مجلة الرسالة/العدد 631/تطور بلاد العرب الشمالية وتأثير ذلك في علاقاتهم
→ في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب | مجلة الرسالة - العدد 631 تطور بلاد العرب الشمالية وتأثير ذلك في علاقاتهم [[مؤلف:|]] |
لا يا معالي الوزير. . . ← |
بتاريخ: 06 - 08 - 1945 |
الخارجية
للميجر ج. ب. كلوب
ترجمة الأستاذ جميل فيعين
(بقية ما نشر في العدد الماضي)
الوجهة التاريخية:
عندما انتقلنا من بحث النظريات المتعلقة بالوجهة الدينية ومناخ البلاد لبحث الوجهة التاريخية - يحسن بنا أن نبدأ بحثنا منذ حكم الرومان والفرس أي من السنة الأولى للميلاد حتى سنة 650 منه. وإن من الخطأ كله الظن بأن العرب قبل الإسلام كانوا قوما متوحشين. إن موقف العرب في ذلك الوقت كان صعباً جداً حيال أكبر إمبراطوريتين عرفهما ذلك العصر. وموقفهم هذا جد شبيه بموقف جرمانيا في القرن السابع عشر أو الثامن عشر عندما كانت بين الإمبراطورية الفرنسية والإمبراطورية النمساوية. أن اضمحلال هاتين الإمبراطوريتين مكن جرمانيا من الاستقلال والوحدة كما أن نفس السبب أي اضمحلال الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية مكن العرب من تأسيس وحدتهم عند ظهور الإسلام وإنني لا أظن بأن أحدا يحلم بأن يقول إن الجرمان لم يتمكنوا من الاستقلال قبل ذلك الوقت لأنهم شعب منحط. ولذلك يجب أن نعترف بأن العوامل الجغرافية قديرة على تأجيل اتحاد واستقلال أمة ما مدة طويلة.
بظهور الإسلام في القرن السابع ابتدأ الفتح الإسلامي العربي الذي اجتاح أكثر البلدان المعروفة في ذلك الزمان بمدة تقل عن مئة سنة. كما أن العرب تمكنوا من فتح بلاد وجد فيها أوربيون مثل شمال أفريقيا حيث سكن الوندال، وأسبانيا حيث سكن القوط. أن هذه الفتوح التي تعتبر من أعظم الأعمال التي عرفها التاريخ أدت إلى تأسيس إمبراطورية دامت 300 سنة؛ وقد حافظت على كيانها بالرغم من انقسامها فيما بعد وبقيت قوية وعمرت أكثر من الإمبراطورية البريطانية الحالية.
عند قدوم العثمانيين بعد سنة 1350 للميلاد لم يبق للعرب تاريخ ولكن هنا نقطة واح يجدر بنا بحثها لتعلقها بسؤالنا حول قابلية العرب للرقي.
إن العرب لم يعيشوا في خلال السبعمائة سنة الماضية في جو مثبط للعزيمة أو في عصر مدنية راقية وقصروا عنها حتى يمكننا القول بأن طبيعتهم فسدت وفقدوا مزاياهم. إن الأتراك استولوا على الوظائف الرئيسية أبان حكمهم وقطعوا صلات العرب بالعالم الآخر ومع ذلك يصح أن أقول إن العرب الذين نراهم اليوم عاشوا مئات السنين الماضية نفس العيشة التي عاشها الأشخاص الفاتحون الذين قاموا بتأسيس تلك الإمبراطورية الكبرى - طبعا هم جهلة ومتأخرون لحد ما - ولكن لا يوجد شيء يجعلنا نعتقد بأنهم فقدوا صفات الشجاعة والذكاء التي مكنتهم من القيام بفتوحهم وتأسيس إمبراطوريتهم العظيمة.
حيوية العرب العصريين:
دعنا ننتقل برهة وجيزة لبحث حيوية العرب العصريين. وبما أن الوقت لا يتسع لبحث هذه القضية بحثاً واسعاً فسأقصر كلامي على وجهة أو وجهتين بالنسبة للوضع الحاضر.
