مجلة الرسالة/العدد 629/على هامش (حادث الشام)
→ في إرشاد الأريب | مجلة الرسالة - العدد 629 على هامش (حادث الشام) [[مؤلف:|]] |
المنطق الوجداني والعقيدة ← |
بتاريخ: 23 - 07 - 1945 |
نحن المذنبون!. . .
للأستاذ علي الطنطاوي
اهتزت الأرض لما كرث دمشق، وزلزلت الدنيا لما أصابها، وانبرت أقلام بواتر تناصرها في محنتها، وازدلفت إليها الوفود تمسح جراحها، وتلعن جراحها، ولم تبق في المشرق والمغرب صحيفة لم تتل أخبارها، وتصف حريقها ودمارها، وأنا في فراشي قد ملكتني الحمى فلم أشارك قومي في جهاد، ولم أبذل لهم (وطالما كنت باذلا) قلمي هذا الضعيف ولساني.
وكنت أطل من شباكي على دمشق (وداري كما يعلم من يعلم من القراء تعلو عن دمشق ضاربة في الجبل مائتي متر) فأرى مسقط القنابل. وأشاهد مواقع القذائف، وأبصر النار تأكل بلدي الحبيب. والرصاص يحصد حصداً قومي، فأحس في أعصابي فوق الحمى حميات، ولكني لا أقدر على شئ.
ولم أقرأ في هذه البرهة الطويلة مجلة ولا أبصرت (رسالة)، ولا رأيت ممن وفد على دمشق من (الإخوان) الكرام أحداً، ولا حضرت (وقد دعيت) لتكريمهم احتفالا. قد قيدني المرض بفراشي فلا أستطيع له براحا. . . وهذي أول ساعة أقدر فيها على القلم، وأتمكن من خطامه، رأيت فرضا عليّ فيها فرض الاعتراف والوفاء، أن أكتب للرسالة التي أحببتها محبة العاشق، لا أصبر على فراقها، ولا أطيق هجرها. وأحببت صاحبها وأجللته قبل أن أراه. فلما رأيته بعد اثني عشر عاماً تشرفت فيها بمراسلته، والكَتْب في رسالته، وحضرت مجلسه، ورتعت شهرين في جنة نبله وفضله، وأخذت من ماله ومن أدبه، ازددت له حباً وإجلالا. وما رأيت في مصر أديباً، هو أعرب عربية، وأنقى طوية، وأقل لمصر عصبية، وأخلص لبلاد العرب كلها نية، من الثلاثة الأخيار: الزيات وعزام وخلاف. وإن في مصر لكراماً كثيرين وأدباء عرباً مخلصين، وما شحت مصر بالرجال ولكنني أشهد بما رأيت.
جلست لأكتب في محنة دمشق، فرأيتها قد سارت بحديثها الركبان، وامتلأت بها الآذان، ومشت على كل لسان، فكدت أدع القلم، ثم قلت لنفسي، لئن تأخرت اليوم فلقد كنت يوماً سباقة، يوم هوت تحت السنابك (باريس)، وقام كتاب (منا. . .) يبكونها، وما يبكون إلا لذات لهم فيها محرمة فقدوها، ومفاسق خسروها، وكنا وكان سيف فرنسا العادية مسلولا علينا، فكتبت في الرسالة (368) في 22 يوليو 1940 كلمة قصيرة ولكنها كان الرمح لا يضره مع مضائه قصره، صغيرة ولكنها كالقنبلة إذا تفجرت دمرت، ولقد شرقت شظاياها وغربت فأصابت فيمن أصابت مستشار المعارف الفرنسي، حملها إليه بعض (الأذئاب. . .) ممن تبدل اليوم لأن الدهر تبدل ودار. فدعاني وكان بيني وبينه كلام لو أنا نشرته خفت ألا يصدقه من لا يعرف قائله، من القراء، لا أقول ذلك فخراً ولكن ليعلم الناس، أنا - بني الشام - ما ذللنا قط ولا خنعنا، ولا أخافتنا فرنسا يوم كانت فرنسا وكان لها في الأرض سلطان، وبين الأعزة الأقوياء مكان!
ولئن فاتني الكلام في (حادث الشام) فما فاتني أن اكتب (على هامشه). وإن لديّ صوراً، وإن في يدي عبراً، إذا وفق الله وواليت نشرها في الرسالة، اجتمع منها كتاب. ولست أعيد ما قاله الكتاب، ولا أحب أن أعرّف المعروف. ولقد فرغ الناس من الحكم على فرنسا ومدنيتها، وخرشت ألسن كانت تسبح بحمدها، وتمجد حضارتها، وما تحمد منها (وآباء القراء) إلا مطارح الهوى الفاجر، ومسارح الفن الداعر، وجفت أقلام كانت في أرضنا (جيشاً خامساً) وما حديث الجيش الخامس ببعيد. . . فلم يبق إلا أن نسوق صوراً لا يراها إلا القريب المشاهد، وعبراً لا ينتبه لها إلا الرقيب المفكر، وأن ننذر قومنا يوما أشد، وخطباً أعم، إذا لم يقطعوا أسبابه، ولم يغلقوا بابه. . .
