مجلة الرسالة/العدد 636/الشرق كما يراه الغرب
→ جزر الهند الشرقية | مجلة الرسالة - العدد 636 الشرق كما يراه الغرب [[مؤلف:|]] |
هذا العالم المتغير ← |
بتاريخ: 10 - 09 - 1945 |
3 - الموالد المصرية
للأستاذ أحمد أبو زيد
تضم الموالد - علاوة على الناحية الدينية - بعض عناصر اللهو وضروب التسلية التي اشتهر بها المصريون. بل إن جميع الاحتفالات الدينية في مصر وفي غير مصر، وفي الأزمان الحديثة والقديمة على السواء - لم تكن احتفالات دينية بحتة، بل كان يداخلها دائما شيء من اللهو والعبث. فهوميروس مثلا يذكر لنا الشيء الكثير عن الألعاب الشعبية، وأنها كانت تؤلف قسما هاماً من أعياد اليونان الدينية. والمصريون معروفون بروحهم المرحة التي تحب الانطلاق، فهم لا يتركون فرصة تمر أمامهم حتى يغتنموها ويطلقوا أنفسهم العابثة على سجيتها، ويملئوا الدنيا لهواً وعبثاً، ويثيروا حولهم أكبر ضجة مستطاعة، كما هي عادتهم في المناسبات وفي غير المناسبات
وجو الموالد جو صاخب، كله ضجيج وترتفع فيه الأصوات المتنافرة من كل جانب، ولكنها على تنافرها يقوم بينها نوع من الائتلاف والانسجام يجعل لها وقعاً غريباً في النفس، ففي ناحية نجد مشارب (البوظة) تنبعث منها أصوات الغناء السوداني: أيوه أيوه من السودان:
سرجوا الصندوق يا محمد ... لكن مفتاحه معايا. . . الخ
يصحبه توقيع جميل منتظم على الصناجات، ولكنه يضيع ويتلاشى أمام دوي موسيقى غريبة صاخبة منبعثة عن (شخشاخة) كبيرة، ويصحب ذلك الرقصة السودانية المعروفة باسم الرانجا أو الرانجو؛ ومن ناحية أخرى ترتفع أصوات باعة الليمونادة والتمر هندي والعرقسوس والشربات وباعة السجاير ومن ورائهم (جامعو الأعقاب)؛ ومن هنا وهناك ترتفع أصوات باعة (عرائس المولد) يتغنون بمزايا عرائسهم ويعددون صفاتها وجمالها، وقد زينوها بأجمل زينة، ووضعوا إلى جانبها خليطاً كبيراً من الأرانب والكلاب والدجاج والبط (وكل ذلك مصنوع من الحلوى بلا ريب). . ويتفنن باعة العرائس في عرض عرائسهم، وهم في الغالب لا يكتفون بعرض العرائس وحدها، بل يأتون لكل عروسة منها (بعريس) ويسكنان الاثنين معا في حجرة صغيرة بها مخدع ومرايا وما إلى ذلك. . . وكثيراً ما يستوحي باعة العرائس القصص الشعبية مثل عزيزة ويونس أو قصة أبي زيد الهلالي أو قصة (أبو علي سرق المعزة) في عمل بعض النماذج الطريفة. . . وفي هذا الجو الصاخب الرائع تنتشر روائح قوية نفاذة مستطابة وخاصة عند الأجانب. . . تلك هي روائح الطعمية والفول المدمس والكفتة والشواء والأرز وغيرها من الأطعمة الوطنية الطيبة النكهة.
