مجلة الرسالة/العدد 614/البريد الأدبي
→ رضا الفاروق | مجلة الرسالة - العدد 614 البريد الأدبي [[مؤلف:|]] |
الكتب ← |
بتاريخ: 09 - 04 - 1945 |
وصية الرصافي قبيل وفاته
إلى أصدقائي الأحرار الكرام:
أراهم يهيجون على الدوام باسم الدين، وما أظنهم يتركونني حتى بعد موتي. وليس لي من ألتجئ إليه سوى الله، وكفى بالله حافظاً وحسيباً. ليس لي من الأقارب من أعهد إليهم بوصيتي سوى معارفي من الأصدقاء الأحرار من أهل البلاد، فلذا اكتب إليهم عسى أن يقوموا بتنفيذها ولهم من الله الأجر
كل ما كتبته من نظم ونثر لم أجعل هدفي منه منفعتي الشخصية، وإنما قصدت به منفعة المجتمع الذي عشت فيه، والقوم الذين أنا منهم ونشأت بينهم، لذلك لم أوفق إلى شيء في حياتي يسمى بالرفاهية والسعادة في الحياة. لا أملك شيئاً سوى فراشي الذي أنام فيه، وثيابي التي ألبسها، وكل ما عدا ذلك من الأثاث الحقير الذي في مسكني ليس لي، بل هو مال أهله الذين يساكنونني. كل من اعتدى علي في حياتي فهو في حل مني. وإن كان هناك من اعتديت أنا عليه، فهو بالخيار، إن شاء عفا عني وإلا قضى بيني وبينه الله الذي هو أحكم الحاكمين.
أنا والله الحمد مسلم مؤمن بالله وبرسوله محمد بن عبد الله إيماناً صادقاً لا أرائي فيه ولا أداجي، إلا أنني أخالف المسلمين فيما أراهم عليه من أمور يرونها من الدين، وليست هي منه إلا بمنزلة القشور من اللباب. ولا يهمني من الدين إلا جوهره الخالص وغايته المطلوبة التي هي الوصول إلى شيء من السعادة في الحياة الدنيوية الاجتماعية والحياة الأخروية، ما أمكن الوصول إليه من ذلك بترك الشرور وبعمل الصالحات، وكل ما عدا ذلك من أمور الدين فهو وسيلة إليه وواسطة له ليس إلا.
بما أن عبد بن صالح الذي هو معاوني على العيش في مسكني كنت أنا السبب في زواجه، وقد ولد له بنات صغار، وليس له من أسباب المعيشة والكسب ما يجعله قادراً على إعاشتهن، أرجو من أهل الخير في الدنيا ومن أصدقائي الكرام الأحرار أن يسعوا في إيجاد شغل له يكسب به ما يقوم بأعاشتهن، وإن الله تعالى لا يضيع أجر المحسنين.
كل ما عندي من الكتب المخطوطة التي كتبتها أنا، تباع لمن يرغب في شرائها على أن يكون له حق الطبع والنشر ولا يكون لي فيها سوى الاسم، ويدفع المال الحاصل من بيعها إلى بنات عبد.
أريد أن أدفن في أي مقبرة كانت على أن يكون قبري في طرف منها وأن يكون في أرض مظلومة وهي التي لم تحفر قبلا. . .
إن كانت الحياة نعمة سابغة من الله على عباده فإن الموت رحمة واسعة منه عليهم. فالموت هو رحمة الله الواسعة التي وسعت كل شيء. كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام.
