مجلة الرسالة/العدد 627/البلاغة العصرية واللغة العربية
→ إلى الأحزاب المصرية | مجلة الرسالة - العدد 627 البلاغة العصرية واللغة العربية [[مؤلف:|]] |
لغة السياسة ← |
بتاريخ: 09 - 07 - 1945 |
تأليف الأستاذ سلامة موسى
للأستاذ أحمد محمد الحوفي
- 3 -
دعوته إلى العامية - دعوته إلى الحروف اللاتينية - دعوته
إلى إلغاء الأعراب. . . . . . . . .
- 1 -
(يجب ألا يكون للمجتمع لغتان إحداهما كلامية أي عامية، والأخرى مكتوبة أي فصحى كما هي حالنا الآن في مصر وسائر الأقطار العربية؛ لأن نتيجة هذه الحال أن اللغة المكتوبة تنفصل من المجتمع فتصبح كأنها لغة الكهان التي لا تتلى إلا في المعابد؛ وينقطع الاتصال الفسيولوجي بينها وبين المجتمع فلا تتطور، ولهذا يجب أن تكون غايتنا توحيد لغتي الكلام والكتابة، فنأخذ من العامية للكتابة أكثر ما نستطيع، ونأخذ من الفصحى للكلام أكثر ما نستطيع حتى نصل إلى توحيدها) ص 47.
لم يقنع المؤلف بالدعوة إلى استعمال الكلمات الأعجمية، فعاد يحمل لهدم بنيان اللغة العربية الشامخ معولا قد حمله غيره من قبل فتثلم، وضاعت الدعوة السابقة سدى، وستذهب دعوته هذه أباديد لا رجع لها ولا صدى، وأية دعوة أخطر على اللغة من اطراح الكلمات العربية واتخاذ العامية لغة فنية للشعر والكتابة والخطابة؟ وما دامت العامية محرفة عن الفصحى فلم نفضل الدخيل على الأصيل؟
ولم لا تكون الفصحى أحق بالاستعمال ما دام القراء يفهمونها؟
ونحن نرى في عصرنا هذا أن كثيرين جداً من الأميين يسمعون الصحف ويفهمونها، ويصيخون إلى الخطب السياسية والدينية ويستوعبونها، وينصتون إلى الأغاني الفصيحة ويحفظونها، حتى أن الغلمان الذين لم يجلسوا إلى معلم يرددون في هذا العصر جملا مما حفظوا وهم لها فاهمون، وليست اللغة الفصحى ي نظري هي المحشوة بالغريب، العويصة التراكيب، ولا الخفية المجلز، وإنما هي التعبير الصحيح الجاري على قواعد اللغة وإن كانت مفرداتها في متناول الجميع.
فلن تنفصل الفصحى إذن من المجتمع، ولن تصير كلغة الكهان التي لا تتلى إلا في المعابد، فان الشعب كله يفهمها، ورقي الشعب بقربها إليه ويقربه منها.
ليس عندنا مبرر إذن لتطعيم لغتنا الفصحى بأكثر ما نستطيع من العامية، ولا أحد يزعم أن العامية كالفصحى ثراء وسعة ومرونة وموسيقية، فالعامية فقيرة، وليست بصالحة لتصوير المعاني الراقية أو خلجات النفوس، فمن أراد التنفيس عما يجيش بين جوانحه من عواطف استمد من معين الفصحى الثر الذي لا يغيض، وإذا اهتاج جرت على لسانه كلمات من الفصحى لم يزورها أو يتكلفها.
على أن العامية باختلاف الأصقاع والأقاليم، فعامية الصعيد تغاير بعض المغايرة عامية الشمال، وعامية مصر تخالف عامية الشام وهكذا، فإذا أضفنا إلى لغة الأدب أكثر ما نستطيع من العامية انفصم الرباط الوثيق الذي ينتظم الأمة العربية، ووأدنا الوحدة التي ننشدها وهي ما زالت في المهد.
وبم تسمى اللغة الجديدة؟ وما خصائصها المميزة لها وهي أخلاط وأمشاج من فصحى، وعامية منها، ومن تركية، ومن أوربية محرفة، ومن أوربية غير محرفة دعا الأستاذ إلى اصطناعها في المقال السابق؟ ولسنا وحدنا بدعا في أن لغة الكتابة عندنا تغاير لغة الخطاب، فهذه المغايرة عامة في اللغات كلها، بيد أن الفرق عندنا أوضح وأبرز؛ لطول العهد بالجهل، والاستبداد، ومحاربة اللغة القومية بالتركية آناً، وبالإنجليزية والفرنسية آناً، ولذا تقاربت اللغتان في ربع القرن الحاضر لما ذاعت الثقافة، وتنسمنا الحرية واعتززنا بالقومية.
