مجلة الرسالة/العدد 624/حول انهيار فرنسا
→ في إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب | مجلة الرسالة - العدد 624 حول انهيار فرنسا [[مؤلف:|]] |
لزوم ما لا يلزم ← |
بتاريخ: 18 - 06 - 1945 |
2 - حول انهيار فرنسا
لأستاذ عربي كبير
ولنترك مسائل المدح والإطراء والرثاء جانباً، ولنعد إلى أصل القضية ونتساءل ما إذا كانت أسباب انهيار فرنسا، هذا الانهيار السريع الذي يكاد يكون فجائياً؟. . .
فمن أبسط وأسهل الأجوبة التي تخطر على البال رداً على هذا السؤال هي أن فرنسا لم تكن مستعدة للحرب.
وفي الواقع أن هذا التعليل قد سيطر على الأذهان والأقلام، سيطرة غريبة. فإن معظم الذين كتبوا وعالجوا هذا الموضوع عللوا الانهيار بعدم الاستعداد والبعض منهم جعلوا من (عدم الاستعداد) هذا دليلاً على حسن الطوية ونبل الغاية.
فقد قرأت بين ما قرأته من المقالات حول هذا الانهيار في المجلات المصرية، هذا الحكم البتار:
(ما غلبوا إلا لأن الديمقراطية التي يعتقدونها لا تفكر إلا بالسلم ولا تتسلح إلا بالعهود والمواثيق والقوانين والشرف، وأن الديكتاتورية التي يعادونها لا تفكر ولا تتسلح إلا بالحديد والنار والدعاية والخيانة والكذب)
أنا لا أستطيع أن أسلم بصحة هذا الرأي، بالرغم من احترامي الشخصي لصاحبه؛ فلنستعرض الأعمال العسكرية والسياسية التي قامت بها فرنسا منذ انتصارها في الحرب العالمية المنصرمة: إنها استولت على مراكش من جهة، وعلى الشام من جهة أخرى، وجردت الحملات العسكرية على مختلف النواحي في أوربة وآسية، وأفريقية: حاربت الأتراك، حاربت العرب، حاربت الروس بعد الهدنة، اشتركت في احتلال قسم من البلاد الألمانية، وأقدمت بمفردها على الاستيلاء على قسم آخر منها؛ ساعدت دولة بولندة وتشيكوسلوفاكيا في تسليحاتها وتنظيماتها العسكرية، وقتلت أحابيل الحلف الكبير والحلف الصغير، وأخذت تدير دفة السياسة الأوربية بصوت مسموع ومكانة مرموقة. وأنفقت مبالغ طائلة في سبيل تشييد (خط ماجيينو) على طول الحدود الألمانية، ورصعت البلاد السورية والمراكشية بعدد كبير من المواقع العسكرية. . . فكيف يجوز والحالة هذه أن نقول إن فرنسا لم تفكر إلا في السلم، ولم تتسلح إلا بالعهود والمواثيق؟ العهود والمواثيق؟ هل احترمتها فرنسا - مثلاً - في سياستها السورية؟ ألم تكن أعمالها هناك - من أولها إلى آخرها - سلسلة حركات تتلخص في القسوة والعنف دون أن تتقيد المواثيق والمواعيد؟. . .
فالعامل الأصلي في الانهيار لم يكن عدم الاستعداد للحرب. وعلى من يخامره أدنى شك في هذا الباب أن يرجع بذاكرته إلى أوائل الحرب الحالية، ويتذكر ما كان يسمعه وما كان يقرأه من الآراء والأخبار حول قوة فرنسا العسكرية: فكلنا كنا نسمع كل يوم مقارنات طويلة عريضة، بين خط ماجينو وخط سيجفريد، مقارنات تنتهي بوجه عام بالمدح والإطراء على الأول وبالقدح والازدراء بالثاني. كل يوم كنا نسمع ونقرأ أخبار شتى كلها تؤكد تفوق المدفعية الفرنسية على المدفعية الألمانية وتبرهن على تفوق الطيران الفرنسي على الطيران الألماني. . .
ولا حاجة للبيان أن مصادر هذه الأخبار والدعايات كلها كانت فرنسية. . .