المؤمن بالله وحده لا شريك له
معروف الرصافي
جمعية مصرية تعرب الموسيقى العالمية
لا يزال هواة الموسيقى العالمية يذكرون تلك الحفلة التي أقيمت بكلية العلوم في اليوم التاسع عشر من شهر مارس سنة 1942، ويعتبرونها فاتحة عهد جديد في تاريخ هذا الفن الرفيع. ذلك أن برنامجها اشتمل يومئذ على عشر أغان اختيرت لعباقرة الموسيقى، ونقلها نظماً إلى اللغة العربية الأستاذ كامل كيلاني فسجل بذلك فوزاً مبيناً للعربية في ميادين هذا الفن، وأثبت بالفعل للذين يتهجمون عليها بالقول أنها تستطيع بشعرها العالي وعروضها الدقيق أن تترجم أغاني شوبرت وموتسارت ومندلسون وأضرابهم بمعانيها وأوزانها وألحانها دون أن يفقد شيء من جمال المعنى ولا من سلامة الإيقاع. وقد لقيت هذه الحفلة يومئذ من النجاح العظيم والتقدير الحسن ما حفز القائمين بها إلى مواصلة الجهد في هذا السبيل، فألفوا (الجمعية المصرية لهواة الموسيقى) رئيسها الدكتور علي مصطفى مشرفة عميد كلية العلوم، وأبرز أعضائها الأستاذة محمد زكي علي وإسماعيل راتب وكامل كيلاني وعلي بدوي. وكان أول ما عنيت به أن طبعت هذه الأغاني العشر وقدمتها إلى الجمهور بكلمة طيبة جاء فيها: (. . . فنحن نستمع إلى الأغنية أو الأوبرا في كل بلد بلغة أهله. نستمتع إليها في روما بالإيطالية، وفي برلين بالألمانية، وفي لندن بالإنجليزية؛ فإذا استمعنا إليها في القاهرة سمعناها بكل لغة من لغات العالم المتحضر ما عدا اللغة العربية! فكيف نقبل هذه المعرة القومية، ونرضى بهذا الهوان الفكري؟)
ثم قالت في موضوع آخر: (وقد كان علينا أن نحل مشكلة رئيسة في التدوين الموسيقي كادت تستعصي على الحل، فإن الموسيقى تكتب من اليسار إلى اليمين، على العكس من الألفاظ التي تكتب من اليسار. وقد وقفنا طويلا أمام هذه المشكلة ثم انتهينا إلى حل يجمع بين الحرص على أصول الفن الموسيقي، والوفاء للغة العربية والمحافظة على تقاليدها، فجعلنا الكلمة وحدة ظاهرة، ولم نكتف بذلك فعمدنا إلى كتابة مقاطع كل كلمة سالكين في إثباتها الطريقة العروضية، فزال بذلك كل إبهام في المقابلة بين المقاطع اللفظية والمقاطع الموسيقية وبقيت الألفاظ سهلة القراءة بادية للعيان).
وعما قريب تصدر هذه الأغاني المختارة فتسدي إلى اللغة العربية والموسيقى المصرية معروفا يخلد الشكر عليه بخلوده.
بين شاعرين
سيدي الأستاذ الكبير عزيز بك أباظه.
لا أكتب إليك للشكر على التعزية أو على التقدير. فأننا نحيا - إن سميت هذه حياة - في جو واحد، وننطوي على فجيعة واحدة. وهذه المشاركة تغني بيننا عن كل عبارة.
وما يزال لدي الكثير من الأشعار. ولعل صفحات الرسالة والثقافة تتسع لنشرها. وهذه القصائد ما نشر منها وما لم ينشر نظمت جميعها تقريباً في شهر فبراير على أثر الوفاة. فهي الحصاد المشئوم لشهر وبعض شهر. وإني لا أدري كيف نظمت، وكيف كان النظم على هذه السرعة وأنا لست من أهلها. ولكن الذي أدريه أنني ليس لي فيها شيء، وأنها (هي) صاحبتها. (فهي) التي حفزتني منذ حين إلى التوفر على إخراج ما أخرجت من كتب؛ و (هي) الآن التي تملي علي ما أنظم من قصيد بعد أن انقطعت عن قوله سنوات وسنوات. ولقد كنت ماضيا على هذا الانقطاع على الرغم من حث كرام الأصدقاء والزملاء لي على مراجعته. وأخيراً. . . أخيراً يكتب لي أن أعود إليه، وأن يكون العود غير أحمد.
أيا مُذْكري يوماً بأني شاعرُ ... إليك التي فاضت بهنّ المشاعرُ
مَراثٍ. ومَن أرثي؟ شريكة عيشتي ... ودَرسْي، طوتها في التراب المقابر
ولو كنتَ تدري ما ازدهيتَ قريحتي ... فلا الشعرَ مذكورٌ ولا أنت ذاكر ويا ربِّ، لا كانت إلى الشعر رجعة ... فأني - ولو كان الخلودَ - لخاسر
كان الله في عونك وعوني.
عبد الرحمن صدفي
الأطياف الأربعة
(أصدرت (لجنة النشر للجامعيين) هذا الكتاب الذي اشتركت فيه أقلام (الاخوة الأربعة). وقد كتب أحدهم: الأستاذ سيد قطب. هذا (التعريف) للمؤلفين وللكتاب وهو يعطي لمحة عن شخصياتهم، وعن طريقتهم كذلك).
