مجلة الرسالة/العدد 624/لزوم ما لا يلزم
→ حول انهيار فرنسا | مجلة الرسالة - العدد 624 لزوم ما لا يلزم [[مؤلف:|]] |
قصة كتاب: ← |
بتاريخ: 18 - 06 - 1945 |
متى نظم وكيف نظم ورتب؟
للدكتور عبد الوهاب عزام
عميد كلية الآداب في جامعة فؤاد الأول
عنيت بابي العلاء المعري ناشئاً، وكتبت في أخباره وأشعاره تلميذاً. وما زلت معنياً به حافظاً لأخباره وأشعاره. واللزوميات أعظم آثار الرجل، وهي سجل عقائده وآرائه، ولها النصيب الأوفر من أحاديث من يتحدثون عن المعري، وكتابة من يكتبون في فلسفته.
وكثيراً ما سألت الأدباء وسألت نفسي: متى نظمت اللزوميات وكيف رتبت؟ أخط الشاعر خطتها ثم نظمها ولاء على ترتيب حروف الهجاء، فآراؤه غيها متوالية على هذا الترتيب؛ ما تتضمنه أبيات على رويّ الهمزة مقدم زماناً على ما يذكر في أبيات على رويّ الباء وهلم جراً؟ أم نظم الرجل ما نظم ثم رتبه على حروف الهجاء، فقدم متأخراً وآخر متقدماً، مسايرة للترتيب الهجائي؛ فما يعرف المتقدم والمتأخر من شعر الرجل إلا ما دلت عليه حوادث مذكورة فيه، ولا يستطاع تتبع أفكاره ورعاية تطورها على الزمان؟ وكنت أقول إنه لابد لمؤرخ أبي العلاء من أن يفصل في هذه القضية، فيجزم بأن اللزوميات مرتبة على الزمان أو غير مرتبة.
لذلك أعدت قراءة اللزوميات مستوعباً، متقصياً الأبيات التي تذكر فيها حوادث معروفة أو رجال معروفون، والتي تذكر فيها سن أبي العلاء أو حاله من الشباب والكهولة والشيخوخة. وراجعت ما أثره التاريخ من أخبار الرجل، وذكر كتبه، فانتهيت إلى القضايا التي أسجلها فيما يأتي:
- 1 -
متى نظمت اللزوميات
جمهرة شعر أبي العلاء في مجموعتين: الأولى تتضمن شعر الصبا والشباب وهي التي سماها سقط الزند، وقد جرى في هذا الشعر مجرى الشعراء الآخرين، فمدح وهجا وتغزل ورثى ووصف الخ.
وقد قال أبو العلاء في مقدمة سقط الزند:
(وقد كنت في ربان الحداثة، وجن النشاط، مائلاً في صفو القريض، أعتده بعض مآثر الأديب، ومن أشرف مراتب البليغ، ثم رفضته رفض السقب غرسه، والرأل تريكته؛ رغبة عن أدب معظم جيده كذب، ورديئه ينقص ويجدب).
وقال مستملي أبي العلاء الذي كتب ثبت كتبه كما رواه ياقوت في معجم الأدباء:
(ومن غير هذا الجنس كتاب لطيف فيه شعر قيل في الدهر الأول يعرف بكتاب سقط الزند وهو ثلاثة آلاف بيت)
وفي سقط الزند قصائد قالها في بغداد، وأخرى أرسلها إلى بغداد بعد رجوعه إلى المعرة سنة أربعمائة، وأبيات قيلت بعد سنين كثيرة من اعتكافه في المعرة كالبيتين اللذين مدح بهما القاضي ابن نصر المالكي. فإن هذا القاضي مر بالمعرة في طريقه من بغداد إلى القاهرة، ولم تطل إقامته بمصر، فتوفي بها سنة اثنتين وعشرين وأربعمائة، فقد نظم المعري هذين البيتين حوالي سنة عشرين وأربعمائة. ومرثية جعفر بن علي بن المهذب التي مطلعها:
أحسن بالواجد من وجده ... صبر يُعيد النار في زنَده
والمجموعة الثانية هي التي سماها (لزوم ما لا يلزم)
- 2 -
هذه المجموعة الثانية من أشعار أبي العلاء قد نظمت بعد رجوعه من بغداد. وقد خط خطتها، وتكلف لها ما تكلف من لزوم ما لا يلزم. ومن استيعاب الحروف الهجائية على الحركات الثلاث والسكون. قال في مقدمتها:
(كان من سوالف الأقضية أني أنشأت أبنية على أوراق توخيت فيها صدق الكلمة، ونزهتها عن الكذب والميط. ولا أزعمها كالسمط المتخذ، وأرجو ألا تحسب من السميط. فمنها ما هو تمجيد لله الذي شرف عن التمجيد. . . الخ).