وتنتشر المسارح و (التيارات) بكثرة في الموالد؛ وبعض هذه المسارح تطلق عليها اسم (مسرح) من باب التجوز فقط لصغر حجمها، كتلك (المسارح) الخاصة بالأراجوز وخيال الظل التي لا يزيد أجر الدخول فيها على ملليمين، ويجلس المتفرجون في (الصالة) على مقاعد خشبية ليشاهدوا (العرض) ويستمعوا إلى الموسيقى. بيد أن هناك مسارح أكبر من هذه يعرض فيها شيء لا بأس به من التمثيل والرقص. وفي خارج هذه المسارح توجد منصتان على جانبي باب الدخول، تحتل إحداهما فرقة موسيقى نحاسية (تشنف) آذان الجمهور والمارة بنغماتها المدوية؛ أما المنصة الأخرى فيخرج إليها من أن لآخر - خلال فترة الاستراحة - بعض الممثلين والراقصات ليعرضوا على الجمهور في الخارج شيئا من بضاعتهم الفنية عسى أن يثيروا فيهم الرغبة والشوق للدخول. ويعمل في هذه المسارح - علاوة على الممثلين والراقصات - نفر من الرجال قد تخصصوا في (تحريك العضلات)، كما نجد فيها أيضاً بعض الراقصين من الرجال يأبون أن يرقصوا إلا في ملابس النساء وفي زينتهن. ومن أشهر هؤلاء الراقصين راقص اسمه حسين فؤاد، يوزع على المتفرجين - بعد العرض - بطاقة عليها صورته في زي امرأة وقد كتب تحتها: - الراقص المصري الشهير حسين فؤاد.
وللمصريين ولع شديد بمشاهدة ألعاب القوى، ولذا لا يخلو أي مولد من وجود بعض خيام صغيرة تعرض فيها هذه الألعاب من مصارعة ربع، ومن أشهر الذين يعرضون هذه الألعاب عملاق ضخم الجثة يسمي نفسه (الأستاذ شوال) ولهذا الأستاذ شوال (جوقة) تضم بين أفرادها قزما صغير الجسم كريه المنظر ولكنه مع ذلك يتمتع بقوة جسدية هائلة بحيث إنه يستطيع أن يرفع بسهولة رجلا يكبره بثلاثة أضعاف حجمه.
ومن الألعاب الطريفة المستحبة عند المصريين في الموالد لعبة (أبو فيران). والأدوات المستخدمة في هذه اللعبة منضدة صغيرة مستديرة مثبت على حافتها منازل صغيرة لكل منها فتحة (أو باب) تكفي لمرور الفأر، ولكل بيت رقم خاص. ويتراهن المتراهنون على أي البيوت سوف يدخلها الفأر، ويضع كل منهم نقوده على البيت الذي يختاره. ثم يخرج (أبو فيران) فأره الأبيض الصغير من جيبه ويطلقه يرتع ويجري على المنضدة كيف شاء؛ فالبيت الذي يدخله الفأر يربح صاحبه الرهان، وقد شاهد ماكفرسون صبيا صغيراً بارعا بكسب الرهان دائماً دون أن يفقد نقوده قط، فراقبه خلسة حتى عرف السر في ذلك؛ إذ كان الصبي الصغير يغافل من حوله ويضع قطعة من الجبن في البيت الذي يختاره وكانت رائحة الجبن كفيلة بجذب الفأر إليها.
ولكن، مهما كثرت الألعاب الشعبية في مصر، ومهما تعددت مظاهر اللهو والمرح - فإنها واحدة لا تتغير في جميع الموالد؛ فما نراه في موالد الوجه البحري نجده في موالد الوجه القبلي دون أدنى تغيير. والأعجب من ذلك أن نفس الوجوه تظهر في كل الموالد وخاصة وجوه الممثلين والراجوزات والحلاقين الذين يختنون الفقراء مجاناً. والواقع أن هناك فريقاً كبيراً من هؤلاء يقفون حياتهم على التنقل بين البلدان للتكسب من الموالد.
ونحب في النهاية أن نكرر ما سبق أن قلناه من أن كتاب ماكفرسون سد فراغا كبيراً وأسدى خدمة جليلة لدراسة الحياة الشعبية في مصر الحديثة، فالواقع أن هذه الناحية لم تحظ بكثير ولا قليل من الدراسة والعناية الجديرة بهما، وعسى أن يقوم بعض علمائنا ممن يعتنون بدراسة (الفولكلور) بمتابعة الخطوات التي خطاها ماكفرسون وغيره من أمثال إيفانز بريتشارد والأستاذ هوكارت وبذلك يقدمون أجل الخدمات للعلم ويؤدون بعض ما يجب عليهم نحو وطنهم.
(انتهى)
أحمد أبو زيد