وإن أول ما ينبغي أن نخرج به من هذا الذي كان أن نعلم إن الله عادل لا يصيب قوماً إذا بما قدمت أيديهم، وإن من بديع صنعه لهذه الأمة أن يبعث لها هذه الشدائد تبينها من غفلتها كلما غفلت، وتوقظها إذا نامت، وإن من أسرار هذه العربية أن الابتلاء هو الامتحان، وأن الله يمتحننا ليرى الفوز في الامتحان أم نكون من الخاسرين. . . فتعالوا يا إخواننا نحاسب أنفسنا وننظر من أين أتينا؟
أما أنا فلقد فكرت فرأيت أن الذنب ذنبنا ما هو بذنب الفرنسيين، وانك أن عانقت الحية فلدغتك فما تلام الحية بل تكون أنت الملوم، إن الفرنسيين قد جروا على سنتهم، واستجابوا لطبيعتهم، ففاض إناؤهم بالذي فيه، وما فيه إلا الطيش والحرق والغرور والتبجح وعشر أخر من هذه الصفات، ولقد بلوهم ربع قرن فما رأينا من حضارتهم إلا البارود والنار وآلات القتل والدمار، ولا أبصرنا من فنهم إلا الفسوق والعرى والاستهانة بالعرض وإضاعة الذمار، ولا شاهدنا من قوتهم إلا العدوان على الأطفال والنساء والعجائز الكبار، ولقد طالما تبدلت عليه الوجوه، ولكن السنَّة السنَّة، والطبع الطبع، كل في الحماقة سواء.
ولكنا مع ذلك واليناهم وقد نهانا الله عن موالاتهم، وقلدناهم وقد منعنا ديننا من تقليدهم، وتركنا بياننا لرطانتهم وفضائلنا لأزيائهم، وشريعتنا لقوانينهم، ومساجدنا لملاهيهم، والقادسية لأوسترلتز، ومكة لباريس؟
نحن أعطيناهم هذا السلاح الذي قاتلونا به: جاءونا بالخمور تهرئ أمعائنا، وتمزق أكبادنا، فشربناها ودفعنا الثمن. وجاءوا بالكتالوجات فيها الأزياء العارية التي تذهب فضيلتنا، وتفسد شبابنا وبناتنا، فعملنا بها وتركنا لها قرآننا ودفعنا الثمن. وجاؤو بالأرتستات يخربن بيوتنا، ويمرضن جسومنا، ويسممن أرواحنا، فهبطنا على أقدامهن ودفعنا الثمن، وجاءونا بكل بلية فيها الأذى وفيها الهلاك، فدفعنا الثمن، فأخذوه فجعلوا منه دبابات وطيارات ثم أتوا فقالوا هذا لجيشكم السوري. أليس جيشكم قلنا: بلى، وهل في ذلك شك. قالوا: هاتوا ثمنه فدفعناه مرة ثانية، فقاتلونا بسلاح شريناه نحن ودفعنا ثمنه مرتين!
نحن أعطيناهم الجنود الذين حاربونا بهم: أبناؤنا، قلنا لهم خذوهم وخذوا بناتنا فعلموهم في مدارسكم، ونشئوهم على مبادئكم، واستعمروا عقولهم كيف شئتم، فجعلوا من أبنائنا عدواً لنا، يا أيها القراء في مشارق الأرض ومغاربها اعلموا أن الذي ضرب الشام بالمدافع (بأذن أوليفا روجه وأمره) إنما هو رجل شامي ومسلم وابن شيخ واسمه (علاء الدين الإمام)!
فهل استيقظنا؟ إذا لم توقظنا هذه المدافع المدوية، إن لم ينبهنا لذع النار، فما والله يوقظنا شئ؟
هل علمتن يا آنساتي ويا سيداتي الآن. أن هذا (الكتالوج) إنما هو (ديناميت) أن احتفظتن به في دوركن دمر الدور وأهلها؟ وإنكن حين تكشفن عن شئ من مواطن الفتنة في أجسامكن إنما تكشفن للعدو قلعة من قلاع الوطن، لأن كشفها يفسد أخلاق الشباب فتذهب رجلوتهم ويفقدهم روح الكفاح ويشغلهم عن الحرب بالحب؟ وإن هذا الأحمر على خدودكن وشفاهكن إنما هو دم الشهداء، لولاه ولولا أشباهه ما تمكن لعدو منا. وما كان ليغلبنا لولا أن أضاع علينا أخلاق صحرائنا. وشغلنا عنها بكن، وشغلكن بهذا الأحمر عن كل واجب عليكن؟
هل علمتم أيها الآباء أن من يضع ابنه في مدرسة عدوه، إنما يخون وطنه ودينه وربه؟
وهل سمعتم أيها القراء اللعنة التي أطلقها في الشام. خطباء على المنابر، وأئمة في المحاريب، فتجاوزت بصداها الأودية والشعاب:
ملعون كل من ينسى ما صنع بنا الفرنسيون، ملعون كل من يحب فرنسياً أو يتزوج بعد اليوم فرنسية، أو يشتري بضاعة فرنسية، ملعون من يدخل ابنه أو بنته مدرسة فرنسية، ملعون كل شركسي أكل خبزنا وحاربنا، ملعون كل سوري أعان على بلده عدواً، ملعون علاء الدين الإمام، لعنة مجلجلة صارخة مستمرة متجددة، متنقلة في البطون، ماشية في الذراري، لعنة الأم التي فجعها الفرنسيون بوحيدها، واليتيم الذي أفقدوه أباه، والزوجة التي أيَّموها بعد زوجها، والأسرة التي قتلوا ربها وخربوا دارها، والتاجر الذي أحرقوا دكانه وسرقوا متاعه، لعنة مغموسة بالدم، مغسولة بالنار. . .
(دمشق)
علي الطنطاوي