الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 625/لزوم ما لا يلزم

مجلة الرسالة/العدد 625/لزوم ما لا يلزم

بتاريخ: 25 - 06 - 1945


متى نُظم وكيف نظُم ورُتب؟

للدكتور عبد الوهاب عزام

- 2 -

كانت أمور الشام ولا سيما البلاد الشمالية في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس مضطربة بين سلطان الفاطميين والأمراء المتغلبين من بني حمدان ومواليهم ومن رؤساء القبائل العربية. وقد استولى صالح بن مرداس الكلابي صاحب الرحْبة على جلب في هذا الاضطراب سنة 402. ثم وقعت خطوب رَدّت حلب إلى سلطان الفاطميين حيناً. فلما قتل نائب الفاطميين عزيز الدولة سنة 412، وتولى من قِبلهم ابن شعبان طمع صالح ابن مرداس في التغلب على نوّاب الفاطميين فحالف أثنين من رءوس العرب هما حسَّان الطائي وسنان بنُ عليّان الكلبي واتفقوا على أن يقتسموا الشام من حلب إلى حدود مصر. فصارت حلب وما يليها لصالح، ودمشق لسنان، والرملة وما يليها إلى مصر لحسَّان. وذلك عام 414. وقد تقدمت أبيات المعري التي تذكر هذا التقسيم.

هذه حوادث وقع بعضها في العقَد الأول من القرن الخامس ومعظمها في العَقد الثاني. فهذه الأبيات قد نظمت كذلك في هذين العقدين ولا سيما الثاني منهما.

ثانياً - يُذكر صالح بن مرداس في اللزوميات مرات أخر لحادث آخر كان له في نفس المعري اثر باق.

نقل ياقوت عن أبي غالب بن مهذب المعري في حوادث سنة 417 من تاريخه: (صاحت امرأة يوم الجمعة في جامع المعرة وذكرت أن صاحب الماخور أراد أن يغتصبها نفسها. فنفر كل من في الجامع وهدموا الماخور واخذوا خشبه ونهبوه. وكان أسد الدولة (صالح) في نواحي صيدا فوصل الأمير أسد الدولة فاعتقل من أعيانها سبعين رجلا. وذلك برأي وزيره تادرس بن الحسن الأستاذ. وأوهمه أن في ذلك إقامة للهيبة - قال ولقد بلغني أنه دعي لهؤلاء المعتقلين بأمد ومياقارتبن على المنابر - وقطع تادرس عليهم ألف دينار. وخرج الشيخ أبو العلاء المعري إلى أسد الدولة صالح وهو بظاهر المعرة وقال له: مولان السيد الأجل أسد الدولة ومقدمها وناصحها كالنهار المانع أشتد هجيره وطاب بَرداه، وكالسيف القاطع لأن صفحه وخشن حداّه. خذ العفو وأمُر بالعرف وأعرض عن الجاهلين.

فقال صالح قد وهبتهم لك أيها الشيخ. ولم يعلم أبو العلاء أن المال قد قُطع عليهم وإلا كان قد سأل فيه).

ونقل ياقوت أيضاً عن القفطي أنه وجد على ظهر ديوان الأعشى في مدينة قفط سنة 585 ما يأتي: (حكي أن صالح ابن مرداس صاحب حلب نزل على معرة النعمان محاصراُ لها ونصب عليها المجانيق وأشتد في الحصار لأهلها فجاء أهل المدينة إلى الشيخ أبي العلاء لعجزهم عن مقاومته لأنه جاءهم بما لا قبل لهم به وسألوا أبا العلاء تلافي الأمر بالخروج إليه بنفسه وتدبير الأمر برأيه أما بأموال يبذلونها أو طاعة يعطونها. فخرج ويده في يد قائده وفتح الناس له باباً من أبواب معرة النعمان، وخرج منه شيخ قصير يقوده رجل. فقال صالح هو أبو العلاء فجيئوني به. فلما مثل بين يديه سلم عليه ثم قال: الأمير أطال الله بقاءه كالنهار المانع الخ.

وهذه الحادثة ذكرها المعريّ في موضعين من اللزوميات في حرف الدال المكسورة واللام المكسورة. يقول:

تغيّبت في منزلي بُرهة ... ستيرَ العيوب فقيد الحسد

فلما مضى العمر إلا الأقلَّ ... وُحمّ. لروحي فراقُ الجسد

بُعثتُ شفيعاً إلى صالح ... وذاك من القوم رأى فسد

فيسمعُ منّى سجع الحمام ... وأسمعُ منه زئير الأسد

فلا يعجبَنّي هذا النَفاق ... فكم نفّقت محنه ما كسد

ويقول:

آليت أرغب في قميصِ مموِّه. ... فأكون شارب حنظل من حنضل

نجىَّ المعاشر من براثن صالح ... ربُّ يفرجِّ كل أمر مُعضل

ما كان لي فيها جناحُ بعوضةٍ ... والله ألبسهم جناحَ تفضُّل

فهاتان القطعتان نظمتا في حادث وقع سنة سبع عشرة وأربعمائة. والظن أن نظمهما لم يتأخر عن هذا التاريخ كثيراً.

