الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 611/رسالة الفن

مجلة الرسالة/العدد 611/رسالة الفن

بتاريخ: 19 - 03 - 1945

3 - الفن

للكاتب الفرنسي بول جيزيل

بقلم الدكتور محمد بهجت

يرى الفنان كل ما في الطبيعة جميلا

يوجد بمرسم رودان الكبير بمَيْدوُن تمثال صغير على جانب كبير من الدعامة المروعة، استقى مثالنا العظيم موضوعه من قصيدة فيلون كانت الحظية تشع يوماً ما شبابا وجمالا، أما الآن فهي عجوز شمطاء متهدمة تنبو عنها العيون. كانت مختالة فخورة بحسنها وروائها فإذا بها اليوم تُغص بالخجل من بشاعتها.

وهذه ترجمة بعض الأبيات التي ساقها فيلون على لسان الحظية البائسة.

(آه أيها الهِرم المتعاظم الخوَّان، لم أذللتني هكذا سريعاً، ولم أمسكتني هكذا حتى لا أستطيع أن أضرب، فكنت أقضي بضربة واحدة على آلامي).

هنا تبع المثالُ الشاعرَ خُطوة فخُطوة. فتلك العجوز الشمطاء التي تكرش جلدها حتى صار أكثر تكرشا من المومياء تحزن على بلي جسدها. تراها جالسة مقوسة تنظر في يأس وألم إلى ثدييها الذين ضمرا ضموراً يثير الشجن، وإلى جسدها الذي تجعد وتقبض تقبضاً بشعاً، والى ذراعيها وساقيها التي أصبحت عقداء كأصول الكرم أو هي أعقد. وثمت بضعة أبيات أخرى ساقها الشاعر على لسان الحظية أيضاً.

(عندما أفكر بذهن كليل فيما كنت عليه بالأمس، وفيما أنا عليه اليوم، عندما أرى كيف استحلت هكذا: مسكينة بائسة مقددة نحيفة، يتملكني الأسى. أين جبيني الناصع وشعري الذهبي وكتفاي الجميلتان - وكل ما كان فيَّ وقد خلق للحب؟ هذه هي نهاية الجمال الإنساني! وتلكما الذراعان النحيلتان، واليدان المعروقتان، تلكما الكتفان الحدباوان، ذلكما الثديان والعجزان وتلكما الساقان، خفتا وأصبحتا منقوطتين كأنهما المصير المحشو).

وهنا لا نرى المثال يقل إدراكا للواقعية عن الشاعر، بل نرى على النقيض من ذلك أن البشاعة التي يثيرها بهذا التمثال أوقع في النفس من أبيات فيلونِ الجافية. نرى جلده يتدلى على الهيكل العظمي في ضعف واسترخاء، والأضالع تبرز من تحت الصفاق أو الرِّق الذي يغطيها، ويبدو الجسم كله كأنه يرتعد أو ينكمش ويتضاءل. ومع ذلك نرى ألماً عميقاً ينبعث من ذلك الجسد البالي المشوَه المؤلم، وذلك لأن ما نشاهد منه هو الألم البالغ لنفس شغفها حب الشباب والجمال الخالد فأصبحت تنظر بيأس إلى الوعاء القبيح الدميم الذي يحويها. إنه التناقض البين بين الكائن الروحي الذي يتطلب اللذة الخالدة وبين الجسد الذي يبلى وينحل ويؤول إلى الفناء. تهلك المادة ويموت اللحم، أما الأحلام والآمال فخالدة. وهذا ما أراد رودان أن نفهمه. هذا وإني لا أعتقد أن فناناً آخر صور لنا الهرِمَ بمثل هذه الفظاعة الفجة، اللهم إلا واحداً. فانك لترى على مذبح كنيسة بفلورنسا تمثالا عجيبا من صنع دونا تللو. ترى عجوزا عارية أو هي متشحة بشعرها الطويل الرفيع الذي يتشبث بجسدها المتهدم الفاني. إنها القديسة مجدولين في الصحراء وقد قوست السنون ظهرها، تنذر إلى الله الرهبوت الصارم الذي ستأخذ به جسدها جزاء وفاقا لما أسبغته عليه من رعاية في الماضي. ولقد بلغت الصراحة الفطرية بهذا الفنان الفلورنتي مبلغا عظيما بحيث لا يتسنى لأحد أن يدانيه فيها، حتى ولا رودان نفسه. ولكنا نرى إلى جانب ذلك أن الشعور في العملين مختلف كل الاختلاف، فبينا نرى القديسة مجدولين تبدو في توبتها أكثر إشراقا كلما أحست أنها تزداد دمامة، نرى من الناحية الأخرى الحظية الشمطاء تهلع عندما ترى نفسها أشبه شيء بالجثة الهامدة. وعلى ذلك فالنحت الحديث أعظم وقعاً وأفجع في تأثيره من النحت القديم.