ولنفرض جدلا أن الأستاذ على حق في رأيه، ولنتخذ لغة الأدب خليطاً من العربية والعامية، ثم نتقرب قرناً واحدا، فإذا عامية جديدة تشق من اللغة الجديدة؛ لأن الشأن في لغة الخطاب الميل التيسير والتسهيل وعدم التحرز من الأخطاء، فماذا نفعل آنئذ؟ أنؤمن بأن لغة الكتابة لا بد أن تتميز من لغة الحديث المعتاد؟ أم ننشئ لغة للكتابة ملفقة من تلك اللغة التي اعتسفناها من الفصحى والعامية ومن هذه اللغة العامية الناشئة؟ وما مصير تراثنا العظيم من قرآن وحديث وشعر ونثر؟
سيصير أحاجي وألغازاً ولغة أثرية دراسة لا يفقهها إلا قلة ممن يشغفون بدراسة الآثار القديمة شأن اللغة اليونانية واللاتينية، فهما أصل اللغات الأوربية الحديثة ولكن لا يعرفها إلا الأقلون. ربما رأي المؤلف أن الأوربيين يترجمون روائع اليونان والرومان إلى لغاتهم الحديثة فلنصنع صنيعهم فنترجم حينئذ القرآن والحديث وروائع الشعر والنثر القديم إلى لغتنا الحديثة، وأعتقد أن هذه فكرة من الهوان بحيث لا يتجادل فيها قلمان.
- 2 -
(وعندي أن بعض المميزات لما يقترحه عبد العزيز فهمي باشا من اتخاذ بعض الحروف اللاتينية في كتابتنا يعود إلى أن هذه الحروف تضمنا إلى مجموعة الأمم المتمدنة، وتكسبنا عقلية المتمدنين) ص 117.
(والواقع أن اقتراح الخط اللاتيني هو وثبة إلى المستقبل، لو أننا عملنا به لاستطعنا أن ننقل مصر إلى مقام تركيا التي أغلق عليها هذا الخط أبواب ماضيها وفتح لها أبواب مستقبلها) ص 138
أما اصطناع الحروف اللاتينية في الخط العربي فإنه اقتراح صرعه النقد، فلا حاجة بي إلى ذكر مساوئ الموتى.
ولا أذكر أن في مصر مؤيداً آخر لهذا الاقتراح غير الأستاذ سلامة موسى. والجديد في تأييده أن اصطناعنا الحروف اللاتينية يضمنا إلى مجموعة الأمم المتمدنة، ويكسبنا عقليتها، ويغلق علينا أبواب ما ضينا، ويفتح أبواب مستقبلنا كما حدث في تركيا.
ولو أن التمدن وكسب العقلية رهينان باستعمال خط الأمم الراقية لسهل التمدن على كل أمة متخلفة عن ركب المدنية، فما عليها إلا أن يستعير حروف أمة أرقى منها لتبلغ شأوها، وتفكر على غرارها، حتى وإن اتفقت الحروف واختلفت اللغة وتباين النطق والمعنى!
ومعنى هذا أن جميع من يلبسون الملابس الإفرنجية قد تمدنوا، وأنهم يفكرون كما يفكر الإفرنج. وما الغرابة في هذا القياس، والزي ألصق بالمرء وأعظم تأثيراً في شخصيته من الحروف التي يكتب بها بين الحين والحين؟
لقد تحضرت الأمة العربية ولم تصطنع حروف أمة أرقى منها، وانفلتت أوربا من عقالها مسترشدة بأعلام العرب وصواهم وإشعاعهم ومع ذلك لم تتخذ حروفهم، ووثبنا نحن منذ عصر إسماعيل وثبات بدون حاجة إلى حروف اللاتين لتحفزنا إلى الوثوب، أو تجذبنا نحو الهدف المنصوب. وها هي ذي اليابان أتت بالأعاجيب في نهضتها على حداثة نشأتها ولم تتسلف من أمة أرقى منها حروف كتابتها.
ولو أن الحروف تصنع العقلية لتساوت عقلية الأمم التي تكتب بالحروف اللاتينية، فليس المعول إذن على الحروف ولكن على الروح الذي يستعمل الحروف.
ولم تنهض تركيا لأنها استبدلت بحروفها العربية حروفاً لاتينية، فقد حدث هذا الاستبدال بعد النهوض والاستقرار، على أنها أبدلت مستعاراً بمستعار.
