مجلة الرسالة/العدد 620/نشيد الزورق
→ حول مقال للأستاذ الطنطاوي | مجلة الرسالة - العدد 620 نشيد الزورق أحمد عبد المجيد الغزالي |
لقاء. . . ← |
بتاريخ: 21 - 05 - 1945 |
للأستاذ أحمد عبد المجيد الغزالي
(ربان هذا الزورق شاعر عاش في دنياه طويلاً، بين الماء
والسماء، ويوشك أن يعيش في دنيا الناس بعد أن رسا زورقه
وركدت من تحته الأمواج).
رسّا زوْرقي وطويتُ الشراعا ... وكفَّنْت فيه الندَّى والشُّعاعا
وعدتُ إلى شاطئ ساخراً ... أردُّ اللَّياليَ مَرَّتْ سِراعا
هنا كان لي سامرٌ. . . أين وَّلي؛ ... هُنا كان لي أملٌ. . . أين ضاعا
ذوَي أمَلي في رَبيع المنى ... وما خِلتُ يا (أملي) أنْ تراعا
فقدتُكَ يا (أملي) جَدْولاً ... تدفَّقَ لحناً بسمْعي مُشَاعا
ترفُّ على جانبيْكَ المنى ... فَتَاءً يفيضُ هوىً واندفاعاً
عرفْتُ المنى شاعراً ملهما ... وخلفْنَنِي لا أجيدُ السمَّاعا
أكادُ اشوَّه هذا النشيدَ ... وأنكرُ في أصَبعيَّ اليرَاعا
رسَاَ زورقي فوق صخرٍ رهيبِ ... يطالعُ سرَّ الزمَانِ العجيبِ
نَعتْ فجرَهُ نَسماتُ الضُّحى ... ولفُّ الصباحَ شعاعُ الغروب
سَرى فوق أمواجِه العاتياتِ ... بهَدْىِ النبيِّ وخطْوِ المريب
تُولْوِلُ في جانبيْهِ الرَّياحُ ... مُقذَّفَةً مِنْ وراءِ الغُيُوب
مضَى الزَّمن الحلو فوق العبُابِ ... ولاذَ الغريبُ بشطٍ غريبِ
فلاَ طائرِي غردِ بالنّشيدِ ... ولاَ زورقي آهلٌ بالحبيب
فيا ليلةً جمعتْنَا هُنَا ... على زورقي، هل لنا أن تؤوبي؟
ويا زورقي آن أنْ نستريحَ ... فلا الخمرُ خمرِي، ولا الكوب كوبي
رسَاَ زورقي وصحَا الحالمُ ... وثابَ إلى رُشْدِه الآثُم
وغادَرَ حانته مثْلمَا ... يغادِرُ مخدعَه النائم
وودع قيثارة مثْلما ... يودّعُ ريشتَه الرَّاسم وألقى بها قبل عزفِ النشيدِ ... فنامَ بها الوترُ الناغم
وسَلْسَل فيها نشيدَ السماء ... سَنًى خاطفٌ وندىً ساجم
فيا شاعراً عافَ قيثاره ... فزورقُه موحِش سَاهم
لقد كان يُلهمُ أوتارَها ... وينطقها روحه الهائم
أيلْهُو بزورقهِ بعدها ... أَما شاقه عهدها الناعم؟
رسا زورقي، هلْ رَسَا واطمأنَّا؟ ... وقد هَدأَ الليلُ طيراً وغصناً
وداعبَه الموجُ في الضَّفتْينِ ... وسَبَّح في الشطَّ ناياً ولحناً
أيَحْيا هُنا خشباً جامداً ... وقد عاش بالأمس روحاً وفناً!
لقدْ هادنتْهُ رياحُ العَشىَّ ... فهل ستظلُّ سلاماً وأمنا؟
أقامَ هُنا كالطَّريد السليم ... وضَمَّ إليه الطريدَ المعنَّى
طريدانِ سَارا النهارَ الطويل ... إلى أن مَضَى نورُه واستنكنا
فخافا ضلالَ الطريق البعيدِ ... وناما بليلهما حينَ جنا. . .