وفي أحد الأيام درست تمثال رودان هذا لحظة ثم قلت له في هدوء: (أيها المعلم! لا أظن أحداً يعجب بهذا التمثال المدهش إعجابي به. ولكن أرجو ألا يتملكك الامتعاض إذا ما أطلعتك على الأثر الذي تُحدثه مشاهدته في زائري متحف اللوكسمبورج، وفي السيدات خاصة).

(أكون شاكراً لو تفعل ذلك).

(حسن. إن النظارة لتفر منه قائلة: آه، ما أبشعه! وكثيراً ما شاهدت بعض السيدات يتقينه بأيديهن حتى لا يرونه) فضحك رودان ملء شدقيه وقال:

(لابد أن يكون عملي من الوضوح والصراحة بحيث يحدث مثل هذا الأثر البين. ولا ريب أن هؤلاء الناس ممن يرهبون الحقائق الفلسفية المرة. غير أن كل ما يعنيني من الأمر ويهمني هو أن أقف على آراء أولئك الذين وهبوا الذوق الحسن. ولقد سرني أن أظفر بمدحهم لحظيتي العجوز. إن مثلي كمثل ذلك المغني الروماني الذي أجاب على صخب الجماهير: إني أغني للنبلاء فقط، أو بمعنى آخر للهواة الذين يفهمون ويتذوقون).

يتبادر إلى ذهن السوقة أن ما يرونه قبيحاً في الحياة لا يليق أن يكون موضوعا للفنان. يودون لو يمنعوننا من إظهار ما يسوؤهم من الطبيعة أو يقذى أعينهم؛ وهذه غلطة شنيعة يغلطونها. إن ما قد يسمى عادة في الطبيعة يمكن أن يكون لدى الفن عامرا بالجمال. وفي الواقع نسمي قبيحاً كل ما كان مشوها أو مريضا أو يشعر بمرض، أو ما كان ضعيفاً أو مبتلى، أو ما كان منافيا للمألوف الذي هو إمارة وشرط من شروط الصحة والقوة. فالأحدب قبيح، والأعرج قبيح، والفقر في الأسمال البالية قبيح. وقبيح أيضاً روح الرجل الفاجر وسلوكه، والرجل الخبيث المجرم، والرجل الشاذ الذي يكون بلية على المجتمع، وقبيح أيضاً روح الذي يفتك بوالديه، وروح الخائن، وروح كل دنئ المطامع. ومن الصواب تسمية الناس أو الأشياء التي لا تتوقع منها سوى الشر بتلك المسميات الكريهة. ولكن دع فنانا مبرزا أو كاتباً نابها يتولى بفنه قبحا واحداً أو أكثر مما ذكر فسرعان ما يتحول في يديه؛ إذ ينقلب بلمسة من عصاه السحرية إلى جمال رائع. إن هذا إلا كيمياء، إنه السحر المبين!!

دع فيلا سكويز يصور سيباستيان، قزم فيليب الرابع، ملك إسبانيا، تراه يحبوه بتلك النظرة المؤثرة التي نقرأ فيها على الفور ما تنطوي عليه نفس هذا المخلوق التعس من الأسرار المؤلمة، ذلك المخلوق الذي ألجأته حاجته للعيش إلى أن ينزل عن كرامته الإنسانية فيصبح ألعوبة أو سخرة من المساخر الحية. وكلما زادت لذعة الألم في نفس المخلوق البائس زاد جمال عمل الفنان.

