مجلة الرسالة/العدد 620/حول مقال للأستاذ الطنطاوي
→ الأدب العصري | مجلة الرسالة - العدد 620 حول مقال للأستاذ الطنطاوي سهيل إدريس |
نشيد الزورق ← |
بتاريخ: 21 - 05 - 1945 |
الموسيقى والأغاني الحديثة
للأديب سهيل إدريس
. . . وأخيراً. . . عاد الأستاذ الطنطاوي إلى روض الأدب، بعد أن انقطع عن ارتياده حيناً من الزمن طويلاً، حسبنا معه أنه هجرة إلى غير عودة، وذهب بنا الظن (أن الحرفة قد طغت عليه) فصرفته عن الأدب. . . أما وقد رجع، فنرجو أن يواصل المسير، وأن يتبع الركب، فلا ريب أنه قد تخلَّف عنه، ولعله لا يفوَّته بَعْدُ!. . .
أقول هذا بعد أن قرأت مقال أستاذنا الطنطاوي (الذي حبَّب إلينا هذا البلاء الذي نعتز به والذي يدعونه الأدب فبتنا من طلابه. . .) عن الموسيقى القديمة والموسيقى الحديثة، وعمَّا تبعثه الأولى في نفسه من سحر وفتنة، والثانية من اشمئزاز وبغضاء لها ولرجالها. ثم يقول (فلئن كان العلم عالمياً لا جنس له ولا وطن، فالفن لعمر الفن ما كان عالمياً ولن يكون. حاولوا أن تطربوا الإفرنج بغنائكم؛ إنكم لن تطربوا ولا تطربون أنتم لغنائهم، ولكن منا من يستشعر قوتهم وضعفاً، فيخادع نفسه رياء وتقليداً. . .) ويتابع الأستاذ مخاطباً الموسيقى في بلادنا (ألم تدركوا أن أذواق الناس لا تنشرح إلا للشرق الأصيل. . . ما لنا وللجندول وأهل الجندول، ما لنا ولأنغام الإفرنج التي لا طعم لها في حلوقتا؟)
أما أن يدعي الأستاذ أن العلم وحده عالمي، وليس الفن كذلك فهذا بِدْعٌ من القول، بل الحقيقة أن الفن أكثر عالمية من العلم لأنه أقرب إلى نفوس الجميع، وأدنى إلى التذوق والفهم، وابلغ تأثيراً في الإحساس، من العلم. وللقطعة الفنية الرائعة جمال ورونق في كل عين، واثر إعجاب في كل نفس وإن روائع الفن الغربي، لقطعاً قد يكون إعجاب الشرقي بها متعدَّياً إعجاب الغربي، سواء كان ذلك في الموسيقى أو الرسم أو النحت أو غير ذلك من الفنون؛ وكذلك القول في الفن الشرقي بالنسبة إلى الغربيين وأعفى نفسه من التمثيل لذلك. فإن هذا الأمر من البداهة بحيث لا يفتقر إلى إيماء، بَلْهَ تشريح وتمثيل! وإنما نعجب بفن الغربيين، ويعجبون هم ببعض فننا لأن الفن عالمي، هذا مالا شك فيه.
ثم كيف يزعم الأستاذ الطنطاوي أننا لا نطرب لغناء الإفرنج، وأننا (لن) نطربهم بغنائنا؟ هل تجد اليوم شاباً في جميع بلدان الشرق الأوسط لا يحفظ من الأغاني الغربية هذه الأغاني ' , من الذي لا يهوي سماع السمفونيات والتانجوات وغيرها؟ ومن منا لا يطرب اليوم للموسيقى الغربية؟ ومن منا لا يحب بتهوفن وباخ؟ وهل للقطع الموسيقية التي يحفظها الشرقيون من الغرب عد أو حصر؟ ليست القضية قضية موسيقى غربية أو شرقية، وإنما قضية موسيقى تؤثر في النفس وتلمس أوتار القلوب؛ وفي الشرق والغرب من هذه الموسيقى الشيء الكثير! أما أنا لن نطرب الإفرنج بغنائنا، فليس ذلك عائداً إلى أن غناءنا - ولا سيما الحديث منه - ليس بالغناء الجميل، وإنما لتقصير وسائل بث هذا الغناء وتنشره والدعاية له في أوربا، كما يفعل الغربيون بفنونهم. ولكن الأمر الذي يظلُّ موضع النظر، هو الأغاني (المحلية) البحت، التي لا يستسيغها عادة إلا أقوام وعشائر معينة لا يمثلون أمة بكاملها أو شعباً بكامله. والواقع يدل اليوم على أن هذه الأغاني ليس لها من الشيوع مثل ما للأغاني غير المحلية. وقليلون هم الذين يؤثرون الأولى على الأخرى. وهذا راجع - في اعتقادنا - إلى أن الأغاني المحلية تتصف بالرتابة والترديد الباعث على الملل، وإلى أن لها (جوها) الخاص، وأن ليس لها نفس الحلاوة والجمال في جو غيره. وقد يكون من الصحيح أن الأغاني المحلية ستندثر يوماً ما بداعي التطور.