صبية وفتاة، وفتى وشاب. . . أولئك هم الأطياف الأربعة! اخوة في الدم، اخوة في الشعور. كلهم أصدقاء، وذلك هو الرباط الأقوى. إنهم يقطعون الحياة كأنهم فيها أطياف. هم أنفسهم كل ما يملكون في الكون العريض! كل ما يربطهم بالكون أن يتطلعوا إليه هنية، ليرده، صورا في عالمهم المسحور. إنهم أبدا يحملون. وقد يتفزعون في الحلم، ولكنهم إليه يعودون!
أحد هذه الأطياف تلك الصبية الناشئة. إنها موفوزة الحس أبداً، متفزعة من شبح مجهول. إنها تعبد الحياة وتخشاها. إنها تتلفت في ذعر كلما تفرست في المجهول
وأحد هذه الأطياف تلك الفتاة الهادئة. إنها ساربة في الماضي لا تكاد منه تعود! إنها شاعرة، ثروتها من التصورات أجزل من ثروتها في التعبير. إنها مستغرقة في حلم: بالمستقبل الذي لا تملك، وبالماضي الذي لن يعود.
وأحد هذه الأطياف ذلك الفتى الحائر. إنه دائم التجوال في دروب نفسه ومنحنياتها يفتش فيها ويتأملها، ولا يسأم التأمل والتفتيش. إنه يحلم في اليقظة، ويستيقظ في الأحلام!
وأحد هذه الأطياف ذلك الشاب الشارد. إنه عاشق المحال. إنه يطلب ما لا يجد، ويسأم كل ما ينال. وإنه - بعد ذلك كله - للوالد والأخ والصديق لأولئك الأطياف.
أولئك هم الأطياف الأربعة. وهذه خطراتهم في كتاب. إنها عصارة من نفوسهم وظلال من حياتهم. إنها أطياف الأطياف!
سيد قطب الإصلاح الديني ومذهب ابن حنبل
كان مساء يوم الثلاثاء الماضي موعد المحاضرة التي ألقاها في مسرح الأزبكية العالم الكبير الأستاذ شاكر الحنبلي بك وزير العدل السابق في الحكومة السورية فأقبل على شهودها جمهرة كبيرة مختارة من رجال العلم والأدب والسياسة ولبثوا ساعة يستمعون إلى المحاضر العظيم وهو يتدفق بالبيان الرائع في صوت متزن ولهجة فصيحة فأبان عن شخصية الإمام - أحمد بن حنبل - وجلاها مبرأة مما رميت به من الضيق، ثم افاض في الكلام عن - ابن تيمية - ونفاذ عبقريته؛ وما رمى به من مروق وزندقة؛ وما أصابه في سبيل دعوته من سجن ومطاردة؛ وتناول الإمام ابن القيم - تلميذ ابن تيمية. وعمق تفكيره، ومرونة ذهنه، وحسن فهمه لروح الدين وما تكبده كذلك في سبيل آرائه. ثم ختم المحاضر الفاضل محاضرته ببيان أن روح الإسلام لا تقف ما يحفز المدنية إلى التقدم، ولا تقعد ما يسمو بالإنسانية إلى الكمال.
م. ع. ا
الفلسفة والدين، في جامعة الإسكندرية
لم تنس جامعة فاروق الأول أنها وريثة جامعة الإسكندرية القديمة، فقد حاضرنا مساء الأربعاء 28 مارس سنة 1945 بقاعة المحاضرات الجامعية أستاذ أعتقد أن الكثيرين من رواد الفلسفة الحديثة يعرفونه، كما أعتقد أن هؤلاء الكثيرين من الرواد يتطلبون منه الكثير من محاضراته ودراساته.
حاضرنا الأستاذ توفيق الطويل المدرس بكلية الآداب عن النزاع بين الفلسفة والدين في القرن السابع عشر.
وقد أمضينا ساعة ونصف ساعة مع الأستاذ توفيق الطويل، في رحلة فكرية شائقة، حاول خلالها أن يبرهن على أن لا تنافر بين الفلسفة والدين حتى في عصر محاكم التفتيش، وابتدأ بأن فرق بين الدين في ذاته، وبين رجال الكنيسة الذين جعلوا من أنفسهم حراساً على نصوص هذا الدين، حراساً جامدين على ظواهر هذه النصوص.
وأختار الأستاذ الطويل للتدليل على وجهة نظره ثلاث دول، كانت حركة النضال فيها بين الفكر الحر وبين اللاهوتيين الجامدين على أشد ما تكون عنفاً وحدة، وهي فرنسا، وهولنده، وإيطاليا.