وليصور فرنسوا ميليه فلاحاً يتكئ على فعال فأسه ليستريح لحظة، رجلا بائساً أضناه التعب ولفحته الشمس، غبياً كالحيوان الأعجم الذي أذهلته الضربات فيلدم. وما هو إلا أن يظهر في تعبير هذا الشقي البائس ذلك الاستسلام السامي للألم الذي فرضه علينا القدر حتى يجعلنا نرى فيه الرمز العظيم للإنسانية كلها.

ثم ليصف لنا بودلير جثة مقرَّحة، قذرة متلزجة ينخر فيها الدود، ثم دعه يتخيل خليلته المحبوبة في هذه الحالة المخيفة الممضة؛ فلا يمكن والله أن يداني شيء في الروعة والفخامة صورته التي يضع فيها جنباً إلى جنب هذا الجمال الذي نرجو له الخلود، وذاك الفناء المروع الذي ينتظره. وهاك أشعار بودلير

(ومع لذلك فستصبحين مثل هذا يوماً ما، مثل هذه الوخامة التي تتقزز منها النفس، أنت يا نجم عيني، أنت يا شمس طبيعتي. آه يا ملاكي ويا غرامي!

(نعم يا ملكة الحسن، ستكونين هكذا بعد القداس، عندما تلحدين تحت الحشائش والأزهار حيث تبلين بين العظام. وعندئذ يا حبيبتي خبري الديدان التي تلتهمك بالقبل أنني - على الرغم منها ومن كل شيء - قد احتفظت بهيكل حي المقدس وروحه الذي فني وباد).

ومثل هذا ما كان من شكسبير عند ما وصف أو رتشارد الثالث. وعندما صور نيرو ونرجس كذلك يمكن أن ينقلب القبيح الخلقي موضوعا رائع الجمال إذا ما فسرته عقول صافية راجحة نفاذة.

وفي الواقع نرى أن الجميل في الفن هو ماله شخصية. فالشخصية هي العنصر الضروري لكل شيء طبيعي، جميلا كان أو قبيحًا، أو هي الحقيقة المزدوجة كما يجب أن نسميها. هي الحقيقة الداخلية تفصح عنها الحقيقة الخارجية، هي الروح والشعور والأفكار تعبر عنها قسمات وجه أو أفعال الإنسان وإشاراته أو ألوان السماء أو خطوط الأفق. . .

يرى الفنان العظيم أن لكل شيء في الطبيعة شخصية لأن نظرته الفاحصة الصائبة تستجلي ما غَمضَ وخفي من معاني الأشياء جميعها. ولربما كان لما نحسبه بشعا دميما من الشخصية أكثر من ذلك الذي نراه بسيما وسيما. وذلك لأن الحقيقة الداخلية قد تسطع في أسارير سحنة مريضة، أو في نواحي وجه خبيث، أو في كل ما هو مشوه أو عفن، سطوعا جلياً أكثر مما في القسمات الصحيحة العادية.

وطالما كانت قوة الشخصية وحدها هي التي تظهر الجمال في الفن، فكثيراً ما يحدث أنه كلما قبح الشيء في الطبيعة زاد جماله في الفن. فلا يوجد في الفن قبيح اللهم إلا ما خلا من الشخصية، أي ذلك الذي تجدد من الحقيقة الداخلية أو الخارجية.

والقبيح في الفن هو كل زائف غير طبيعي، كل ما عني بحسن المظهر دون التعبير، كل ما كان هوائياً متقلباً ومتصنعاً، كل ما أبتسم من غير باعث على الابتسام، أو تثنى من غير ما سبب، كل ما كان بغير روح أو حقيقة. أو كل ما كان مظهراً للحسن والجمال فقط، وبالجملة هو كل ما كان كاذباً.

