الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 611/في الأدب العربي

مجلة الرسالة/العدد 611/في الأدب العربي

مجلة الرسالة - العدد 611
في الأدب العربي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 19 - 03 - 1945


للأستاذ عبد اللطيف محمد ثابت

في عدد مضى من الثقافة كلمة للأستاذ الكبير أحمد بك أمين يعيب فيها على كثير من الأدباء ميلهم إلى قصر الأدب على الشعر والنثر الفني المصنوع، ويحثنا أن نعيد النظر في هذا الوضع من ناحية الأدب القديم والحديث؛ فمن ناحية القديم يجب أن نتوسع في فهم معنى الأدب، فندخل فيه الشعر الصوفي والنثر الصوفي، والأساليب المتبعة في شرح النظريات الاجتماعية والاقتصادية إذا كانت أدبية، وكذلك الأساليب المتبعة في كتب التاريخ والرحلات والفلسفة والقصص من نوع ألف ليلة وليلة. ومن ناحية الحديث يجب أن يتجه أدباؤنا إلى الموضوع أكثر من الشكل، وحمد الله إذ رأى هذا الاتجاه واضحاً جلياً من أدباء العصر الحديث، وضرب لذلك الأمثلة، ثم قال: (ففهمنا للأدب على أنه شعر أو نثر يشبه الشعر أو القصة بديعة، أو نحو ذلك، فهم قاصر، والأدب أوسع من ذلك وأشمل)، وقال: (وأرى أن هذه الفكرة عن الأدب غير صحيحة، وأنها ضارة بالناشئين والمتعلمين؛ إذ تجعلهم يتصورون الأدب على أنه حلية لفظية شكلية، فإذا عمق الكاتب وفكر تفكيراً دقيقاً، خرج عن الأدب ولم يسم أديباً، وضرر هذا واضح، وهو اتجاه الأدب العربي إلى السطحية، والعناية فيه بالشكل أكثر من الموضوع)

هذا مجمل ما قاله أستاذنا الكبير، ولا أدري إلى أي شيء يرمي. إنه عاب على الأدباء قصرهم الأدب على الشعر والنثر المشبه الشعر والقصة البديعة ونحو هذا، لأنه أوسع من ذلك وأشمل، فماذا بقي بعد هذا مما يصح أن يكون في متناول أوسع وأشمل؛ حتى ندخله في الأدب؟

إن الشعر هو الكلام ذو الوزن والقافية المشتمل على التصوير البديع المؤثر لأنواع الإحساس، سواء أكان إحساساً صوفياً أم فلسفياً أم خيالاً من واد آخر غيرهما. والنثر المشبه للشعر هو ذلك النثر الفني المصنوع، ويراد بالصنعة ما يرتفع بالنثر إلى ما يحقق معنى الفصاحة والبلاغة على ما اتفق عليه الأقدمون، ولم يعارض فيه المحدثون سواء أتناول النثر شرحاً لنظريات اجتماعية أم اقتصادية، أم تناول التاريخ والرحلات، أم تناول الفلسفة، أم كان قصصاً، بل يمكن أن يدخل في متناول النثر الفني المصنوع بهذا المراد من الفن والصنعة طوائف العلوم الأخرى، فكلها نثر فيه فن وفيه صنعة بحسبه، فماذا بقي بعد ذلك حتى يكون فهمنا للأدب على أنه الشعر أو النثر المشبه للشعر أو القصة البديعة أو نحو ذلك فهماً قاصراً؟

لم يبق يا سيدي ألبك إلا الكلام الذي أتضع ولم تتحقق فيه شروط الفصاحة والبلاغة، فصار بحكم ما فقد من شروط الأدب غير أدب، وصار الكاتب له غير أديب.

فهل تريد أن يدخل مثل هذا على أنه أمثلة تحتذي في مباحث الأدب؟ فماذا يكون الأدب إذن؟

إن الأدب فن رفيع كالموسيقى وما يشبهها؛ فلنتصور أننا توسعنا في متناول الموسيقى حتى جعلناها تشمل كل ما يمكن أن يكون صوتاً، فهل يكون ذلك مقبولا؟

كذلك الأدب لا يمكن أن يكون أدباً إذا توسعنا فيه فجعلناه يشمل كل ما يمكن أن يقال أو يكتب، فإن ذلك تضييع لقيمة المثل العليا من الكلام، وتضييع للمبرزين من الكتاب من القدماء والمحدثين، مع ملاحظة أنه لا يعقل أن يكون كلام مكتوب لا موضوع له إلا ما يصدر من المجانين؛ فأولئك الكتاب الذين يجلسون بجانب كل محكمة، ويسمون بالكتاب العموميين، لهم موضوعاتهم التي يتناولونها فيما يكتبون، وليس من المعقول أن تكون رسائلهم من مباحث الأدب. ولست أعلم أن أحداً من المتقدمين منع أن يكون الشعر الصوفي والنثر الصوفي، والكتب التي تشرح النظريات الاجتماعية والاقتصادية والتي تتناول التاريخ والرحلات والقصص من نوع ألف ليلة وليلة والفلسفة - منع أن تكون هذه مما يتضمنه معنى الأدب حتى ينبهنا الأستاذ الكبير إلى أن نعيد النظر في هذا الوضع من ناحية الأدب القديم فندخل فيه هذه الموضوعات.

ويقول الأستاذ إن هذه الفكرة عن الأدب أنه مقصور على الشعر والنثر الفني المصنوع ضارة بالناشئين والمتعلمين، ويقصد من غير شك الناشئين والمتعلمين في هذا العصر، فهو يخشى عليهم أن يتجهوا في أدبهم إلى السطحية والعناية فيه بالشكل أكثر من عنايتهم بالموضوع، ثم يحمد الله أن يرى أدباءنا يتجهون اتجاهاً واضحاً إلى الموضوع أكثر من الشكل.

فهل كان أدباؤنا من غير الناشئين المتعلمين في هذا العصر؟ فمن الذي أرشدهم ألا يتجهوا في أدبهم إلى السطحية وأخذ يحثهم على العناية بالموضوع دون الشكل، وهم إنما درسوا الأدب قاصراً على الشعر والنثر الفني المصنوع، وهو الذي يعيبه الأستاذ احمد أمين على الأدباء.

إنني لا أنكر أنه قد أتى على الأدب حين من الدهر مال فيه الكتاب إلى العناية بالأسلوب أكثر من عنايتهم بالموضوع، بل أسرفوا في ذلك حتى عيب عليهم، ولكن هذا النوع من الكتاب أقلية إذا قيسوا بغيرهم من أدباء اللغة العربية، وقد أخذ عليهم إسرافهم في العناية بالألفاظ وتنميقها أكثر من عنايتهم بالأفكار وتوليدها والموضوع ودراسته؛ فلم يكن لما عيب عليهم أثر إلا بمقدار ما تظهر بدعة غير مستحسنة في عصر من العصور، ثم لا تلبث أن تهمل لما يشق فيها على الناس، على أنه كان لأدب هؤلاء موضوعه الذي يحله محله من مباحث الأدب العام.

ولم يحل وجود هؤلاء الكتاب الشكليين في عصور الأدب أن نفهم الأدب على حقيقته في الشعر والنثر المشبه الشعر في عصورنا هذه فيظهر فينا الكتاب الذين يعتمدون على الموضوع في أسلوب، لا على الأسلوب له صورة موضوع.

عبد اللطيف محمد ثابت