إنني لم أصادف في تجاربي وأعمالي ما يحملني على الاعتقاد بأن العرب غير قادرين على تيسير الأمور من وجهة حكومية أو إدارية كالحكام الاعتياديين في أوربا أو الاضطرابات والقلاقل التي تقوم عادة عند استقلال أي بلد عربي أمر طبيعي كما حدث في سوريا أو العراق عند انتقال الإدارة من السلطات الأوربية إلى السلطات العربية. وهنا أحب أن أذكر نقطتين: الأولى أن انتقال الإدارة من يد إلى أخرى لابد أن يوجد فترة عدم لستقرار؛ فعندما تسلم البريطانيون والفرنسيون إدارة هذه البلاد من الأتراك حدثت اضطرابات أعظم من هذه ودامت سنين عديدة؛ ولكن الآن وبعد مضي هذه المدة الطويلة على حكمهم يمكنك أن تجد إدارة منظمة كالآلة وموظفين قديرين. الثانية، وربما كانت الأهم أن أهل البلاد التي تحت انتدابنا يعرفون أن من وراء كل بريطاني أو فرنسي قوة عسكرية عظيمة، ومهما حاولنا أن نخدع أنفسنا بقدرتنا فعلينا أن نعترف بأن كثيرا من أعمالنا لا يعزى إلى شخصياتنا بل إلى القوى البرية والجوية التي تزيد من هيبتنا. فإذا ما أخذ عربي مسؤولية الحكم عرف الجميع بأن لا قوة ولا أساطيل وراءه تحميه.
سأقدم إليكم مثلا من وجهة ثانية على قدرة العرب العصريين في تطبيق النظم الفنية والعلمية الحديثة والاستفادة منها. وبهذه المناسبة سأذكر عملا أشرفت عليه بنفسي: عندما أنشأت قوة البادية حاولت أن يكون أفرادها من البدو الرحل - وهذه الفئة من العرب أجهلها - بعد مضي أربع سنين أو خمس تمكن هؤلاء الجهلاء من القيام بقسم النقل الميكانيكي لتأمين مواصلات القوة كما تعلموا استعمال المدافع الرشاشة؛ وهم الآن يتدربون على إجراء المخابرات اللاسلكية. إن عددا من هؤلاء أرسل إلى مشغل فورد بالإسكندرية ودرسوا جنبا لجنب مع إيطاليين ويونان ومصريين وجنسيات أخرى وعادوا يحملون كغيرهم شهادات فنية في (الميكانيك). ولقد قرأت حديثا في كتاب أن البدوي يذبل ويموت - كالهنود الحمر - عند احتكاكه بالمدنية. فعدا عن خطل هذا الرأي أقرر بأن البدوي - إذا ما أعطي الفرصة - يمكنه أن يصبح متحضرا ومدنيا بكل ما في هاتين الكلمتين من معان.
انقسام الشعوب العربية:
إن الصعوبة التي يواجهها العرب الآن هي عدم التجانس. وقد سبق أن قلت إن سوريا والعراق معرضتان للمؤثرات الخارجية من جهة، وللتأثير العربي الخالص من جهة أخرى. وقد كانت تقوم في أواسط هذه الأقطار وعلى الأخص سوريا وفلسطين وشرق الأردن منافسة شديدة بين ثقافات متباينة. وقد ظهرت هذه المنافسة جلية واضحة بسبب تشدد الأمم الأوربية في مسألة القوميات.
