الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 624/القصص

مجلة الرسالة/العدد 624/القصص

بتاريخ: 18 - 06 - 1945


الدميم. . .

للأستاذ حبيب زحلاوي

- 1 -

ما كنت أبتعد بضعة أمتار عن المنتهى حيث كنت جالساً مع طائفة من أصدقائي حتى شعرت بقبضة يد رقيقة تستلهمني. التفت فرأيت واحداً من أولئك الأصدقاء الجلاس، فلمحت في نظراته شبه استعطاف، فقال لي بلهجة لا تخلو نبراتها من قوة: أريد أن أسألك بشرط أن تجيبني بصراحة، ما هي عقدة القصة؟ وما هي الحبكة؟ ما هو العرض والفكرة والوحدة التي تكلمت عنها فقلت إنها عناصر حيوية القصة؟ أنا يا صديقي أحسن كتابة القصة، أو بعبارة أخرى أحسن خلقها فوراً، وابتدع وقائعها وأشخاصها ابتداعاً، وأجذب المستمع إلى الانتباه إلي، ولا أتركه إلا من أشبعه وأمتعه بلذات من الخيال المذوق، والتلفيق الموشى بألوان من حسن الكلام. أليس هذا هو الفن؟! واستطرد قائلاً: ما دام الأمر كما ذكرت لك، وأزعم أني قد ذكرت الحقيقة الواضحة من البناء الفني، فما هي إذن العقدة، والحبكة، والعرض والفكرة والوحدة التي تكلمت عنها، وأحسب أني فهمت من مجمل كلامك أن لا قيمة للقصة الخالية من هذه الخصائص؛ فهل هذا صحيح؟

أعجبتني رؤية مسحة الطفولة تكسو وجه هذا الشاب ورفقت به وبأمثاله ممن يتغالبون في الآداب والفنون ويستهينون بها كأنها سهلة التناول فقلت:

تعالى معي إلى النادي فهناك استمع إليك بانتباه وأجيبك إلى طلبك عن رضى.

قال: في الجلوس في المقهى متعة للنظر لا وجود لها في الأندية.

فقلت: ليس بي ميل إلى أشغال الذهن بمراقبة المارة، وليس بي ذلك الظمأ إلى المرأة الذي ينتابكم أنتم يا جلاس المقاهي

قال: نحن على غير مذهبك الفردي يا صاحبي، نحن جلاس الأفاريز، رواد المقاهي، نتضور جوعاً، نتلهف على لفتة من فتاة أو نظرة من امرأة، ألا تحس مثلنا بالمجاعة النفسية وقد طغت واستعصى أمرها على وزارة الشؤون الاجتماعية؟ ابتسمت لكلام هذا الشاب المتحمس، فأخذته من يده فمشى معي. فلما دخلنا المصعد الذي سيرتفع بنا إلى الدور العاشر من البناء قال: أنت مصر على الجلوس في النادي وكر الكهول والشيوخ من أرباب المال؟ حسن، سأجلس معك في هذا النادي المرتفع عن الناس، ولأقص عليك قصة من صميم الواقع، وأنا قمين بأنك ستشهد لي ببراعة الارتجال، وبأن القصة هي القصة، أعني أن العقدة والحبكة، والفكرة والوحدة، إن هي إلا افتعالات، أما إذا كانت شيئاً غير ذلك فستدلني عليه.

ابتسمت أيضاً لهذا الإدعاء الجديد الذي يمثل ادعاءات الشبان وهم يتوهمون الأمور وفق أمزجتهم الرخوة لا وفق الواجب في معرفة الأصول، وقلت لصاحبي بعد أن انتحينا ناحية في النادي مردانة بأصص من الزرع دائمة النظارة الربيعية، يحسن أن تجلس هنا فتقص علي قصة شعرية يرتجلها خيالك الخصب وتنزعها من صميم الواقع كما قلت.