- 3 -
(وليس على التلميذ من حرج أن يقرأ فيرفع المفعول وينصب الفاعل ما دام يفهم ما يقرأ، أما في المدارس الثانوية فنشرع في تعليم أقل ما يستطاع من قواعد النحو، ولا نبالي الإعراب الذي أثبت الاختبار أنه لا فائدة منه بتاتاً، والوقف في أواخر الكلمات أي إسكانها هو الخطة السديدة التي يجب أن تتبع)
(وقد قال هربرت سبنسر إنه لم يتعلم النحو قط، وإنه درس وألف في هذه اللغة دون أن يحتاج إلى دراسة النحو، ولا يمكن عربياً أن يقول مثل هذا القول عن لغته) ص 123.
(واقترح عبد العزيز فهمي باشا يحتاج أولا إلى العمل بإلغاء الإعراب) ص 138
وهذا تجديد آخر، أي هدم آخر لهذه اللغة التي قاومت الأعاصير أكثر من ألف عام، وهي كالصخرة يرتطم بها الموج فينحسر، وتنهال عليها معاول الهدم فتفل وتنكسر.
التجديد المخلص للغة العربية أن يلغي الإعراب منها فيرفع المفعول وينصب الفاعل ما دام القارئ يفهم ما يقول! ثم تبلبل الأستاذ فقال إن إسكان أواخر الكلمات هو الخطة السديدة التي يحب أن تتبع، والإسكان شئ والفوضى في الشكل شئ آخر.
ونحن نسأل الأستاذ: كيف يفهم القارئ ما قرأ وقد نصب الفاعل ورفع المفعول؟ وروح اللغة التي يقرؤها لا تطاوعه على هذا الفهم، وذوق القارئ نفسه ما دام قد فهم معنى ما قرأ لا يطاوعه على هذا الخلط، بدليل أن العرب - قبل أن تستنبط القواعد من لغتهم - كانوا يرفعون الفاعل وينصبون المفعول بالسليقة، لأن هذه الحركات في أواخر الكلمات ذات دلالات معنوية على المواد؛ وهذه سليقة فيهم توارثوها وتناقلوها كما يأخذ أبناؤنا في هذا العهد عنا أوضاع لغتنا العامية.
ولذلك يقول عبد القاهر الجرجاني في الرد على منكري ضرورة النحو: (وأما زهدهم في النحو واحتقارهم له، أو إصغارهم أمره وتهاونهم به فصنيعهم في ذلك أشنع من صنيعهم في الذي تقدم وأشبه بأن يكون صداً عن كتاب الله وعن معرفة معانيه؛ ذاك لأنهم لا يجدون بداً من أن يعترفوا بالحاجة إليه، إذ كان قد علم أن الألفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون الإعراب هو الذي يفتحها، وأن الأغراض كامنة فيها حتى يكون هو المستخرج لها، وأنه هو المعيار الذي لا يتبين نقصانه كلام ورجحانه حتى يعرض عليه، والمقياس الذي لا يعرف صحيح من سقيم حتى يرجع إليه، ولا ينكر ذلك إلا من ينكر حسه، وإلا من غالط في الحقائق نفسه).
ثم يقول مبيناً أن النحو نبراس لفهم المعنى بدقة: (وإذا نظرتم في الصفة مثلا فعرفتم أنها تتبع الموصوف، وأن مثالها قولك: جاءني رجل ظريف، ومررت بزيد الظريف، هل ظننتم أن وراء ذلك علماً؟ وأن ها هنا صفة تخصص وصفة توضح وتبين؟ وأن فائدة التخصيص غير فائدة التوضيح، كما أن فائدة الشياع غير فائدة الإبهام؟ وأن من الصفة صفة لا يكون فيها تخصيص ولا توضيح، ولكن يؤتى بها مؤكدة كقولهم (أمس الدابر)، وكقوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة)، وصفة يراد بها المدح والثناء، كالصفات الجارية على اسم الله تعالى جده؟ وهل عرفتم الفرق بين الصفة والخبر وبين كل واحد منها وبين الحال؟ وهل عرفتم أن هذه الثلاثة تتفق في أن كافتها لثبوت المعنى للشيء ثم تختلف في كيفية ذلك الثبوت؟)
فالنحو في رأي الجرجاني ليس لصحة الشكل فقط، بل وللتعبير الدقيق عن المعاني، وللفهم الدقيق لهذه المعاني، فهو إذن من صميم اللغة وجوهرها.
