مجلة الرسالة/العدد 610/القصص
→ البريد الأدبي | مجلة الرسالة - العدد 610 القصص [[مؤلف:|]] |
المسرح والسينما ← |
بتاريخ: 12 - 03 - 1945 |
التعس. . .!
أقصوصة روسية
للأستاذ عبد اللطيف النشار
لست أعرف لماذا يعتقد كثير من الناس أن المقادير تعني بحظوظ الملوك والأبطال لا بالرجال العاديين، وأن الرجال العاديين لا شأن للأقدار بهم كأنها لا تلحظهم
لم يكن بطل هذه القصة من الملوك ولا الأبطال، ولكن الأقدار لم تكن في عناده أقل حرصاً على الانتصار منها في عناد (أوديب) الملك، حتى يظن المرء أنها تركت كل مشاغلها وتفرغت (لإيجور شيمو دانوف) مدة الثلاثين عاما التي قضتها في حرب معه.
ولد (إيجور) لأبوين غير معروفين لأنه لقيط. وكان مولده في قرية من قرى سيبريا. وترك عند باب تاجر من أغنياء التجار اسمه (إيجور) ومن ثم أطلق عليه هذا الاسم، وكان في الأعوام الأولى من حياته سعيداً تتهيأ له من أسباب الرفاهية ما لا يتهيأ أوفر منه لابن أمير.
وكان التاجر الغني وزوجه يقصران عنايتهما عليه حتى استثار بذلك حقد الأقارب وحسدهم، فألبساه الحرائر وأطعماه الشهي ونادياه بأحب الأسماء، وامتلأ الطفل والتف عوده، ولكن بقيت فيه نعسة الزيادة في الطعام. وهكذا ظل طول عمره ممتزج اليقظة بشيء من النعاس.
وكان شعره أصفر ناعماً وقوامه ممتلئاً قصيراً. ولكن سمنته مازالت تقل كلما كبر حتى صار هزاله محزناً في أخريات أيامه
لما بلغ السابعة من العمر مات اللذان تبنياه موتاً شنيعاً إذ تحطمت بهما عربة القطار، ولم يشك أحد في أنه أبنهما وكانت هذه النكبة أول حلقة في سلسلة أحزانه
وكان أول ما فعله ورثة التاجر أن جردوا (إيجور) من ثيابه الحريرية وطردوه من المنزل. ولقد كان الموت مقدوراً عليه في الطريق لولا أن رحماء آخرين أخذوه من الطريق فأرسلوه إلى الإصلاحية.
ولم يكن الطفل مذنباً ولكنه لم يكن هناك مكان يؤويه غير هذا المكان، وهكذا كان أمر المقادير. ولقد قبل الطفل هذا الانتقال من السعادة الكاملة إلى الشقاء الكامل بنفس وطنها على المذلة، وهناك عرف الضرب كما عرف الجوع، وسمى لصا فلم يغضب لشيء من ذلك ولم يتمرد، بل بدأ يستشعر الحب لهذا المكان ويخلص بقلبه لأولي الأمر فيه. ونسي سعادته الماضية كل النسيان فلم يعد يتألم من حالته الجديدة حتى ولا في معرض الذكرى ولعل المقادير رأت في هذا السلوان شيئاً من السعادة فأنكرته عليه. وذلك أن النار شبت في الإصلاحية ذات ليلة من ليال الشتاء فاحترقت المديرة وأبناؤها الثلاثة ونجا (إيجور) بعد أن تعرض للموت. وكان حاضراً في وقت إطفاء الحريق رجل من رعاة الغنم فأصر على يأخذه معه لأن البناء أصبح غير صالح للسكنى
وقال إيجور لراعي الغنم وهو ذاهب معه: (لعلهم يجددون بناء (الإصلاحية؟) وكان يقول ذلك وهو يبكي فأجابه الراعي لا تخف فان بناءها سيعاد)
وأخذه إلى مدينة (سمارا) ولم يلحظ الدافع الذي حدا بالطفل إلى إلقاء هذا السؤال. ولقد كان الدافع في الحقيقة هو عزمه على العودة بعد تجديد البناء. وهذا عمل لم يعمله إنسان من قبل، بل المعهود أن كثيرين قد فروا من الإصلاحية ولم يتطوع أحد بالذهاب إليها. ولكن هذا العزم يدل على مزاجه الخاص الذي ساعده على احتمال ما أصابه من الحوادث. ولقد كان الطفل بغريزته عدواً للتمرد فأنكر على نفسه الفرار من الراعي ليذهب إلى سجن الأطفال، ولكنه راجع نفسه في ذلك بأن ذهابه إلى السجن كان بدافع آخر هو الاستسلام للقدر الذي قضى عليه بأن يعيش في السجن
وفر الطفل من سمارا ثلاث مرات عاد فيها إلى سيبريا. ولكنه ضبط مرتين وضرب ضربا مبرحا، ونجا في المرة الثالثة، ولكنه ضل الطريق في مجاهل سيبريا. وعلى الرغم من ذلك فان الأخطار والمتاعب لم تضل عنه فقد كان الدب يطارده في الغابة، وقطاع الطرق يهاجمونه في الطريق، والأشرار يعتدون عليه في المدن. وكان إيجور يجوع أحيانا ليشتري (ياقة) ويخشى على ثيابه أن تتمزق ولهذا كان يفر من طريق الأشرار. وكان شريفاً على الرغم من إقدامه على سرقة الثياب مادام في حاجة إليها ولا يملك ثمنها، ولم يكن يعد هذا ذنباً.