وظاهر من مقال الأستاذ الطنطاوي أته يؤثر هذا اللون من الغناء على غيره. فهي إذن هواية خاصة لا تبرر له أن يُعرَّى ألوان الغناء الأخرى من القيمة أو من الجمال. وما دام الأستاذ قد ذكر الجندول في معرض الإنكار أو الكراهية، فلا بأس هنا من أن نساجله القول؛ فليس من ريب في أن فن الأستاذ عبد الوهاب قد سجل تحولا جديداً في الموسيقى العربية الحديثة يوم غنى الجندول من تلحينه، ولا اذكر أن أحداً من رجال الفن أو الأدب أو السياسة أو حتى الفلسفة. . . وقف من هذه الأغنية الموقف الذي يقفه الأستاذ الطنطاوي اليوم! ولو أنه استشهد بغيرها من أغاني المطرب المعروف لكان الخطب أيسر! ذلك أن هذه الأغنية أروع ما انشد عبد الوهاب، ولن تتماسك أمامه أية أغنية من أغانيه أو أغاني غيره في معرض المقارنة. ذلك أنه بلغ غاية التوفيق في تلحينها: في اقتباس بعض مادتها من موسيقى الإفرنج وإضفاء الروح الشرقية الحالمة على ألفاظها ومعانيها. ولو أنه اجتزأ بأحد هذين العنصرين فحسب، لعرّيت الجندول من قسط كبير من روعتها.
وقصارى ما أود قوله في هذا المضمار - ولو أني أعتمد فقط على تذوقي للموسيقى دون أن أكون من رجالها - أن تلقيح الأنغام العربية بالموسيقى الأوربية يرفع من شأن موسيقانا الحديثة إلى حد بعيد. فحسبنا من تلك الأدوار القديمة التي بليت، وكفانا ذلك الترديد والرتيب الممل للكلمات بل للأحرف، وقد شبعنا كلُّ الشبع من أدوار صالح عبد الحي وعزيز عثمان وعبد الله الخولي وإضرابهم!. . .
ويظهر أن الموسيقيين المصريين قد أدركوا في المدة الأخيرة أن التقيُّد بالقديم من الألحان مؤخر النهضة الفنية، وصارفٌ الجيل الجديد عن القديم، فإذا هم يعمدون إلى ألحان يستحدثونها أو يقبسونها من الأنغام الأوربية، فيسيرون في هذا المضار شوطاً بعيداً. ولا سبيل اليوم لأحد أن ينكر أن الهواة وغير الهواة من المستمتعين يؤثرون ألحان عبد الوهاب على غيره من الموسيقيين القدماء. ونحن في الحق نعتمد - في نهضتنا الموسيقية الحاضرة - على عبد الوهاب والسنباطي والقصبجي ومن بعدهم على فريد غصن، وفريد الأطرش، وعبد العزيز محمود، وغيرهم كثير.
وإن الدعوة التي يدعو إليها الأستاذ الطنطاوي لدعوة مضرة بالموسيقى والغناء الحديث إن هي اتبعت، ونخالها لن تتبع. هذا وإن الغناء الحديث قد أرتقي - في اعتقادنا - ارتقاء كبيراً بالنسبة للغناء القديم، إذ أنه خلا من الترديد والتمطيط، فليس اليوم من مغن يسلخ خمس دقائق في أداء (آه. . .) تتبعه الجوقة فينقلب الغناء إلى جو من النعيب! كما أن الغناء الحديث أصبح أرشق أداء وارق لفظاً وأحياء روحاً من الغناء القديم، وإني أرى فيما اتهم به الأستاذ الطنطاوي المطربين المحدثين - جميعاً!. . . - شيئاً من التعسف. وإليه على كل حال تحيتي الصادقة والسلام.
(بيروت)
سهيل إدريس