لقد كان ظهور القومية في أوربا سببا في ظهور القومية العربية. ومثل هذه الفكرة كانت مفقودة في زمن الإمبراطورية العثمانية عندما كان العرب لا يعرفون قضية كهذه قبل 50 سنة. لقد كان الولاء زمن الإمبراطورية العثمانية ولاء دينيا لشخص الخليفة أو للإمبراطورية نفسها التي كانت خليطا من أجناس متعددة. وقد كان العرب لا يهتمون بالقضية القومية حتى احتكوا بالأقوام التي حافظت على قوميتها فقاموا ينادون بأنهم أمة واحدة ذات قومية خاصة. وقد كان عرب فلسطين وهم مختلفو الجنسية والدين ينادون بأنهم عرب واتحدوا. ومن ثم بعد أصبحوا يفهمون القومية شعروا باشمئزاز مما يتخيلونه أو يتحققونه من استخفاف الشعوب الأخرى بأمرهم - والخطوة التي تلت ذلك أن الشباب المتعلم قام يعمل ليتعرف إلى الأسباب التي مكنت الأوربيين من حكم بلادهم فوجدوها العلم والمال والقوة، أو بالأحرى ما هو عليه المجتمع الأوربي الحالي، فقام يقتبس كل ما هو أوربي ويعمل على السير وأوربا في مضمار واحد. إن أمام هذه الفئة طريقين مختلفين: الأول أن تجرب أن تعلم العامة فتسير الأمة وتنهض كلها دفعة واحدة. وتطبيق هذا عملياً جد صعب - والثاني أن يقتبس المتعلمون وحدهم كل ما هو أوربي - وهذا ما فعلوه - فيتركون بذلك طبقة العامة من الأمة - وهم الأكثرية - وراءهم وبذلك يفتحون ثغرة واسعة بين طبقات الأمة. وأرى أن هذا سبب ضعف كبير.
التطورات الحديثة
رأينا في بحثنا عن قابلية العرب للرقي أن الإسلام لا يقف حجر عثرة في سبيل رقيهم، وأن جو بلادهم لا يوجد أمة خاملة، بل على العكس رأينا أنهم شعب قوي حيوي شديد المراس، وأن تاريخ بلاد العرب الشمالية يرينا أنهم أهل عزم وقوة، وقد قاوموا جغرافية بلادهم الشاذة التي جعلت أقطارهم الهامة على الأطراف وأوجدت بادية الشام في الوسط فاصلة أقطارهم عن بعضها البعض - ورأينا كيف أنهم قديرون على الحكم والاستفادة من العلوم والفنون الحديثة كما وجدنا الروح القومية تساعدهم وتسيطر عليهم ولكنها لا تزال الآن محصورة في طبقة خاصة كما أن الأمة غير متجانسة.
عليّ أن أذكر تحت هذا العنوان نقطتين وهما الموارد المعدنية وتحسين طرق المواصلة الحديثة. لقد سبق أن قلت إن أمما كثيرة حاولت أن تحكم البلاد العربية الشمالية ولكن لم يكن القصد من ذلك استثمار موارد البلاد الطبيعية نفسها ولكن لأنها الممر إلى الشرق والجسر البري الوحيد لأفريقيا.
وقد بقيت أواسط الجزيرة العربية حرة في كل أدوار التاريخ إذ كان يظن أنها فقيرة لدرجة أنها لا تساوي كلفة فتحها. لقد اكتشف النفط - البترول وزيوته - في عدة مواضع من هذه الأقطار، ولكن لم تعرف مناطقه وكميته بوجه التحديد. وكذلك يظن وجود بعض المعادن الثمينة فيها، ولكن لا يمكن لأحد أن يتكهن الآن عما ستكون نتائج هذه الاكتشافات - فهي إما أن تدر الثروة - التي هي أساس القوة في العالم على البلاد وإما أن تنبه أطماع الأمم الأوربية.
بقيت هناك قضية طرق المواصلات الحديثة. لقد سبق أن تكلمت بهذه المناسبة عن صعوبة اتحاد الأقطار العربية ثقافيا أو إداريا أو عسكريا بسبب الصحارى التي تباعد بينها، وقد استغرقت رحلة قمت بها قبل 15 سنة على ظهور الجمال من العراق إلى شرق الأردن ثلاثة أسابيع، ولكن قطع هذه المسافة الآن لا يستغرق أكثر من 20 ساعة بالسيارة أو ساعتين ونصف ساعة بالطائرة. يجوز أن يكون للتحسين الذي طرأ على طرق المواصلات أثر بعيد في توحيد الثقافة بأقطار كالأقطار العربية التي تعد صعوبة المواصلات بينها من أكبر الموانع للقيام بأي عمل من الأعمال. ويجوز أن يقضي هذا التحسن على أهمية مركز حلب الحربي قضاء كليا - فقد سبق أن تعرضت بكلامي لهذا الموضوع وقلت إن من يتمركز في حلب يمكنه أن يعزل سوريا عن العراق عزلا تاما - ولكن إذا أمكن تعبيد طرق جيدة وكثيرة في وسط البادية فإن أهمية هذا المركز تزول.
