (الشماع) لطرد الأرواح الخبيثة ولأبعادها عن المصلى). وقد استخدمت المسيحية قراءة الكتاب المقدس لغرض إشفاء المرضى وكذلك الصلاة أما صلاتا الصبح والعشاء والصلوات الأخرى في الإسلام فإنها لم تتخذ لهذا الغرض بل جعلت واجباً دينياً على المسلم كسائر الواجبات.
جواد علي