وكل شيء يدل على أن فرنسا كانت (تعتقد) أنها مستعدة للحرب أتم الاستعداد، وأنها ستنتصر بدون ريب. وإلا لما أقدمت على إعلان الحرب، ولأوعزت إلى بولندة بوجوب التساهل مع ألمانيا في قضية دانزيج والممر، ولانكبت بعد ذلك على إتمام استعداداتها؛ غير أنها لم تفعل ذلك، بل بالعكس شجعت بولندة على المقاومة، وانضمت إلى بريطانيا العظمى في توزيع (الضمانات) إلى اليمين واليسار، وعلى القريب والبعيد، ممن يطلبها أو لا يطلبها من الدول. . . فلا مجال للشك في أن فرنسا كانت مغرورة بقوتها ومخدوعة في قوة عدوتها.
من المعلوم أن القوة من الأمور النسبية؛ فالقوي بالنسبة إلى شيء، قد يكون ضعيفاً إلى شيء آخر، والغلط في التقدير في مثل هذه الأحوال قد ينتج من غلط في تقدير القوة نفسها، أو في غلط في تقدير القوة المقابلة لها، أو من غلط في كلا الأمرين. . . إن سير الوقائع يدل دلالة قطعية على أن فرنسا أخطأت خطأ فاحشاً في تقدير قوة ألمانيا. . .
فيجدر بنا أن نتساءل: لماذا أخطأت فرنسا كل هذا الخطأ الفاحش في تقدير قوة عدوتها؟
إننا أعزو سبب ذلك إلى انخداع فرنسا بأقوال اللاجئين الموتورين الذين هربوا من ألمانيا أو طردوا منها. . . وقد فتحت فرنسا أبوابها لهؤلاء، وأرادت أن تستفيد منهم ومن شكاواهم ودعاياتهم في إثارة الرأي العام العالمي ضد ألمانيا واستمالته نحو فرنسا. في حين أن القسم الأعظم من هؤلاء اللاجئين كانوا من الطفيليين الموتورين الذين لا يرتبطون بأي وطن من الأوطان العتيدة ارتباطاً قلبياً، ولذلك أخذوا يصورون ألمانيا على حقيقتها؛ صوروا النظام الجديد الذي قام في ألمانيا بصورة مجموعة من التعسف البربري تقوم بها جماعة من الطغاة فيكرهها جميع الناس. قالوا إن كل الناس ينفرون من النازية نفوراً شديداً ويستعدون للثورة عليها استعداداً كبيراً. كلنا سمعنا انعكاسات هذه الأقوال والمدعيات. ألمانيا على أبواب ثورة داخلية ستندلع نيرانها قريباً فتجرف الهتلرية جرفاً عنيفاً. . . كل شيء رديء هناك، حتى المعادن التي تصنع منها الأسلحة، حتى الأسمنت الذي يستعمل في بناء الحصون لم يكن من الأنواع الجيدة. . .
لقد فتح الفرنسيون أبواب بلادهم لمئات الألوف من هؤلاء الموتورين على مصراعيها، كما فتحوا آذانهم لسماع دعاويهم ودعاياتهم، وصاروا يصدقون كل ما يقولونه، ولا سيما أن ما يقوله هؤلاء كان موافقاً لما يتمناه الفرنسون كل التمني. . .
وأنا أميل إلى الاعتقاد بأن ذلك من أهم الأسباب التي أدت إلى انخداع فرنسا في تقدير قوة عدوتها، وأدت بها إلى الانكسار الفظيع. . .
فقد أفاضت الجرائد كثيراً في ذكر أعمال الذين سموا باسم (الطابور الخامس) وبحثت كثيراً عن الدور الذي لعبته الجمعيات التي كانت تقوم بدعايات متسترة - على حساب ألمانيا - ويهيئون بذلك الجو النفسي الملائم لعمل الجيوش الجرارة
غير أنني أقول: إن عمل أرتال اللاجئين في فرنسا لم يكن أقل تأثيراً من عمل الطوابير الخامسة في النتيجة النهائية. فإن أرتال اللاجئين الموتورين أضروا فرنسا من حيث كانوا يريدون خدمتها؛ وخدموا ألمانيا من حيث كانوا يعتقدون إضرارها. . لأن دعاياتهم خدعت الفرنسيين خدعة قوية في قوة ألمانيا، وجرتهم إلى الحرب والاصطدام مع قوى تفوق قواهم تفوقاً عظيماً. . . وأدت بذلك إلى انخذالهم ذلك الإنخذال المريع.
