مجلة الرسالة/العدد 625/بحث في الصلاة
→ في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب | مجلة الرسالة - العدد 625 بحث في الصلاة [[مؤلف:|]] |
حول انهيار فرنسا ← |
بتاريخ: 25 - 06 - 1945 |
للدكتور جواد علي
بين يديّ رسالة للمستشرق اليهودي المعروف المرحوم أويكين ميتوخ بحث فيها عن الصلاة عند المسلمين وقارن بينها وبين الصلاة عند اليهود. وقد أجهد المستشرق نفسه ليصل إلى نتيجة كان يقصدها ويريدها قبل الدخول في الموضوع، هي أن الرسول الكريم أخذ صلاته من صلاة اليهود كما أخذ سائر الطقوس والعبادات.
وبين يدي أيضاً بعض الأبحاث العلمية التي قام نفر من المستشرقين في نفس هذا الموضوع، أي تطور الصلاة ونشوء العبادات في الإسلام، كبحث المستشرق المجرى اليهودي كولد زهير وبحث المستشرق الهولندي جوينبول وأبحاث المستشرق المرحوم بيكر
وهي تسير على نفس الأسلوب ولكنها تختلف في النتائج. إذ من رأى هؤلاء أن النبي عليه الصلاة والسلام أخذ صلاته وعباداته عن النصارى لا اليهود.
وبالنظر إلى ما في أبحاث هؤلاء المستشرقين من أمور لا تقرها الحقيقة رأيت أن أكتب في هذا الموضوع، وأن أقارن بين الصلاة في الإسلام وبين الصلاة في اليهودية خاصة، لكونها أساس الصلاة عند المسيحيين فأقول:
أجمعت المذاهب الإسلامية قاطبة على أن هنالك خمس صلوات مفروضة في اليوم، وأجمعت كذلك على عدد الركعات؛ فصلاة الصبح ركعتان، وصلاة الظهر والعصر والعشاء أربع ركعات إلا صلاة المغرب فإنها ثلاث ركعات.
ولم تختلف المذاهب الإسلامية قديماً وحديثاً في الشكل الأساسي للصلاة ولا في هيكلها وكيفيتها، وإنما اختلفت، وإنما اختلف في مسائل فرعية طفيفة لا علاقة لها بالوضع العام للصلاة. فطريقة الركوع والسجود واحدة بين الجميع، وعدد الركعات ثابت كما قلنا، والاتجاه نحو القبلة واجب لا خلاف فيه. وأما فيما عدا ذلك مثل الجهر بالقراءة أو الإخفات، وإسبال اليدين في الصلاة أو (التكتيف) فوق السرة أو تحتها، وجواز القنوت أو عدم جوازه، ورفع السبابة في التشهد أو عدم رفعها وإدارة الرأس نحو اليمين واليسار حين السلام أو عدم ذلك، ثم الحد الأدنى للآيات التي يجب قراءتها في الصلاة، وأمثال ذلك، فإن كل هذه لا تؤثر على هيكل الصلاة وشكلها كما قلنا ويكاد يصعب على غير المسلم تمييز هذه النقاط
(والصلاة هي الدعاء وعبادة الله الرحمن الرحيم بأقوال وأفعال ونظام وترتيب جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام واتبعه الصحابة وفسره أئمة الدين الذين تفرغ كل منهم لوصف ما وصل إليه وتمحيصه من صحيح العلم ودقيق العمل كما كان عن النبي ﷺ وما فعل الصحابة الذين عاصروه وقاموا باتباع ما جاء به. . ولكم في رسول الله أسوة حسنة. . .).
والصلاة مظهر من مظاهر تعلق الفرد بخالقه وواجب من واجبات الإنسان الدينية والانفرادية والاجتماعية في كل الأيام وعند جميع الشعوب وهي التكلم مع الله وطلب ما يحتاج إليه الإنسان مع الشكر لأجل المراحم الإلهية. ففي الصلاة إذا عنصران: عنصر الشكر للإله ومدحه وتبجيله على عظمته وبديع صنعه؛ وعنصر الطلب من الله القوي القهار الذي يسأل فيجيب
وهي فرض في الإسلام واجب لأنها ركن من أركان الدين ولأنها (مفتاح من مفاتيح الجنة) والصلاة عماد الدين جاء في القرآن الكريم (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون) وجاء في القرآن الكريم أيضاً (ما سلككم في سقر؛ قالوا لم نكن من المصلين ولم نك نطعم المسكين، وكنا نخوض مع الخائضين، وكنا نكذب بيوم الدين، حتى أتانا اليقين) وجاء عن النبي (ص) أنه قال (من ترك الصلاة متعمداً فقد كفر جهاراً)
وجاء أيضاً (من ترك الصلاة متعمداً أحبط الله عمله وبرئت منه ذمة الله يراجع الله توبته). فالصلاة إذا فرض واجب على كل مسلم؛ من تركها متعمداً فهو ليس بمسلم وعد كافراً وجاز قتله. وفي الكتب التي أرسلها الرسول إلى القبائل العربية ذكر للصلاة بعد الإيمان وفي الحديث (بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً)
والصلاة في الأصل الدعاء والرحمة والاستغفار والبركة ثم خصصت لنوع معين من أنواع العبادات فيها ركوع وسجود وحركات معينة وقواعد ثابتة لا تتأثر بإرادة المصلي ولا برغبته وميوله ولا بالوقت الذي يريده إذا كانت الصلاة مفروضة واجبة وللصلوات شكل معين معلوم وإن لم يعينه القرآن إلا أنه معين باتفاق الصحابة والمذاهب الإسلامية عليه.