أرجو ألا تهزأ بي. استمع إلي:

(وضعت حقائبي في المكان المعد لها، وجلست على المقعد الذي احتجزته في عربة القطار، ثم التفت لأرى رفاق الطريق الذي سأقطعه بمرحلة واحدة من مرسيليا إلى باريس، فلقيت سيدة تتألق نضارة وشباباً، وضاحة المحيا بادية الفتنة وسمعتها تقول للرجل الجالس إلى جانبي: ألم أقل لك إنه غير فرنسي، إذ لو كان فرنسياً لكان حيانا بإشارة بسيطة ساعة دخوله، ولما كان ألهاه المودعون ولا المشاغل الذهنية عن أداء التحية الواجبة)

وسمعته يقول لها: لم لا تقيمين للتقاليد والعادات اعتباراً؟

لماذا تفرضين على غير الفرنسيين الأخذ بعاداتكم وتقاليدكم، وقد تكون هذه التقاليد التي ترينها حميدة عندكم مستهجنة عند بعض الأقوام، وربما كانت مستقبحة عند أقوام آخرين أمثال الإنجليز مثلاً الذين يحيون من لا يعرفون مهما كانت الظروف والمناسبات. فهمت من لهجة الرجل ومن قسمات وجهه ولون بشرته أنه أميركي يحسن التعبير عن خواطره باللغة الفرنسية وكان يلفظها صحيحة ولكن ببطء ممض أوجع نفس السيدة الفرنسية الجياشة،

وأدركت أن مدار الحديث يدور حولي لأني أخذت مكاني في عربة القطار ولم أحي من فيها ساعة دخولي! هل أدخل في القضية طرفاً ثالثاً على حد تعبير المحامين، وهي قضية خاصة بي برغم قيامها بين السيدة والشاب الأميركي، أو ألزم الصمت وأحترم سجية نفسي وعادات قومي وأسكت عن الكلام مع من لا معرفة لي به. أليس في ذلك تطفل أو تخط للعرف؟ أو ليس هو وسيلة مؤدية إلى التعرف بهذه السيدة الجميلة المغرية؟ أو ليس في ذلك فائدة للوصول إلى ناس يطيب لي أن أحدثهم عن قومي وبلادي وقد لا يعرفون عنهم شيئاً أو يعرفون ما تنقله لهم الدعاية المغرضة، والفكر الاستعماري وجهالة بعض الكتاب الطائشين؟

جالت هذه الخواطر في ذهني والسيدة والرجل ما زالا يتحاوران ويتناقشان. هي تصر على أن عادات قومها مرتكزة على قواعد آداب الاجتماع وهو ينكر أن للآداب الاجتماعية قواعد ثابتة، هي تقول إن قواعدها الفن والذوق، وهو يقرر أيضاً أن مباءات الفن هي معارض النحت والتصوير ودور التمثيل وبعض دواوين الشعراء وكتب الأدباء والروائيين، وأن الذوق مسألة فردية وإحساس ذاتي. هي تغضب من تعمده إهمال ذكر المرأة في أنها الفن كله باعتبار أنها الباعث الأول على استقرار ملكات الفن والإلهام الفني، وهو ينكر عليها بعض دعواها ويؤيد بعضها ويقول: إن المرأة موحية حافزة، وليست هي بشيء في صميم الفن! هي تصرخ قائلة: إنكم معاشر الأميركان لا تتذوقون الحياة إلا عن طريق الدولار؛ وإنكم. . . وإنهم عبدة الدولار فقط. أليس كذلك يا مسيو؟ والتفتت إلي تدخلني في هذا الجدال. كاد يرمج على حين فاجأتني بسؤالها وهو استنجاد بي أكثر منه سؤالاً، ولكني تمالكت نفسي وقلت:

إخال أني كنت السبب في هذا الحوار الذي بلغ بكما إلى هذه النتيجة، فهل تسمح لي سيدتي أولاً أن أحييها وقد آليت في نفسي مجاراة الفرنسيين وتقليدهم ما دمت في بلادهم ثم أدخل في الحوار، لا كفضولي متطفل قد تعرضنه صفاته إلى سماع ما يؤذي إباء النفس، بل كرفيق الطريق الذي يحرس على إبقاء أطيب أثر في نفوس رفاقه؟

هاك يدي. أما أنا فمدام (فرانس) وصديقي هذا مستر (أميركا) وأنت يا صديقنا على هذا القياس من تكون؟

رطبت شفتي بقبلة من يدها البضة وقلت متابعاً على المنوال نفسه: أنا يا سيدتي مستر (إيجبت) إيجبت. . . إيجبت! رددت كلمة إيجبت وهي تلفظها ممطوطة ممدودة بتؤدة كأنها تعود بذاكرتها آلاف السنين إلى الوراء تستعرض بلمحة واحدة آثار الماضي السحيق الباقية على الدهر وتقول: أنت إذن مصري؟!