فمنْ لَكَ يا زورقي ها هنا؟ ... وقد سكن الكون حسَّا ومعنى؛
رسا زورقي غارقاً في الظَّلامِ ... وقد شَردَ النجمُ فوقَ الغمام
ونامتْ على الشطَّ أمواجُه ... فأقفرَ من رُوحِها المستهام
أتغْفُو وقد شاقَهُ صحوُها ... أمَا سئمتْ طولَ هذا المقام؟
أما شاقَها زورقي سابحاً ... فتجرْي به سبحةً للأمام؟
لقدْ أوشَكَ الليلُ أن ينجلي ... وتهتفَ أطيارُه بالنَّيام
دعِ اللْيلَ يا زورقي ... وجدِّف على موجةٍ من هيامي
بدا النَّورُ في الأفق فاسبح له ... فإني سئمت حياة الظلام
ظمْئتُ إلى الفجِر يا زورقي ... أما آن لي أن أندَّى أُوامي؟
رسا زورقي عند فجرٍ سَنىَّ ... فصافحه بالشُّعاعِ النَّدىِّ
وأَطْلقَ صدَّاحَهُ هاتفاً ... يُرحِّبُ بالزورق العبقريِّ
فحوَّمَ مُستلْهماً سرَّة ... ورفْرفَ فوق الجبين الوَضِيّ
هُنَا شاعرٌ سابحٌ في رؤًى ... مجنّحة في خيالٍ سرىّ تَوسّدَ زورقَه مضجعاً ... وأغْفَى على صدْره كالصَّبيّ
فأيقظَهُ الطيرُ من حُلْمِهِ ... وغَنَّاهُ لَحنْ النشيد الشجيّ
وأجْفَلَ من نايهِ عاطلاً ... كما يُجْفِلُ النور عند العَشِيّ
غدا زورقي هاهنا معبداً ... يَضُمَّ حُطامَ، الشهَّيد الوفيّ
رسا زورقي بعد عصف الرياح ... وهبَّت عليه سَمُومُ الصباح
وعادَ إلى عُشَّةِ طائري ... صريع الأماني، ذليل الجناح
شَدَا في الغصون فأنكرْنَه ... وقد كانَ ملْء الجواء الفساح
جَفَا الروضُ شادية العبقريَّ ... وماتَتْ أغانيه بين الأقاحي
حَنانَيْك يا طائري لا ترَعْ ... جراحُك يا طائري من جراحي
لئِنْ بَرمتْ بك تلك الغصونُ ... فعش بين تلك الربُّا والبطاح
فَلمْ يعد الزهرُ ملكَ الطيور ... ولا وارفُ الظلِّ بالمستباح
سَراحك؛ حسبُك أن يطلقوه ... متى يطلقون الغداة سراحي؟!
رسا زورقي في الصَّباح الحزين ... فألقيْتُ مِجْدافه من يميني
وغبتُ عن الكون في رحلةٍ ... ترامي بها الوهمُ فوْق السنين
فمن عالم من بناء الزمانِ ... إلى عالم من بناء الظنون
سئمتُ خِداع التُّراب المهين ... فخلقْتُ فوق سَماء اليقين
عوالمها أطلقْتني سجيناً ... فواعجبَا للطليق السجين!!!
على قمة الدهر باتتْ قُيودي ... ممزقةً كالهشيم الدفين
وما راعني غيرُ تهويمةٍ ... تطِلُّ مع الصبح خلف الدُّجون
تَلفَّتُ أبحثُ عَنْ زورقي ... فألْفيتُ مِجْدافَه في يميني
رسا زورقي في انبثاق الضُّحى ... وأوْمأ للظَّل أنْ يَسرحا
وللشَّمس في الأفق أن تَعتلي ... وللطير في الروضِ أن يصدحا
وللغصنِ أن يرتوي بالنَّدى ... وللعُشِّ في الغصن أن ينزحا
وللروض أن يستفزَّ الطيورَ ... وللجدول الثرِّ أن يمرحا
وللزّهر أن ينفح الحالينَ ... وللطَّيف في الحُلْمِ أن يسنحا بدا الكونُ يا زورقي فاتناً ... كما شئتَ، هل آن أن تفرحا؟
أطلتَ الوقوف هناُ مستكيناً ... وقد كان دأْبُك أن تجْمجا
جرى الموجُ يركضُ في شطِّه ... فيا زورقي آن أن تسبحا
أحمد عبد المجيد الغزالي