وقال في المقدمة كذلك:
(وقد تكلفت في هذا الكتاب ثلاث كلف:
الأولى: أنه ينتظم حروف المعجم عن آخرها والثانية: أن يجيء رويه بالحركات الثلاث وبالسكون بعد ذلك
والثالثة: أنه لزوم عن كل روي فيه شيء لا يلزم من ياء أو تاء أو غير ذلك من الحروف)
فهذا شعر حدد موضوعه واختير له نظام في القوافي، وترتيب على الحروف وحركاتها، وكأنه كتاب من كتب العلوم اتصل تأليفه حتى كمل، وهي خطة تسلى بها المعري في عزلته، فينبغي أن يكون تاريخه متصلاً ونظمه متوالياً
وأنا أدعي أن ما تضمن هذا الكتاب من الآراء هو فلسفة أبي العلاء في عزلته بعد سنة أربعمائة، وأن هذا الكتاب كله، إلا أن تشذ أبيات قليلة، نظم بعد هذه السنة.
يدل هذا على أن أبي العلاء قال في مقدمة السقط: إنه رفض الشعر. وقال في مقدمة اللزوميات: (وقد كنت قلت في كلام لي قديم: إني رفضت الشعر رفض السقب غرسه، والرأل تريكته، والغرض ما استجيز فيه الكذب، واستعين على نظامه بالشبهات. فإما الكائن عظة للسامع، وإيقاظاً للمتوسن، وأمراً بالتحرز من الدنيا الخادعة وأهلها الذين جبلوا على الغش والمكر، فهو أن شاء الله مما يلتمس به الثواب)
فهذا النظم الذي توخى فيه العظة والإيقاظ كان بعد النظم الذي جرى فيه مع الشعراء، ثم رفضه رفض السقب غرسه، والرأي تريكته كما تقدم
ودليل آخر أنه ذكر سنه في كثير من أبيات اللزوميات تصريحاً وتلويحاً، ولم يذكر ما دون الأربعين، وهو قد بلغ الأربعين سنة ثلاث وأربعمائة إلا بيتاً واحداً في هذه القطعة:
إذا هبَّت جنوب أو شَمال ... فأنت لكلِّ مُقتاد جنيب
رويدك إنْ ثلاثون استقلَّت ... ولم يُنب الفتى فمتى ينيب؟
والخطاب في هذا البيت إما أن يكون لغير شاعر، وإما أن يكون بعض اللزوميات قد نظم حين جاوز الثلاثين قبل سفره إلى بغداد، وإما أن تكون هذه القطعة نظمت كذلك بعد رجوعه من بغداد واعتزامه الاعتزال، وكانت سنه حينئذ سبعاً وثلاثين سنة، فقد مضت الثلاثون ولم يبلغ الأربعين؛ فليس بعيداً أن يذكر مرور الثلاثين. ومها يكن فجمهرة الكتاب نظمت بعد سنة أربعمائة كما أسلفت.