نعم يا سيدتي أنا مصري من سكان القاهرة، وأنت فرنسية فقاطعتني قائلة: (فرنسية باريسية) وصديقنا أميركي من واشنطون أو نيويورك وليس قطعاً من هوليود. وها نحن الثلاثة نمثل ثلاثاً من قارات عالمنا، ونمثل أيضاً أعرق مدنية عرفها التاريخ القديم وهي تتوثب الآن للعودة إلى الحياة، وأعرق مدنية حديثة ستتغلب عليها مدنية أحدث منها، ومدنية جديدة في العالم الجديد قد يكون لها طابع خاص سوف يتحول بسرعة إلى طابع يعم العالم، وأردفت كأنها تتدارك فوات فرصة: نعم نعم سيكون الدولار طابع أميركا الخالص كما يحاول الروس أن يجعلوا الاقتصاد أساساً لنظام العالم الاجتماعي الجديد. قالت السيدة كلمتها عن الدولار وضحكت ضحكة عالية لها رنة الأوتار المتزنة والنغمات الرقيقة.

قلت: العالم يا سيدتي لا يقوى على السير في نظام اقتصادي محض بل يستحيل عليه المضي في طريق السعادة البشرية بغير دوافع الروح

هذا صحيح يا مستر إيجبت ولكني ألاحظ أن مدام فرانس تتحداني في كل ما أقول، فإذا كان ذلك يا سيدتي فلا أمانع أنا الأميركاني في تقرير الدولار طابعاً لبلادي وهو بالفعل الإله الذهبي الموحي إلى كل الناس كل الرغبات والشهوات.

المرأة يا مستر أميركا، أرجوك ألا تنسى المرأة، بل أحتم عليك عدم نسيانها لأنها الروح الذي تكلم عنه مستر إيجبت ولأنها وحدها الموحي لكل الناس كل الرغبات والشهوات - على حد تعريفك أنت - بل ي وحدها موحية الحياة والحب لوكل النساء كن مثلك يا سيدتي لما ترددت في الاعتراف بذلك ولكن. . .

دع يا مستر أميركا قرض المديح ونظم الثناء والإطراء لأنها من طبائعنا الأصيلة التي لم تقتبسوها عنا بعد، وإنها وإن كانت ترضي غرور المرأة وتدغدغ زهوها ولكنها لا تقوم مقام الحقيقة التي لا محيص عن الاعتراف والجهر بها وهي (أن المرأة هي الإله الوحيد الموحي إلى كل الناس معنى الحياة والحب، ولذة الوجود والفرح به على الأرض، ولذة الألم والحزن أيضاً) قال مستر أميركا موجهاً إلي السؤال: هل تعترفون بألوهية المرأة في مصر، وبأنها مصدر إلهام يوحي إلى الناس معاني الحياة كما قالت مداد فرانس؟

بلعت ريقي وتكلفت ابتسامة رضى وقلت: ليتك يا مستر أميركا تضع السؤال في الصيغة التالية: هل بلغت المرأة الأمريكية درجة من الرقي سمت بها إلى مقام جعل الرجل يتطلع إليها فيه كما نتطلع كلنا إلى المرأة الأوربية باعتبار أنها الملهم معاني الحياة والدافع إلى الشعور بالفرح بها؟

لقد نجحت في تحويل الدفة، كما يقال في تعبير أهل النوتية، وفي رفع الأثقال عن كتف المرأة المصرية، وفي إزاحة الألم عن نفسي من قول الحق، وقد أفلحت في ذلك، إذ ما كدت انتهي من تحريف السؤال وتوجيهه إلى مستر أميركا حتى انبرت مدام فرنس تقول: تخولني معلوماتي حق القول بأن المرأة الأمريكية أخذت تدرك قدر نفسها وستنجح في صيرورة ذاتها مصدر حياة أفعل في روح الرجل الأميركي من الدولار.