وعندما يحاول الفنان أن يحسن الطبيعة فيضيف اللون الأخضر إلى الربيع، والوردي إلى الشمس، والقرمزي إلى الشفاه الصغيرة، يخلق بعمله هذا القبح لأنه يكذب، وكذلك عندما يخفف من حدة الألم أو يلطف من تهدم الشيخوخة أو من بشاعة التحريف أو التصحيف، وعندما يحاول تنسيق الطبيعة فيقنعها وينكرها ويلطفها كيما تسر السوقة الجهلة، فهو يخلق القبح لأنه يخشى الحق.

كل ما في الطبيعة جميل في عيني أي فنان خليق بهذا الاسم، لأن عينيه اللتين تقبلان الحقائق الخارجية في شجاعة، تقرآن الحقائق الداخلية كما لو كانتا تقرآن في كتاب مفتوح. وما عليه إلا أن ينظر في وجه إنسان ما فيقرأ أغوار نفسه بحيث لا يمكن أن تخدعه قسمة من قسماته. والإخلاص كالتصنع كلاهما شفاف لا يستر ما تحته، فخط في الجبين، أو رفعة خفيفة من الحاجب، أو لمحة من العين، كل هذه تكشف له عن كل أسرار القلوب وتطلعه على خفاياها كذلك يستطيع الفنان أن يدرس ذهنية الحيوان الخبيثة، ويقرأ في عينيه وحركاته وسكناته مزيجاً من الشعور والأفكار والذكاء الأبكم والأحاسيس البدائية.

وهو فضلا عن ذلك صفى الطبيعة وأمينها؛ فتكلمه الأشجار والنباتات كما لو كان صديقها، وتحدثه أشجار البلوط القديمة العقداء عن حدبها على الإنسان الذي تظله تحت أفرعها الوارفة الظلال. وتخاطبه الأزهار باهتزاز سوقها الرشيقة، وبغناء ألوانها الشجي. إن كل زهرة وسط الخضرة لكلمة طيبة تخاطبه الطبيعة بها. والحياة عنده متاع مقيم، وسرور مستديم، ونشوة جنونية. ولكنه لا يرى كل شيء في الحياة مستطابا لأن الآلام التي تنتابه وتعتور أصدقاءه تتعارض مع تفاؤله وأمانيه تعارضاً مؤلماً، ومع ذلك فكل شيء عنده جميل لأنه يمشي دائماً في ضوء الحق النفساني.

نعم! إن الفنان العظيم، وأقصد به الشاعر والمصور والمثال ليجد، حتى في الآلام وموت الأحباب، وفي خيانة الأصدقاء بعض ما يغمره بفيض عجيب من السرور ولو شابته مرارة بشعة. وقد تمر به فترات يكون قلبه أثناءها فريسة للآلام ومع ذلك نرى اللذة المريرة التي يكابدها من تفهم وتفسير تلك الآلام أقوى من الآلام نفسها وأرجح. وهو يقدس أغراض القضاء في كل كائن حي، ويلقي على آلامه وجراحه الدامية نظرة ملؤها التقدير والاهتمام، نظرة الرجل الذي قرأ أحكام القدر. حتى إذا ما خانه حبيب ترنح تحت الضربة، ولكنه سرعان ما يثبت على قدميه ويستقر، ثم يرى ذلك الخائن مثلا طيباً للوضاعة والحقارة، ثم إنه يرحب بالعقوق لأنه يجد فيه ما يصقل نفسه.

وكثيراً ما يكون وجده وهيامه جامحاً مخيفاً، ولكن في ذلك السعادة على كل حال، لأن فيه التقدير العميق الثابت للحق والصدق. فعندما يشاهد الناس يقتل بعضهم بعضاً في كل مكان، وعندما يرى الشباب الغض يذبل ويذوى، وكل القوى العاملة تضمحل، وكل النبوغ يخبو، وعندما يواجه الإرادة العليا التي تملي تلك القوانين الصارمة وتفرضها على الكائنات، نراه اكثر ما يكون اغتباطا بمعرفته، سعيداً أيما سعادة إذ يستولي عليه حبه للصدق من جديد.