مجلة الرسالة/العدد 627/إلى الأحزاب المصرية
→ بقية حديث في فرنسا | مجلة الرسالة - العدد 627 إلى الأحزاب المصرية [[مؤلف:|]] |
البلاغة العصرية واللغة العربية ← |
بتاريخ: 09 - 07 - 1945 |
عدلوا برامجكم أو انسحبوا قبل فوات الأوان!
للأستاذ سيد قطب
أمهر اللاعبين هو الذي يعرف بالضبط متى يجب عليه أن ينسحب قبل فوات الأوان
ولكن يبدو أن أحزابنا المصرية لا تؤمن بهذه الحكمة، أولا تعرف كيف تطبقها في الوقت المناسب
قامت هذه الأحزاب جميعاً لغرض واحد، هو الجهاد السياسي لتحقيق الاستقلال. ويقتضينا الإنصاف أن نثبت لها جميعاً أنها قد نجحت - إلى حد ما - في مهمتها، وذلك على الرغم من الأخطاء التي عرضت لها في الطريق، ولكن هذه كلها هنات لا تذكر إلى جانب المهمة الضخمة التي نهضوا لها. . . مهمة الاستقلال
ولقد استغرقت تلك المهمة الضخمة كل نشاط الأحزاب الساسة - ومن حقها أن تستغرقه - فلم يتهيأ لها أن تمد ببصرها إلى أبعد من الغاية السياسية، حتى لقد أهملت في بعض الأحيان الالتفات إلى الجانب الاقتصادي في هذه المهمة السياسية، في وقت تصطرع فيه القوى الاقتصادية في العالم، وتؤثر تأثيراً حاسماً في كل اتجاه سياسي!
وفي خلال هذه الفترة الطويلة، وهي تتجاوز ربع قرن جدت في العالم أمور وأمور، وتغيرت النزعات والاتجاهات، لا بل ولد عالم جديد. . . ولكن أحزابنا المصرية - فيما يبدو لا تكاد تشعر بهذا كله. فهي في عام 1945 لا تزال تحصر نشاطها الحزبي كله في دائرة الخصومات الحزبية، بل الشخصية، ولا تزال تنظر إلى المجتمع المصري كأنه المجتمع المرغوب فيه، فإذا فكرت في الإصلاح فيه أجزاء وتفاريق على طريقة الترقيع والتجوير!
ومما لاشك فيه أن هذه العقلية ليست هي التي تستطيع مواجهة العالم الجديد
نحن في حاجة إلى:
1 - برامج جديدة
2 - وعقليات جديدة
3 - وأحزاب جديد نحن في حاجة إلى برامج جديدة غير البرنامج السياسي الذي استغرق جميع جهودنا في ربع قرن من الزمان. برامج اجتماعية كاملة تؤثر في النشاط الاقتصادي والثقافي والتشريعي، وترسم له طريقاً واضحاً وهدفاً مقصوداً.
ولا يشك أحد في أن العدالة الاجتماعية مفقودة في مصر، وقد ترددت هذه الجملة كثيراً حتى أصبحت حقيقة بديهية، ومتى ثبت هذا فإن له مستلزمات: أولها أن توجد برامج حزبية معينة لتحقيق هذه العدالة، فإنه خير لمصر أن يقوم الصراع الاجتماعي فيها داخل البرلمان على يد الأحزاب - كما هو الحال في إنجلترا - بدلا من أن يقوم هذا الصراع في الشارع بلا ضابط ولا نظام!
والصراع داخل البرلمان قائم بالفعل - وإن لم يأخذ صبغة الصراع الحزبي - فالذي يراجع مضابط البرلمان في جميع العهود تبرز أمامه حقيقة معنية. فما من مرة عرض مشروع يمس رؤوس الأموال، أو ينصف بعض الطوائف الفقيرة، إلا وتغير التنظيم الحزبي السياسي أو انهار. ووقف ممثلو رؤوس الأموال من جميع الأحزاب جبهة واحدة ناسين خصوماتهم الحزبية، ووقف كذلك أنصار الطوائف الفقيرة جبهة واحدة.
فالنضال الاجتماعي موجود الآن ومنذ نشأة البرلمان المصري. فلماذا لا ننظمه في الصورة الحزبية المعروفة في برلمانات العالم الراقية، وهي الصورة المأمونة العواقب، التي تحيل هذا النضال أفكاراً وقوانين ومشروعات عملية، بدل أن يتحول حركات هدامة غير إنشائية؟
ونحن في حاجة إلى عقليات جديدة تدرك المسألة على هذا الوجه، تكون على استعداد لخلق برامج إنشائية كاملة وتنفيذها بالجرأة والحماسة الواجبتين في هذا الظرف الذي تولد به عوالم جديدة.
وأنا شديد الشك في صلاحية عقليات الأحزاب الحاضرة ورجالاتها لمواجهة مثل هذه البرامج الكاملة، فقصارى ما يفكر فيه هؤلاء الرجال هو مشروعات جزئية لا تناسق فيها ولا انسجام، ولا تربطها وحدة تفكيرية معينة.
