مجلة الرسالة/العدد 632/رسالة الفن
→ الشرق كما يراه الغرب | مجلة الرسالة - العدد 632 رسالة الفن [[مؤلف:|]] |
اللحن الحزين! ← |
بتاريخ: 13 - 08 - 1945 |
13 - الفن
للكاتب الفرنسي بول جيزيل
بقلم الدكتور محمد بهجت
يا لها من إشارة بارعة! أيمكن أن يكون ولاء أعظم وأوقع في النفس من أن يرجع بمعاصر إلى طيات الماضي حيث يقرنه إلى رجل من رجالاته الأفذاذ الذين لمع نجمهم وتألق تألقا فريدا ثم يبلغ منه التأثر لمجرد شعوره بالاتصال الحسي بهذا العبقري الشبيه بإنصاف الآلهة (بوسان). وعاود رودان حديثه قائلا:
لم يرض بوفي دي شافان عن التمثال الذي عملته، وكان ذلك من أمر ما غصني في حياتي الفنية. لقد ظن أني صنعت له تمثالا مسخا. ومع هذا فأني مؤمن أني أودعت في التمثال كل الحماس والإجلال الذي شعرت به نحوه).
ودفعني بوفي دي شافان إلى التفكير في تمثال جان بول لوران الذي يوجد باللكسمبورج أيضاً. إنه ذو رأس مستدير ووجه يهم بالحركة، ويفيض منه الحماس يكاد لا يتردد فيه نفس - إنه من مواطني الجنوب، عتيق غير مصقول تظهر عيناه كأنهما مأهولتان بأخيلة بعيدة - ذلك هو مصور العصور التي كانت أدنى إلى الهمجية حيث كان الرجال أقوياء زاخري العواطف. قال رودان:
(كان لوران من أقدم أصدقائي. وقفت له كمثال لواحد من الميروفيين الذين كانوا يعاونون ساعة موت القديسة جينيفياف، وذلك بلوحته الموجودة الآن بالبانتيون (كانت محبته لي خالصة على الدوام. وهو الذي تحصل لي على الأذن بعمل رهائن كاليه. ومع أن الصفقة لم تعد علي بنفع مادي إذ أني قدمت ستة من التماثيل المعدنية بالثمن الذي عرض لواحد منها فقط، فإني مدين له بالامتنان العظيم العميق لأنه حفزني لخلق عمل من أجل أعمالي.
(وكم كان سروري عظيما بأن أعمل له تمثالا. ولكنه عتب علي عتابا رقيقا لأنني أظهرته بفم مفتوح، فأجبته بأني رأيت من تصميم جمجمته إنه ربما انحدر من سلالة القوط الأسبان. وأن هذا الضرب من الناس يمتاز بكبر الفك الأسفل. وإنني لست على بينة مم إذا كان اقتنع بصحة ملاحظتي العلمية التي ترتكز على علم الأجناس).
وأبصرت في تلك اللحظة بتمثال لفا لجوبيرر إنه متوقد، ذو خلق ثائر، بوجهه كثير من التجاعيد والعجر كأنه أرض اجتاحتها العواصف. أما شاربه فشارب امرئ متذمر، وأما شعره فكث قصير. قال عنه رودان إنه كان ثورا صغيرا. لاحظت فيه غلظ الرقبة حيث تبدو أثناء الجلد وتضاعيفه كأنها غبب الماشية، وكذلك جبهته المربعة. أما رأسه فمائل عنيد، على وشك أن يشيح بحركة إلى الأمام. حقا إنه. ثور صغير! كثيرا ما كان رودان يتمثل بتشبيهات من المملكة الحيوانية. فمثلا إذا كان الإنسان ذا رقبة طويلة وحركات آلية فهو الطائر يتذبذب يمنة ويسرة، وإذا كان جد ظريف كثير الحركات الرشيقة فهو كلب الملك شارك وهكذا. ومن شأن هذه التشبيهات أن تسهل العمل لمن يبحث وفي تقسيم سحن الناس وسيمائهم أقساما عامة. ثم طفق رودان يشرح لي الظروف التي أدت به إلى فالجويير قال:
(كان ذلك عندما رفضت جمعية الآداب قبول تمثالي (بلزاك) أصر فالجوبير الذي تولى عمل تمثال آخر لبلزاك من بعدي على أن يبين لي بحافز من صداقته إنه لم يضلع بتاتا مع أولئك الذين أرادوا الغض من قدري وسمعتي. فدفعني حدبه إلى عمل تمثال له. وعند ما انتهيت منه ورآه قدره تقديرا وعده فوزا عظيما. وإني لأعلم إنه كان يدفع عنه نقد الناقدين في حضرته. وفي مقابل ذلك عمل لي تمثالا بدوره فجاء جد ظريف).
وعندما كنت أهم بالانصراف وقعت عيني على نسخة شبيهة لتمثال برتلو الذي عمله رودان قبل وفاة الكيميائي العظيم بسنة واحدة فقط
كان العلامة الكبير يبدو كأنه مطمئن إلى تأدية رسالته. إنه يتأمل. إنه منطو على نفسه، وحيدا يواجه العقائد البالية المتداعية، وحيدا قبالة الطبيعة التي نفذ إلى بعض أغوار أسرارها ولكنها ما زالت جد غامضة؛ وحيدا على حدود الأفق الغير محدودة. جبينه معذب، وعيناه المسبلتان مليئتان بالهموم وكأن هذا الرأس الجميل رمز للفكر العصري وقد ازدحم بالعلم والمعرفة وأضناه التفكير، ينتهي به الأمر إلى التساؤل (وما جدوى كل ذلك).
احتشدت برأسي الآن كل تلك التماثيل التي كنت أعجب بها والتي كان يتكلم عنها رودان، وقد بدت لي كأنها وثائق قيمة عن عصرنا الحاضر ثم قلت: (إذا كان رودان كتب مذكراته عن القرن الثامن عشر، فقد كتبت أنت مثلها عن أواخر القرن التاسع عشر. أما أسلوبك فأخف وأغلظ من أسلوب سلفك، وأما تعابيرك فأقل رشاقة، ولكنها طبيعية صادقة - إذا جاز لي أن أقول ذلك إن الشك والإلحاد الذي كان واضحا بينا في القرن الثامن عشر، والذي كان مليئا بالتهكم والسخرية أصبح فيك اليوم عنيفا حادا. كانت أشخاص أودون أميل إلى الاجتماع والتمازح والتنادر، أما أشخاصك، فأكثر انصرافا إلى أنفسهم. كانت أشخاص أودون تنتقد عورات أنظمة الحكم، أما أشخاصك فيظهرون كأنهم يتساءلون عن قيم الحياة الإنسانية نفسها ويشعرون بالآلام والرغائب التي لم تتحقق)
فأجابني رودان ردا على ذلك:
لقد بذلت كل ما في وسعي، لم أكذب ولم أغرر بمعاصري قط. لم ترق تماثيلي في أعين الناس، لأنها على جانب كبير من الإخلاص، ولكن مما لا ريب فيه أن بها حسنة واحدة هي الصدق، فليعوضهم هذا من الجمال)
(انتهى)
دكتور محمد بهجت
قسم البساتين