والآن، بعد أن حدث ما حدث فظهرت الحقائق للعيان، تبين بصورة لا تترك مجالاً للشك أن الجيش الألماني الذي هاجم الجيش الفرنسي، كان يفوقه تفوقاً عظيماً من جميع الوجوه المادية والمعنوية كان يفوقه تفوقاً بارزاً من حيث العدد والتجهيزات والانضباط والقيادة. .
وبتعبير أقصر، من حيث الكمية والكيفية. . .
من المعلوم أن ألمانيا كانت جردت من السلاح، وحرمت من حق التسلح بعد الحرب العالمية، فظلت محرومة من الأسلحة ومن مصانعها مدة تزيد على عشر سنوات، فعندما بدأت تتسلح مؤخراً - سراً في بادئ الأمر، وعلناً في نهاية الأمر - لم تتقيد بشيء من القديم - بطبيعة الحال. . . فاستحضرت أنواعاً جديدة من الأسلحة الحربية، وابتكرت أنواعاً جديدة من أساليب الحرب. ويظهر أنها كانت تمكنت من ابتكار أنواع عديدة، فاستفادت من كل نوع منها في إحدى صفحات حروبها المتوالية في بولندة، وفي النرويج، وفي هولندا، وعندما جاء دور هجومها على فرنسا استطاعت مفاجأتها بوسائط وأساليب حربية أخرى، أفسدت على الجيش الفرنسي جميع الخطط التي كان قد وضعها. . .
وزد على ذلك أن الجيش الألماني الذي أنقض على الجيش الفرنسي بمثل هذه الوسائط الحربية الجديدة، كان متفوقاً عليه تفوقاً كبيراً من حيث العدد أيضاً. وإذا بحثنا أسباب هذا التفوق العددي نستطيع أن نذكر أموراً كثيرة منها مساعدة الموقع الجغرافي، وسير صفحات الحرب، وكثرة وسائط النقل، ونظام خطط التعبئة. . وما أشبه ذلك من العوامل والأسباب، غير أننا - مع كل ذلك - نضطر إلى التسليم بأن السبب الأصلي يعود إلى كثرة العدد؛ إذ من المعلوم أن عدد نفوس ألمانيا يناهز ضعف عدد نفوس فرنسا، فلا غرابة، والحالة هذه أن يتفوق جيشها على جيش فرنسا تفوقاً كبيراً من حيث العدد أيضاً. . .
ومما يجدر بالانتباه أن قضية عدد السكان كانت من القضايا التي أخذت تشغل بال الفرنسيين وتثير مخاوفهم منذ مدة غير يسيرة، فإن الإحصاءات الموجودة تدل على أن نفوس فرنسا كانت مساوية لنفوس ألمانيا سنة 1865 غير أنها لم تزد بعد ذلك خلال سبعين سنة - أي حتى سنة 1935 - ألا ثلاثة ملايين، في حين أن نفوس ألمانيا - زادت خلال المدة نفسها - أكثر من ثلاثين مليوناً. . .
لاشك في أن قضية النفوس وحدها لا تكون من القضايا الحاسمة في سير التاريخ؛ فإن التاريخ يرينا أمثلة كثيرة من تغلب الأمم الصغيرة على بعض الأمم الكبيرة، بالرغم من قلة عدد نفوسها، غير أن مثل هذه الحوادث لا تحدث عادة إلا عندما يكون هناك فرق عظيم بين الأمتين، من حيث مستوى الحضارة والثقافة، وشدة الروابط الاجتماعية وقوة الإيمان القومي. . . وأما إذا كانت الأمتان متقاربتين من هذه الوجوه الثقافية والاجتماعية - كما هي الحالة في فرنسا وألمانيا الآن - فمن الطبيعي أن تكتسب قضية النفوس خطورة خاصة، وتؤثر في سير التاريخ تأثيراً كبيراً.