وثمة عقبة أخرى تحول بين الهيئات الحزبية الحاضرة والاتجاه الجديد، فهذه الهيئات أجهزة قديمة صدئة لا تستطيع أن تتحرك حرة من أثقال الماضي. ومعظم رجالها في سن الكهولة والشيخوخة ومن العسير على الكهل أو الشيخ أن ينهج في تفكيره وفي حياته نهجاً جديداً، ويدع مألوفة في خمسين عاماً أو ستين. وقليل من أفذاذ الرجال هم الذين يحتفظون برصيد من قواهم لمواجهة التجديد الكامل. ومن هنا يخالجني الشك المطلق في صلاحية رجال الجيل الماضي لمواجهة مطالب الجيل الجديد.
خذ مثلا لذلك الديوان الحكومي - وهو أقل مؤنه من الاتجاه - فالكل مجمعون على أنه جهاز بطئ الحركة، قليل الإنتاج، فاسد النظام (باعتراف ديوان المحاسبة)، فهل بين رجال الجيل الماضي من يصلح للقضاء على النظام الديواني القائم كله، وإنشائه على أسس جديدة في دفعة واحدة؟
كلهم يشفقون من هذه الخطوة الجريئة، ويخشون أن يقف دولاب العمل، وكلهم يميلون إلى السياسة الترقيع بدل سياسة الإنشاء، لأن رصيدهم من القوى العصبية لا يكفي لهذا الابتكار الكامل، ولا يصلح لمواجهة نظام مبتكر لم يألفوه في الأربعين أو الثلاثين سنة التي عاشوها في ظل النظام الديواني العتيق!
وهناك أمثلة كثيرة. . . ولكننا لا نمضي في سردها لأنها ليست علة بذاتها، وإنما هي أعراض لعلة أصيلة؛ هي عدم وجود سياسة إنشائية مرسومة، قائمة على تحقيق العدالة الاجتماعية وتجديد المجتمع المصري تجديداً كاملا في شتى الاتجاهات
وهذا التجديد الكامل في حاجة إلى عقلية لا ماضي لها! في حاجة إلى عقلية إنشائية مبتكرة، تنفر من أنصاف الحلول، وتشمئز من منظر الترقيع في الثوب البالي القديم!!
ونحن - إذن - في حاجة إلى أحزاب جديدة ذات عقلية إنشائية إلى المجتمع المصري على أنه وحدة كاملة، وترسم لإنشائه وتجديده سياسة جريئة حازمة متناسقة، موحدة الروح في شتى الوزارات والدواوين والإدارات، وتتفاضل فيما بينها بالبرامج الاجتماعية الشاملة التي تعالج بها المجتمع المصري المريض
وإذا قلت البرامج الاجتماعية الشاملة، فإنما أعني الاقتصاد والثقافة والتشريع بوجه خاص.
فمن الناحية الاقتصادية نحن مجمعون على سوء توزيع الثروة العامة وعلى ضآلة الثروة القومية. أما الوسائل لمعالجة هذين النقصين فقابلة للاختلاف بين الأحزاب.
والبرنامج الاجتماعي الذي يعالج هذه الظاهرة لا بد أن يكون ذا أثر الاتجاهات الثقافية، فيحرص على إتاحة الفرص لكل فرد إتاحة حقيقية بريئة من التهريج الحزبي، ولن يتحقق هذا إلا بأن يجد كل راغب في التعليم الصالح له مكاناً في المدرسة المصرية لا يصده عنه عجزه عن النفقات التعليمية، ولا حاجة أهله إليه ليعمل في سبيل القوت قبل أن يتجاوز سن التعليم
ولا يكفي أن يتاح له التعليم على هذا الوجه، بل لابد أن يكون هذا التعليم موجهاً اجتماعياً معيناً يقرر مبدأ العدالة الاجتماعية في أذهان النشء، حتى يصبح إحدى العقائد التي تبثها المدرسة في نفوسهم بتعاليمها ونظمها وتوجيهاتها النظرية كذلك
وعندئذ يكون للتعليم المصري طابع ويكون للمدرسة هدف اجتماعي بجانب الهدف التعليمي الذي تسير إليه الآن على غير قصد ولا انتباه!
والتشريع هو أحد الأدوات لتحقيق البرامج الاجتماعية الشاملة، فيجب أن يكون للتشريع عقلية موحدة ترمي إلى أهداف موحدة، وتتفق مع البرامج الاجتماعية بوجه عام.
والكلمة الآن للأحزاب المصرية القائمة، ولكنها في الأغلب لمجموعات الشباب التي لم تتقيد بماض ثقيل يشلها عن الحركة الحرة في الاتجاه والتنفيذ على السواء
أما الأحزاب القائمة، فقد أدت دورها، ومن الواجب أن تنسحب من المسرح قبل فوات الأوان، ذلك إلا أن نستطيع التجدد والتحور لنواجه الحاضر والمستقبل، وهذا ما لا أحسبها تطيقه، وليس في تاريخها حتى اليوم ما يدل على أنها تراه.
سيد قطب