ثم إن الصلوات اليومية الخمس تؤدي في أوقات معينة معلومة لا يمكن المصلي أن يتخطاها وإلا اعتبر وأصبحت صلاته باطلة. وأما الدعاء فإنه يكون في أي وقت وفي أي صورة يريدها المتضرع؛ فهو لا يتقيد بقيود ولا يتعين بشكل خاص ولا يكون في الصلاة إلا في مواضع معينة مخصوصة.
وكلمة (صلاة) آرامية في الأصل ثم استعملها اليهود فأصبحت لفظة آرامية عبرية دخلت اللغة العربية عن طريق اليهود أو المسيحيين. استخدام اليهود هذه الكلمة (صلوتة) في الأزمنة المتأخرة من عهد التوراة حتى أصبحت كلمة مألوفة ذات معنى ديني خاص. وفي القاموس (والصلوات كنائس اليهود وأصله بالعبرانية صلوتة) ومن جملة الصلاة (الدعاء) إلا أن (الدعاء) في الإسلام هو الابتهال إلى الله بالسؤال والرغبة فيما عنده من خير. ويقابل لذلك في العبرية كلمة (تحنونيم) ومعناها التضرعات والدعاء! وأما الصلاة التي هي ركوع وسجود فإنها تقابل لفظة (تفلوت) التي تعني صلوات قبل أن تخصص الصلاة عند اليهود بكلمة (صلوتة) الآرامية في عهود التوراة المتأخرة.
والذي لاحظه المتبعون أن الشعوب القديمة حتى البربرية منها كانت تقوم بفروض دينية يصح أن نطلق عليها لفظة (صلاة) ومن بين ما عثر عليه المنقبون بعض النصوص القديمة التي كان يقرؤها الآشوريون والبابليون في الصلاة. والصلاة عادة طقوس خاصة وشرائط لا بد منها؛ وبدون هذه الشروط تكون الصلاة باطلة غير مقبولة مثل ضرورة الغسل وشروط الملابس والبخور والوضع في المعبد وما يجب على المرء أن يقوم به أثناء الصلاة وهي تختلف باختلاف الأمم وعقليات الشعوب.
وقد لعبت الصلاة في العصور الوثنية دوراً هاماً. اعتقد الوثنيون أن المرء متى أحسن أداء الصلاة وقرأ النصوص التي لا بد منها كما هي مكتوبة وقام بجميع أركان الصلاة وناجي آلهته في صلاته بأسمائها الصحيحة فإن الآلهة تلبي طلب المصلي لا محالة وتجبر على إجابة رغباته حتماً.
وفي استطاعة المصلي أيضاً إذا ما كرر الكلمات المقدسة في صلاته طرد الأرواح الخبيثة والعوالم الشريرة عنه وفي المصلي استخدام الأرواح العليا لقضاء مصالحه وطلباته ولتنفيذ رغباته فيما إذا أحسن المصلي أداء الصلاة. جاء في ياسنا من دين زرا دشت (وبواسطة صلاتي هذه يا مزدا ? أرجو منك طرد الأرواح الشريرة والخبائث).
ومن الأمور التي تهتم بها الشعوب في صلاتها مسألة عدد الصلوات اللازمة على كل إنسان وتعيين أوقات الصلاة بالضبط ليتسنى لكل مؤمن أداء الفرائض في أوقاتها ومواقيتها. وقضية الوقت هي قضية مهمة جداً فإن لم تعين أوقات الصلاة وتضبط التبس الأمر على المؤمن وحار، لذلك ارتبط مواعيد الصلاة بالصلاة مذ صلى الإنسان الأول. وبالنظر إلى عدم معرفة الإنسان طريقة فنية لضبط الأوقات، وبالنظر إلى عقيدة تقديس الأجرام السماوية والانصراف إلى عبادتها ربط الإنسان أوقات صلاته بأوقات ظهور الأجرام السماوية؛ ولا سيما الكبيرة منها، وأعني بذلك الشمس والقمر؛ لأن عقلية الإنسان الابتدائي تمييز هذين الجرمين لكبرهما عن الأجرام الأخرى بسهولة، ولذلك كان الشروق والغروب ووقت الزوال أحياناً من أوقات الصلاة المفروضة لدى غالبية الأمم والقبائل والشعوب.
وحتمت الديانات الآرية القديمة والسامية منذ أقدم الأزمنة على الإنسان الصلاة في أوقاتها، فمن الواجبات الدينية على كل رجل من أتباع زردشت بلغ سن التكليف الديني أن يصلي ثلاث مرات في اليوم صباحاً وعصراً ووقت العشاء (المغرب) وعليه فضلا عن ذلك صلاة وهي الصلاة التي يجب على كل رجل أداؤها حين ذهابه إلى الفراش لأجل النوم، وبعد نهوضه من النوم مباشرة.
(البقية في العدد القادم)
جواد علي