وأما الزعم بأنه لا يستطيع عربي أن يجيد لغته بدون تعلم النحو فيدحضه أن العرب - إلى أن خالطوا العجم في الإسلام - كانوا يجيدون لغتهم غير مفتقرين إلى تعلم النحو، وأن البارودي في هذا العصر أجاد اللغة فهما، وأجاد الشعر نظما، ولم يتعلم النحو، وذلك بكثرة القراءة والحفظ لأنهما أجدى على المتعلم من قواعد النحو التي لا يصحبها تطبيق متكرر.
استمع إلى ما يقوله الشيخ حسين المرصفي في الوسيلة الأدبية عن البارودي وهو من أعرف الناس به: (محمود سامي البارودي لم يقرأ كتاباً في فن من فنون العربية، غير أنه لما بلغ سن التعقل وجد من طبعه ميلاً إلى قراءة الشعر وعمله، فكان يستمع بعض من له دراسة وهو يقرأ بعض الدواوين، أو يقرأ وهو بحضرته حتى تصور في برهة يسيرة هيئات التراكيب العربية يقرأ ولا يكاد يلحن. . . ثم استقل بقراءة دواوين مشاهير الشعراء من العرب وغيرهم حتى حفظ الكثير منها دون كلفة، واستثبت جميع معانيها، ناقداً شريفها من خسيسها، ثم جاء من الصنعة الشعر اللائق بالأمراء).
وقد فطن ابن خلدون قبل ذلك إلى أن الطريقة المثلى في تعليم اللغة المرانة وكثرة الحفظ والقراءة، لينطبع لسان المتعلم وفكره على اللغة، وقرر أن سكان الأمصار أشد إغراقا في اللحن من سكان البوادي؛ لأنهم لقنوا أول الأمر لغة ملحونة فاعوجت ألسنتهم واختلطت لغتهم فالنحو وحده لا يكفي بل لابد من مخالطة الأعراب والتدرب على محادثتهم لأن اللغة ملكة والملكات لا تكتسب إلا بالتكرار والارتياض والمران، فقد كان العربي يحاكي أهله في نطقهم وتعبيرهم كما يحاكي الطفل أهله في النطق بالمفردات والتراكيب، وفي ذلك يقول ابن خلدون: (وهذا هو معنى ما تقوله من أن اللغة للعرب بالطبع أي بالملكة الأولى التي أخذت عنهم، ولم يأخذونها عن غيرهم).
ولهذا راى (فترينو) زعيم التربية الأدبية في إيطاليا أن أنجع حيلة لتعليم اللغة اللاتينية للأطفال أن يجعلها لغة المحادثة منذ الصغر يتفاهمون بها، ويتحدثون مع أستاذهم، على أنه عنى بتجويد نطقهم، وجودة إلقائهم، وتمثيلهم للمعاني.
ولهذا أيضاً كانت عادة العرب ولاسيما الخلفاء أن يرسلوا أولادهم إلى البادية لتنشئتهم على الفصاحة فيما ينشئون عليه.
فليس بدعا إذن أن يتعلم سبنسر اللغة الإنجليزية بدون قواعد.
وليس مستحيلاً ولا عسيراً في كثير أو قليل أن يتعلم أحد اللغة العربية أيضاً بدون قواعد، فقد كان هذا يحدث فعلا، وقد دعا إلى انتهاجه بعض المربين كابن خلدون. ليس الصواب إذن في إلغاء النحو، إنما الصواب في تبسيطه وتيسيره، وأن نتوخى سلامة التعبير فيما يسمعه التلميذ ويقرؤه، وأن نكثر من تمرينه وتدريبه.
وبعد فالمدارس المصرية تعلم من النحو نتفاً ضرورية لا غنى عنها في استقامة الأسلوب وفهم المعاني، وشتان بين عهد درس فيه الأستاذ بعض النحو دراسة نظرية جافة مملة وبين تدريس النحو في هذا العهد تدريساً نظرياً عملياً مشفوعاً بالتطبيقات.
ثم لماذا يحرص الفرنسيون مثلا على أن يعلموا الدارسين للغتهم من أبنائهم ومن غيرهم قواعد لغتهم، وهي أحياناً أكثر تشعباً من قواعد اللغة العربية مع رغبتهم في نشرها وسيادتها وتيسير تعلمها على الراغبين؟
وإذا كان الأعراب قد كاد يكون خصيصة للغة العربية وحدها بعد أن قل في الألمانية فإن الوسيلة الوحيدة لتيسيره ليست إلغاءه بالتسكين، ولا الفوضى في نطق الحركات كيفما جرى بها اللسان وإنما بكثرة القراءة والمران، والتدريب على القواعد الموضوعة لهذا اللسان.
(يتبع)
أحمد محمد الحوفي
المدرس بالسعيدية الثانوية