ودليل آخر على أن أبي العلاء شرع ينظم اللزوميات بعد رجوعه من بغداد بقليل، أنه يذكر في اللزوميات - كما فعل في سقط الزند - رحلته إلى العراق آسفاً على الرحيل وعلى الأوبة. وهذا في غالب الظن، لا يقال بعد مضي سنين كثيرة على هذه الرحلة:
وما بَي طِرق للمسير ولا السُّرى ... لأني ضرير لا تضيء لي الطُرْق
أغِربانُك السُحم استقلَّت مع الضحى ... سوانحَ أم مرّت حمائمك الوُرق
رحلتُ فلا دنيا ولا دين نلته ... وما أوبتي إلا السفاهة والخرق
يا لهف نفسي على أني رجعت إلى ... هذي الديار ولم أهلك ببغداذا
إذا رأيت أموراً لا توافقني ... قلت الإياب إلى الأوطان أدَّى ذا
شُئِمتِ يا هَّمة عادت شآميَة ... من بعد ما أوطنت عصراً ببغداذى
وأزيد على هذه الأدلة أن أبا العلاء ذكر سن الأربعين مرات في اللزوميات، وقد بلغها بعد رجوعه بسنين ثلاث
- 3 -
إن كان المعري شرع ينظم لزوم ما لا يلزم حين رجع من بغداد أو بعد رجوعه بقليل، فكم استمر ينظمها، ومتى انتهى من نظمها وجمعها ورتبها وكتب لها المقدمة التي كتب؟
يمكن أن نجيب على هذا السؤال بوسيلتين: الأولى تتبع الحادثات التي ذكرها والرجال الذين أورد أسماءهم في شعره؛ والثانية استقراء الأبيات التي ذكر فيها سنه
(1) الحوادث والرجال:
1 - أولاً: بنو عامر وطئ
يذكر أبو العلاء فتناً وخطوباً أثارها بنو عامر وطئ في الشام وما حولها، ويسمى بعض رجالهم في مواضع كثيرة، منها:
إذا عامر تبعت صالحا ... وزجّت بنو قرّة الحردَبا
وأردَف حسانُ في مائج ... متى هبطوا مُخصباً أجدبا
وإن قرعوا جبلاً شِامخاً ... فليس يُعنّفُ أن يَحدَبا
رأيتَ نظير الدَبا كثرة ... قتيرُهمُ كعيون الدَبا
ومنها:
ألم تر طيئاً وبني كلاب ... سموا لبلاد غزّة والعريش ولو قدروا على الطير الغوادي ... لما نهضت إلى وكر بريش
ويذكر طيئاً وزعيمها حسان في قوله:
قد أشرعتِ سنبسٌ ذوابلها ... وأرهفت بُحتُر معابلها
لفتنة لا تزال باعثة ... رامحها في الوغى ونابلها
حسان في الملك لا يحَس لها ... تُزْجُي إلى موتها قنابلها
ويقول:
أرى حَلباً حازها صالح ... وجال سِنان على جلّقا
وحسّان في سَلفي طيء ... يصرف من عِزّه أبلقا
فلما رأت خيلهم بالغبار ... ثَغاماً على هامهم عُلِّقا
رمت جامع الرملة المستضام ... فأصبح بالدم قد خُلِّقا الخ
وقد رثي للرملة وحزن لما ناب أهلها؟ يقول:
والرملة البيضاء غودر أهلها ... بعد الرفاغِة يأكلون قفارها
عتروا الفوارس بالصوارم والقنا ... والمَلْك في مصر يعتَّر فارها
جعلوا الشفار هواديا لتنوفه ... مرهاء تكحل بالدُجى أشفارها
تكبو زناد القادحين وعامر ... بالشام تقدح مَرخها وعَفارها
ويقول:
أيا قَيلُ إن النار صال بحرّها ... مقيم صلاة والمهنّد وارس
وبالرملة الشعثاء شيبٌ وِولده ... أصابهم مما جنيت الدهارس
وقد ظهرت أملاك صر عليهم ... فهل مارست من ظلمها ما تمارس؟
وأحسنُ منكم في الرعية سيرة ... طَغج بنُ جف حين قاَم وبارس
وقد ذكر المعري هذه الحادثات في سقط الزند كذلك، إذ قال في القصيدة التائية التي بعث بها إلى علي التنوخي بعد رجوعه من العراق:
بيني وبينك من قيس وأخوتها ... فوارسٌ تذر المكثار سِكيّتا
ويقول في القصيدة الطائية التي أرسلها إلى خازن دار العلم ببغداد وهو محتجب بمعرة النعمان: وما أذهلتني عن ودادك روعة ... وكيف وفي أمثالها يجب الغبط
ولا فتنة طائية عامرية ... يحرَّق في نيرانها الجعد والسَبط
وقد طرحت حول الفرات جِرانَها ... إلى نيل مصر فالوَساع بها تقطو
فوارس طعانون ما زال للقنا ... مع الشيب يوماً في عواضهم وخط
وكل جواد شفّه الركض فيهم ... وَجٍ يتمنى أن فارسه سقط
ونيبالةٍ من بُحتُر لو تعمدوا ... بليلٍ أناسّي النواظر لمُ يخطوا
فما هذه الفتن التي ذكرها أبو العلاء ومتى كانت؟
(يتبع)
عبد الوهاب عزام