وأخيرا أرى من الأهمية بمكان أن أذكر شيئا عن الإذاعة واللاسلكي - مع العلم بأن هذين الفنين متأخران في الأقطار العربية. لا ريب إنه سيكون للإذاعة واللاسلكي أثر بعيد في تقدم التهذيب السياسي بين الشعوب المتأخرة كما أن الإنسان يمكنه إهمال إرسال الجرائد لأناس أميين ويمكنه أيضاً الاستغناء عن البريد ولكن من السهل عليه أن يبث أية آراء سياسية بين سكان أقصى واحة من واحات الجزيرة مهما بلغ سكانها من الجهل وذلك بواسطة الإذاعة اللاسلكية.
هذه نهاية ما أردت أن أقوله وأحب إن سمحتم لي أن أقرأ عليكم قبل الختام النتائج التي وصلنا إليها في بحثنا.
1 - إن موقع بلاد العرب الشمالية وتكوينها الجغرافي، كممر إلى الشرق وجسر بري يؤدي إلى أفريقيا جعلها عظيمة الأهمية - وستبقى على الأغلب كذلك مستقبلا.
2 - إن تباعد الأقطار العربية الشمالية وتكوينها مثلثا تتوسطه الصحراء جعل الاتحاد السياسي والعسكري بينها صعبا جدا
3 - إن البلاد المجاورة للصحراء من سوريا والعراق وشرق الأردن كان يؤمها ويتوطنها العرب النجديون على مر العصور بينما نرى بلدان الساحل من سوريا وفلسطين - وحديثا - المدن العراقية خاضعة للتأثير التركي والأوربي وبذلك وجدت ثقافات متباينة في البلاد.
4 - إن روح القومية التي اكتسحت أوربا خلقت مثلها في الأقطار العربية وقد غذيت هذه الروح باتباع نفس الطرق التي اتبعتها أوربا للحصول على القوة ونتج عن ذلك أن الفئة الراقية من العرب التي أرادت أن تجاري أوربا بسرعة لم تتمكن من النهوض بسواد الشعب الجاهل مما سبب حدوث فروق ثقافية واسعة بين طبقات الشعب.
5 - بعد درس مناخ وتاريخ وديانة ونفسية سكان الأقطار العربية الشمالية يمكننا أن نقرر بأن ليس في الإمكان وضعهم في عداد الأمم غير القابلة للرقي؛ فقد ظهر لنا جليا أن العرب يملكون كل المؤهلات التي تمكنهم أن يكونوا شعبا عاملا كأي شعب أوربي.
6 - إن وجود النفط ومعادن أخرى في بلاد العرب أوجد احتمالات لا يمكن التكهن بنتائجها فقد تدر الثروة على العرب فيضحون قوة عالمية أو تكون مرتعا جديدا لأطماع الأمم القوية الأخرى.
7 - إن صعوبة المواصلات كانت تقف في وجه الوحدة العربية ولكن استمرار تحسين طرق المواصلات الحديثة قد يساعد في وصول البلاد العربية إلى اتحادها ونهائيا إلى وحدتها.
المستقبل:
يمكننا حصر منهج الرقي في البلاد العربية بما يلي:
1 - ستمضي برهة غير قصيرة حتى يتمكن سكان الأقطار العربية الشمالية من الحصول على تجانس سياسي وثقافي ويجوز أن تعجل طرق المواصلات الحديثة إنجاز هذا العمل.
2 - إن وسائل الدفاع عن الأقطار المذكورة صعبة ولكن تحسين طرق المواصلات في البادية قمين بتخفيف هذه الصعوبة.
3 - إن العرب يملكون المؤهلات الكافية لصيرورتهم. أمة عصرية هامة ولكنهم لا يقدرون على السير وحدهم الآن.
4 - يتوقف الاستقلال السياسي في كثير من الأحوال على العوامل الخارجية ولذلك لا يمكن التكهن من الآن عن الوقت الذي يمكن للعرب فيه أن يصلوا إلى وحدتهم وينالوا استقلالهم السياسي.
المترجم
جميل قيعين