ثالثاً - يذكر الشاعر (محموداً) في مواطن كثيرة يقول:

يسلك محمود وأمثاله ... طريق خاقان وكنداج

أسُّر إن كنتُ محموداً على خلُق ... ولا أُّسرُّ بأني المَلك محمود

ما يصنع الرأس بالتيجان يعقدها ... وإنما هو بعد الموت جلُمود

لا كانت الدنيا فليس يسرّني ... أني خليفتها ولا محمودها

سيموت محمود ويهلك آلك ... ويدوم وجه الواحد الخلاَّق

فمن مُبلغ عني المآلك معشراً ... علياً ومحموداً وخانا وآلكا

فما أتمنّى أنني كأجلّكم ... ولكن أضاهي المقترين الصعالكا

وكلمة آلك فيما أظن، يريد بها المعري ألِك خان وهو لقب لبعض ملوك تركستان الذين قامت لهم دولة بين سنة 320 وسنة 609، والظاهر أن أول من لقب منهم ألِك خان هو نصر بن علي فاتح ما وراء النهر المتوفى سنة 403. فهذا دليل على أن هذه الأبيات نظمت بعد هذا التاريخ. وأما علىّ المذكور في البيت فلم أعرف من هو إلا أن يكون علياً أسد الدولة أمراء بني مزيد تولى الملك من سنة 403 إلى سنة 408.

ومن محمود الذي كرر المعري ذكره وجعله مثلاً في الملوك وقال إنه يسرهّ أن يكون في منزلته، وإن الدهر سيبطش به كما بطش بالضعفاء؟

في تعليقات الطبعة المصرية أنه أمير إذ ذاك. ولا نعرف من تولى في تلك النواحي ذلك العصر إلا محموداً حفيد صالح ابن مرداس. ومحمود هذا تولى الإمارة سنة 452 وخلع في السنة التالية، ثم تأمر مرة أخرى سنة 454، فدامت له الإمارة حتى سنة 468. فقد تولى بعد وفاة المعري.

ولا أدري لماذا أثبت الشيخ الميمني البيت الأول: (يسلك محمود. . . الخ) أولَ فصل من كتابه عن المعريّ عنوانه: (هو ووزير محمود بن نصر بن صالح). نقل في هذا الفصل ما يقال عن تدبير محمود هذا لقتل المعري وخلاص المعري بالدعاء. وهي خرافة مَروّية نفاها الشيخ الميمني وقال إن محموداً تولى بعد وفاة المعري كما قلتُ. فهل الميمني مع نفيه هذه الخرافة، يظن أن محموداً الذي في البيت هو حفيد صالح ذكره المعري قبل توليه الملك؟ لا أدري لماذا أثبت هذا البيت في فاتحة هذا الفصل.

والذي أراه أن محموداً الذي أكثر المعري ذكره هو سلطان ذاع صيته في ذلك العصر وضرب المثل بقدرته وغناه، هو يمين الدولة السلطان محمود بن سبكتكين فاتح الهند. ولهذا قرنه المعري بالخليفة في البيت:

لا كانت الدنيا فليس يسرني ... أني خليفتها ولا محمودها

والسلطان محمود تولى من سنة 387 إلى سنة 421. فهذه الأبيات التي تضمنت أسمه قبل سنة 421 ولا ريب؛ لأن المعري يذكره ذكر الحياء، ويقول: سيموت محمود. . . الخ). ويؤكد ما رأيته في محمود هذا أن الشاعر يقول في اللزوميات أيضاً:

محمودنا الله والمسعود خائفة ... فعدّ عن ذكر محمود ومسعود

ملكان لو أنني خيّرت مُلكهما ... وعُود صَلب أشار العقل بالعود

ومسعود هو ابن السلطان محمود استقر له الملك سنة 421 بعد أن ظفر بأخيه محمد. وبقي له السلطان حتى سنة 432. وأما السلطان محمود السلجوقي وأخوه مسعود فقد ملكا في القرن السادس الهجري.

رابعاً - كان أبو القاسم المغربي الوزير ممن أقام بالمعرة، وكان يوادّ المعري ويراسله، وكان المعري يحفظ له ولأبيه من قبلُ أياديه. فلما توفي رثاه بأبيات مثبته في اللزوميات. ولا أعرف فيها رثاء لغيره أو مدحا صريحاً.

