الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 628/سيباي الكافلي

مجلة الرسالة/العدد 628/سيباي الكافلي

بتاريخ: 16 - 07 - 1945


آخر نائب للمملكة المصرية بالشام

للأستاذ أحمد رمزي

القنصل العام السابق لمصر بسورية ولبنان

كان ذلك في جولة من تلك الجولات في دمشق حين كان يحلو لي السير لمسافات بعيدة للتعرف على أحياء المدينة التي قلت عنها إنها (عاصمة وثغر ورباط). وذلك لما نقل عن أبي الدرداء من قوله: (إن أهل الشام مرابطون وأنهم جند الله)

وكان ذلك في ربيع سنة 1943 ويد الله تحرك العالم وشعوبه وسط حرب عالمية شعواء، والشرق العربي يتأرجح بين الصليب المعكوف ورمز النصر الديمقراطي، وكان معي صاحبي وقد انتهى بنا المطاف إلى بناء عليه مسحة القرون المصرية التي نعرفها قلت: (هذا البناء لنا) وصاحبي يعرف مقدار شغلي بكل ما يذكر بمصر العربية الخالدة من عهد الأبوية والبحرية والبرجية، ففتح فاه وقال: (نعم! ألا تدري أنك أمام جامع سيباي) قلت: (ومن هو سيباي هذا؟) قال: (هو نائب الشام تولى إمرة السلاح بمصر) ثم عين نائباً للسلطنة المصرية بدمشق في عهد سلطاننا الغوري طيب الله ثراه - قلت: (إذن هو آخر من حكم هذا البلد الأمين من أمراء مصر؟) قال: (نعم) سألته: (كم يفصلنا عنه من القرون؟) قال: (أربعمائة وأربعون عاماً) قلت: (لقد انتهت الفترة إذن وستبعث مصر بعثاً جديداً وستعود أيامها الخوالي وستلعب دورها التاريخي مرة أخرى) - ونظرت إليه محدقاً وقلت: (أو لم تؤمن بما أقول؟). فابتسم صاحبي ابتسامة عريضة لها معناها. وتوجه إلى المسجد وقال لي: (أتدري ماذا يقولون عن جامع سيباي؟ يطلقون عليه اسم جمع الجوامع) قلت: (أي نعم أذكر جيداً جمع الجوامع في أصول الفقه للسبكي المتوفي سنة 771هـ وأذكر الرواق العباسي بالأزهر وما ألقاه علينا أستاذنا الأكبر الشيخ الدجوي يوماً ما) قال: (لا؟ وإنما أردت أن أقول إن بعض الظرفاء وإن كان الكرد علي في الجزء السادس من خطط الشام صفحة 93 يسميهم العلماء يقولون إن صاحب هذا الجامع لم يدع بدمشق مسجداً مهجوراً ولا مدفناً معموراً إلا أخذ منه من الأحجار والرخام والأعمدة ما أحبه؛ ولذلك سمى مسجده جمع الجوامع) واستمر صاحبي في بحثه وشرحه ويقول: (استغفر الله! ناقل الكفر ليس بكافر. كانت هناك مدرسة اسمها الخاتونية بالصالحية درست، وأول من استفاد من أنقاضها سيباي هذا، وكانت هناك تربة باسم الأمير بلبان المحمودي أتابك العساكر المصرية بالديار الشامية أخذ سيباي حجارة واجهتها لبناء جامعه هذا ولم يترك لصاحبها غير الضريح) واستمر يشرح لي هذه النقطة الغامضة بإسهاب جعلني ألتفت إليه: (والله لو استعمل سيباي حجارة شارع جمال باشا بأكمله وأخذ رخام قلاع الكرك وحصن الأكراد ومصياف لما حال ذلك دون زيارتي لهذا الأثر المصري، فوفر عليك ما تقول وسر بنا نطوف به). ودخلنا المسجد وأنا أطيل النظر في الزخارف ومقرنصات الباب العليا وأترفق في لمس الجدران والحجارة وأتأملها بين أبيض وأسود وكأنها تحدثني وتحن إلي، وكنت قد صعدت الدرجات واتجهت إلى الصحن فوجدت على يميني جناحاً اتخذته جمعية الشبان المسلمين بالشام مقراً لها، فحف أعضاؤها لاستقبالنا والترحاب بنا، وكنت مبلبل الفكر سارحاً، فأخذت بذراع صاحبي على جنب وهمست في أذنه: (أبلغت القحة أن تطأ الأقدام ضريح أمير من أمراء مصر ويتخذ مدفنه مكتباً فلا ترعى لجسده أية حرمة!) فضحك صاحبي وقال: (لا بأس!) قلت: (وما معنى هذا؟) قال: (خفف عليك! إن سيباي قتل في معركة مرج دابق مع الغوري ولم يضم عظامه لحد ولا ضريح؛ والذي تراه أمامك ما هو إلا تربة فارغة).

انتصر صاحبي وعرف كيف يسكتني وكيف يقود الزيارة للصحن الداخلي ويلفت نظري إلى مزولة من رخام كتب عليها أنها من عمل الفقير محمد زريق الموقت سنة 662، ثم أخذني إلى المصلى واستمر يحدثني عما يعرفه عن المحراب والمنبر الجميل وما فيه من الزخارف والنقوش الهندسية.

كنت أسمع إليه وأنا في عالم آخر. ولما وجدتني مشتت الفكر سار بي إلى إحدى الغرف المخصصة لتلقين صبية الحي بعض آيات القرآن الكريم. ورحب بنا الشيخ وأخذ يدعو أولاده لتلاوة ما حفظه كل منهم من جزء عم فسرّى ذلك قليلاً عني.

أما نفسي فكانت حزينة لا تفكر في شيء غير يوم مرج دابق والسلطان الغوري وسيباي وغيره من أمراء مصر الذين قتلوا وكتبت لهم الشهادة في ذلك اليوم العصيب. ونزلت درجات السلم وأنا أتمتم بنشيد من شعر نيتشه لا أذكر منه سوى بعض المقاطع. وهو:

(إنني أحبكم من عميق القلب أيها الرفاق في المعارك فما أنا الآن إلا مقاتل مثلكم كما كنت بالأمس).

(للكلام بقية)

أحمد رمزي