فقد انتبه عدد غير قليل من الكتاب والمفكرين في فرنسا إلى الخطر الذي اخذ يحدق ببلادهم من جراء نقص عددها؛ حتى أنه ظهر بينهم من قال: يجب أن نعلم بأننا في كل سنة من السنين التي تمر علينا على هذا المنوال نخسر معركة ونفقد جيشاً دون أن نقدم على حرب ودون أن نشعر بهذه الخسارة، في حين أن ألمانيا - بعكسنا - تربح في كل سنة معركة وتحصل في كل سنة على جيش جديد، دون أن تقدم على حرب ودون أن تضحي شيئاً في سبيل ذلك. . .
إلا أن الأمور ظلت على حالتها هذه بل زادت خطورة من جراء التدابير المتخذة في ألمانيا في هذا السبيل - لقد وضعت ألمانيا عدة قوانين واتخذت عدة تدابير لضمان تكاثر النفوس - زيادة على سير المعتاد - في حين أن فرنسا لم تخرج عن ساحة النقد والبحث في هذه المضمار، ولم تقدم على وضع قانون يعالج هذه القضية الحيوية بعض العلاج إلا قبل اندلاع نيران الحرب الحالية
كان يأمل رجال السياسة في فرنسا التغلب على المشاكل والمخاطر التي تنجم عن مسألة النفوس بوسيلتين غير مباشرتين.
الأولى - التجنيد من المستعمرات، وتقوية الجيش الوطني بجيش المستعمرات.
الثانية - تكون اتفاقات سياسية وعسكرية تربط فرنسا بكتل كبيرة قوية، تكفي لملافاة نقص النفوس الأصلي، بل تضمن التفوق على أعدائها من جهة النفوس أيضاً
غير أنه مما لا مجال للشك فيه أن الجيوش التي تجمع من أهالي المستعمرات - وتساق إلى ساحات الحروب سوقاً وتحمل على خوض غمار الحرب - دون أن تشعر بدافع باطني يحب إليها الاستقلال، أن مثل هذه الجيوش لا يمكن أن تتكافأ والجيوش الوطنية التي تعمل وتحارب بشعور وطني وإيمان قومي. . .
وأما الاتفاقات السياسية - فقلما تستقر على حال؛ فلا تستطيع أن تضمن المستقبل في جميع الأحوال، لأن منافع الدول والأمم معضلة إعضالاً شديداً، ومتشابكة تشابكاً كبيراً. فإذا رأت دولة ما أن من مصلحتها أن تتفق مع دولة أخرى في بعض الظروف، فقد ترى من مصلحتها أن تلتزم الحياد، أو تتفق مع غيرها عند تبدل الظروف. إن نظرة بسيطة إلى تقلب الاتفاقات السياسية وتطور التكتلات الدولية تكفي لإظهار ذلك للعيان. . .
هذه إيطاليا، فقد انضمت إلى فرنسا وإنجلترا، ضد روسية في حرب القرم، ثم اتفقت مع ألمانيا ضد فرنسا بعد استيلاء الأخيرة على تونس؛ ومع هذا لقد انضمت إلى أعداء ألمانيا خلال الحرب العالمية، وفي الأخير عادت واتفقت مع ألمانيا ضد أعدائها في الحرب الحالية. . .
وهذه إنجلترة، فقد حاربت فرنسا في عهد نابليون، ثم اتفقت معها ضد روسيا في حرب القرم، ثم اتفقت مع اليابان فشجعتها على محاربة الروس بعكس ما عملته فرنسا عندئذ، ثم اتفقت مع فرنسا وروسيا ضد ألمانيا في الحرب العالمية، ثم حاربت روسيا بعد انتهاء الحرب المذكورة، وفي الأخير بذلت الجهود الجبارة بالاتفاق معها قبيل الحرب الحالية. وكذلك الأمر في علاقات إنجلترة مع تركيا فإنها كانت على الدوام يوماً لها ويوماً عليها. . .
ونحن نستطيع أن نذكر عشرات الأمثلة لذلك. . . مما يدل على أن مثل هذه الاتفاقات لا توجد موازنات مستقرة - بين تطور المنافع وتقلب الاتجاهات. . .
ولذلك كله سارت الأمور خلال الحرب الحالية سيراً غريباً - بالرغم من الاتفاقات والضمانات السابقة - وقد أدى هذا السير إلى بقاء الجيش الفرنسي - في آخر الأمر - وحيداً إزاء الجيش الألماني في ساحات الحرب. . . فازداد بذلك تأثير التفوق العددي زيادة هائلة. . .
(س)