ليس يبقى الضرب الطويل على الده ... ر ولا ذو العبَبالة الدرِحايه

يا أبا القاسم الوزير ترَّحا ... ت وخلَّفتني ثقال رحايه

وتركت الكتب الثمينة للنا ... س وما رحت عنهمُ بسَحايه

ليتني كنت قبل أن تشرب المو ... ت أصيلاً شربتُه بضُحايه

إن نحتْك المنون قبلي فإني ... منتحاها وإنها منتحايه

أمُّ دَفْر تقول بعدك للذا ... ئق لا طعم لي فأين فحايه

إن يَخطّ الذنبَ اليسير حفيظا ... ك فكم من فضيلة محاَّيه

وهذا الوزير توفي سنة 418. فهذه القطعة نظمت في هذه السنة.

خامساً - يقول المعري:

ألم ترني وجميع الأنام ... في دولة الكذب الذائل مضى قَيلُ مصر إلى ربِّه ... وخلَّى السياسة للخائل

وقالوا يعود فقلنا يجوز ... بقدرة خالقنا الآئل

إذا هبَّ زيد إلى طيَّئ ... وقام كليب إلى وائل

أظن أن قَيل مصر المعنىّ في هذا البيت هو الحاكم بأمر الله الفاطميّ، فهو الذي انتظر بعض الناس عودته. والحاكم هلك سنة 411. فالظاهر أن هذه الأبيات نظمت قريباً من هذا التاريخ.

(ب) سن المصري في اللزوميات:

يذكر المعري سنه في اللزوميات تصريحاً وتلويحاً؛ تارة يقول بلغت كذا أو جاوزت كذا، وتارة يقول: إذا بلغ الإنسان كذا آن له أن يرعوي أو حان له أن يهلك. وقد عَبرت اللزوميات مستقصياً الأبيات الذي يذكر فيها سنّه؛ فإذا هو يذكر الأربعين مراراً ويذكر الخمسين كثيراً ولا يذكر ما دون الأربعين إلا مرة واحدة قدمت الكلام فيها، وذكر السبعين مرة سأثبتها من بَعد.

يقول في الهمزية التي افتتح بها اللزوميات:

إذا ما خبت نار الشبيبة ساءني ... ولو نُصّ لي بين النجومِ خباء

أرابيك في الودّ الذي قد بذلتَه ... فأضعِفُ إن أجدىَ لديك رباء

وما بعد مرّ الخمس عشرة من صبا ... ولا بعد مرّ الأربعين صَباء

ويقول:

خَبر الحياة شرورها وسرورها ... من عاش مدة أول المتقارب

وأفى بذلك أربعين فما له ... عذر إذا أمسى قليل تجارب

ومتى سرى عن أربعين حليفها ... فالشخص يصغر والحوادث تكبر

ورميت أعوامي ورائي مثل ما ... رمت المطىُّ مهامه السُفَّار

وركبت منها أربعين مطيّة ... لم تخْلُ من عَنَتٍ وسوء نِفار

شربتُ سِني الأربعين تجرعا ... فيا مقراً ما شربهُ في ناجع

ويجوز أن تدل هذه القطعة أنه بلغ ثمانياً وأربعين:

عش يا ابن آدم عدة الوزن الذي ... يُدعي الطويلَ ولا تجاوزه ذلكا فإذا بلغت وأربعين ثمانياً ... فحياة مثلك أن يوسَّد هالكا

وأما ذكر الخمسين فأكثر وأصرح:

حياتي بعد الأربعين منيّة. ... ووجدان حِلف الأربعين فقود

فمالي وقد أدركت خمسة أعقُد. ... أبيني وبين الحادثات عقود؟

إذا كنتُ قد جاوزت خمسين حِجة ... ولم ألق خُسرا فالمنيّة لي سِتر

وما أتوقّي، والخطوب كثيرة، ... من الدهر إلا أن يَحلَّ بي الهِتر

إذا طلع الشيب الملمُّ فحيِّه ... ولا ترض للعين الشباب المزوَّرا

لقد غاب عن فوديك خمسين حجة ... فأهلاً به لما دنا وتسوَّرا

وما العيش إلا لُجّة باِطليَّة ... ومن بلغ الخمسين جاوز غَمرها

أخمسين قد أفنيتها ليس نافعي ... بتأخير يوم أن أعَضَّ على خمس

لا خير من بعد خمسين انقضت كَمَلا ... في أن تمارس أمراضاً وأرعاشا

خمسون قد عشتَها فلا تعشِ ... والنعش لفظ من قولك انتعش

عَلِقتُ بحبل العمر خمسين حجة ... فقدرتّ حتى كاد ينصرم الحبل

كأنك بعد خمسين استقلَّت ... لمولدك، البناءُ دنا ليهوِي

وقد ذكرت الخمسون في ثلاث قطع أخرى، في حرف الطاء والكاف والميم. ولم تذكر الستون في اللزوميات قط. وجاء ذكر السبعين في قوله:

من عاش سبعين فهو في نصب ... وليس في العيش بعدها خِيَره

(يتبع)

عبد الوهاب عزام