ما كادت تنتهي مدام فرانس من قولها حتى رأيتني مدفوعاً إلى الكلام فقلت معلقاً: سوف تصير المرأة المصرية ذاتها مصدراً فلهام الرجل وإذكاء روحه متى خلصت من شوائب الظفرة وبعد أن ترغمها الآلام على التفكير في ماضيها ومستقبلها بالقياس إلى حاضرها المضطرم بنيران الانتقال.

صحيح ما رمزت إليه بلباقة يا مستر إيجبت عن المرأة أنها في طور الانتقال الذي يعقب الانقلاب الاجتماعي، ويمكنني القول إن بواكير الانقلابات تكون من النساء وفي النساء كما تكون بوادر الثورات وطلائعها من شرارات يقدحها طلاب الجامعات بإيحاء غير مباشر من أرواح يقظة عاملة هادئة.

سكت محدثي الشاب وكاد يطول سكوته ولكنه رفع رأسه ونظر إلي نظرة استفهام واضحة، فقلت له ببرود: ثم ماذا؟

ماذا؟ نعم نعم، كنت أظن أني أنهيت القصة ولكن نسيت فصلها الثاني

دوى رنين الجرس يدعو الراغبين في الطعام من ركاب الدرجة الأولى إلى تناول العشاء. . . وكان الكلام حتماً لمدام فرانس التي أمرت أحد الندل (جارسون) بتهيئة مائدة لثلاثة أشخاص فكان طعام وكان شراب، بل كان شراب وطعام وكلام وشعر وتوريات ورموز ومقارنة بين المرأة المصرية وأختيها الفرنسية والأمريكية، وكادت تضطرم ثورة مدام فرانس لتوهمها أن أختها المصرية أوفر منها براعة في إرضاء الرجل. . . عدنا إلى مقاعدنا وقد أذبل الشراب أجفاننا، وأخمد قوة النضال الكلامي فينا، وأذكى بطبيعة الحال قوة النظر الطويل والإعجاب الذي لا حد له والافتتان بهذه المرأة المملوءة حيوية وجمالاً ونضارة وسحراً والممدة أمامنا على مقعد عربة سكة الحديد تحاول النوم على هدير القاطرة وصفيرها وقرقعة العربات

لقد أحييت الليل ورفيقي الأميركي نتحادث همساً حتى لا نزعج السيدة النائمة، وكان طبيعياً أن نختلف في الرأي وأن نتحاور ونتجادل ثم نعود إلى صفائنا الأول، وكان بديهياً، بحكم الرغبة الكامنة ألا نختلف أبداً وأن نتفق اتفاقاً تاماً على ألا نعيد الغطاء كلما سقط عن جسم هذه المرأة الفاتنة المتناومة، وكان عذباً على سماعنا قولها: يا لكما من شابين شقيين!

سكت محدثي مرة ثانية فلم أدعه يتمهل بل قلت له بنبرة جافة: ثم ماذا؟ صدمه سؤالي وكاد يتخاذل ولكنه تجلد وقال: طلع الفجر، ثم تفجرت أشعة الشمس، وانجلت عروس ربة فرنسا بثوبها الزبرجدي النضر. وبلغنا باريس فافترقت القارات الثلاث، وراح مستر أميركا ومستر إيجبت كل في طريق، وراحت مدام فرانس تنثر القبلات وتتقبل القبل من مستقبليها على إفريز المحطة

ربت كتف محدثي وقلت له ببشاشة أذهبت وقع الصدمة الأليمة التي صدمته بها عند سؤالي إياه تتمة القصة بقولي: (ثم ماذا) ليست قيمة القصة يا صاحبي في المادة التي تتألف منها، ولا في كيفية ترتيب تلك المادة، بل قيمتها في الكيفية التي تؤدى بها وفي عرضها عرضاً خاصاً بمهارة فنية، وبالتشويق والترغيب، في صدق الرواية عن الحياة، مضافاً لها الخصائص الفنية التي ذكرتها في حديثي مع رفاق المقهى، أما قصتك المرتجلة هذه فإنها تماثل حكاية واقعية وقعت لي حين رحلت إلى جزيرة رودس التي انتزعها الطليان من الدولة العثمانية مع بقية جزر الدومنيكان

قال: أترتجل قصتك ارتجالاً؟ فابتسمت لسؤال هذا الشاب وقلت.

(يتبع)

حبيب الزحلاوي