واختار من كل بلد من البلدان الثلاثة فيلسوفاً واحداً، لضيق الوقت، فمن فرنسا تخير - ديكارت - وعرض موجزاً من فلسفته التي بدأت بالشك، وانتقلت إلى إثبات الذات التي تشك! والتي ابتدأت بأن أخضعت حقائق الوجود إلى العقل، ثم استثنى الحقائق التي وصلتنا عن طريق الوحي، واعتبرها غير خاضعة للاختبارات العقلية، فكان ديكارت - وإن لم يوضح لنا الأستاذ المحاضر - متأرجحاً بين الفلسفة والدين، بين عقله وقلبه، ولعل في خوفه من سلطة الكنيسة، أو رجال الكنيسة بمعنى أدق، تعليلا لذلك التأرجح الذي تعرض له الأستاذ المحاضر في سرعة وخفة نلتمس له فيهما عذراً لضيق الوقت، وانفساح مجال الموضوع الذي اختاره لمحاضرته القيمة.
ومن هولندا، تحدث الأستاذ الفاضل، عن - سبينوزا - ذلك الفيلسوف الذي نادى بمذهبه في وحدة الوجود، فأثار على نفسه ثائرة رجال الأكليروس، وأقام قيامة أولئك الذين في يدهم مقاليد الأمور فأجمعوا على تكفيره، وحرمانه، واضطروه أن يعيش منبوذاً من الناس، وأن يكدح لينال بلغة من العيش تقيم أودهن بعد أن هاجر من البلد الذي أصدر قرار حرمانه، وغير اسمه، وكان ينشر مؤلفاته بأسماء مستعارة. درءاً لأخطار المصادرات، وما وراء المصادرات، مما كانت تحفل به عهود محاكم التفتيش.
أما في إيطاليا، فقد كان لجاليليو قصة - أو مأساة كما سماها الأستاذ المحاضر - تبعث على كثير من الأسى، فقد اضطهد هذا الرجل من أجل عقيدته أقسى الاضطهاد، وحوكم مرتين أمام محكمة التفتيش وسجلت مؤلفاته في القائمة السوداء - أو الفهرست!! - كما كان يطلق عليه، وقد حرص الأستاذ الطويل على أن يذكرنا أنه اختار جاليليو، وتحدث عنه كفيلسوف - على الرغم من أنه كان عالم فلك ولم يكن فيلسوفاً، لأن الفلسفة في القرن السابع عشر كانت تعتبر عالم الفلك فيلسوفاً، ولم تكن العلوم قد تحررت بعد من حظيرة الفلسفة.
والطريف، فيما عرضه الأستاذ المحاضر، من رأي جاليليو عن دوران الأرض وعن النظام الكوبرنيكي الذي قال به، أقول الطريف في ذلك أن الإسكندرية كما حرص الأستاذ الطويل على أن يذكرنا بذلك، كانت سباقة في هذا المجال الخطير، فقد قال بنفس هذا الرأي من قبل كوبرنيكوس، ومن جاليليو، فيلسوف عاش في الإسكندرية، وهو أرسطو خوس!!
قصص هؤلاء الفلاسفة الثلاثة، في بلدانهم الثلاثة، صادقة الدلالة على أن الاضطهادات التي حدثت، والتي كان ضحيتها هؤلاء الفلاسفة العظام، لم تكن من الدين، ولا من كل رجال الدين، وإنما كانت من تلك الفئة الجامدة التي لم يخل منها عصر من العصور ولا دين من الأديان.
ولا صحة لما يقال، من أن ازدهار الفكر لا يكون إلا حيث يتخلص من قيود الدين، فالتاريخ يحدثنا عن فلاسفة كثيرين حاولوا التوفيق بين الدين والفلسفة، ولعل أشهرهم من فلاسفتنا الإسلاميين هو ابن رشد الفيلسوف الأندلسي المعروف.
هذه خطوط سريعة لمحاضرة مرتجلة، جعلنا الأستاذ الطويل خلال حديث شائق في صددها، نعيش في عالم فكري بعيد عن ماديات هذه الحياة الصاخبة.
علي حسن حموده
جماعة الفكر
تألفت في القاهرة جماعة فكرية ثقافية باسم (جماعة الفكر) قوامها لفيف من أدباء الشباب، وستنشر مكتبة في شتى نواحي المعرفة.
فندعو لها بالتوفيق في إتمام هذا العمل الجليل.
-