ولما اعتاد هذه الحالة انطفأت نار شوقه إلى الإصلاحية وظل ينتقل من مدينة إلى مدينة حتى إذا بلغ السابعة عشرة وجدناه في تفليس عاملا في مصلحة التلغراف وكان مغتبطاً بهذه الوظيفة التي أهله لها حسن ملبسه وظل نظيف الثياب في الأعوام الثلاثة التي كان فيها مثالا لحسن الخلق والمعاملة. وشعر فيها السعادة التامة الماضية حتى كأنه قد نسيها
ولما بلغ الحادية والعشرين صار من دأبه التغني بأنشودة غرامية فسمعته فتاة ووهبته قلبها. ومن هذا العهد ظهر سوء الحظ مرة أخرى وكأنه كان مختفياً فجأة بشرٍ مرعب، فلقد ماتت هذه الفتاة بالجدري. وعلى الرغم من أن إيجور كان مطمئنا لكل هذه الحوادث فقد بدا أثر الحادث الأخير على وجهه فأفقده رواءه وارتسم عليه الهم والألم. وفي خلال هذا العام التحق بالجندية وكان يكره البحر وأسفاره ولكنه عين في فرقة البحريين في الأسطول واضطر إلى السفر في البلطيق فأصيب بمرض من أمراض البحر، وبدلا من أن يعطف عليه الجنود لمرضه صاروا يضحكون منه. وانقضى عامان كانت السفينة في خلالها راسية على بعض شواطئ أفريقيا، وكان أهل هذه الجهة من السودانيين الذين لا يعرف إيجور شيئا من لغتهم، ولم يكن معه مال ليعيش معهم ولكن هكذا شاء القدر أن يهرب من السفينة ويشرد في تلك المجاهل
ولم يزل يمشي حتى وصل بعد ثمانية عشر شهراً إلى القاهرة فتجددت له السعادة، لأن القاهرة خير مكان يستطيع أن يعيش هادئاً فيه. وتزوج واشتغل صانعاً في أحد المعامل، ولما كان قنوعا فقد اقتصد جزءاً من المال وعزم في النهاية على فتح حانوت لصنع الأحذية ولكن قبل أن ينفذ هذا العزم اعتقل صاحب المصنع وصودرت أمواله بسبب إفلاسه. وكان إيجور قد حفظ أمواله عنده فصودرت أيضاً.
في ذلك اليوم هرب إيجور من القاهرة ولم يزل ينتقل من بلد إلى بلد ومن صناعة إلى أخرى كاليهودي التائه، وركب البحر ثلاث مرات فغرقت السفن ونجا. وعلى الرغم من ذلك فقد ظل مطمئنا كأن الذي أصابه ليس إلا حوادث عادية يتعرض لمثلها كل إنسان.
وأخيراً وصل إلى نابولي فأخذ يبيع بها السلع متجولا. ومن هناك سافر إلى سويسرا وكانت لغته قد أصبحت مزيجاً من الروسية والعربية والإيطالية. وألف هذا النوع من الحياة وأمهله القدر فصار لا يتعرض لأخطار جديدة وايسر وبدا اليسار عليه.
ولكنه لم يكن قد تعود هذه الحالة فتاقت نفسه إلى المخاطر ليتعرض لصدمات الأقدار، فبدا في نفسه نزوع وحنين إلى ماضيه المستهدف، وان شئت فقل إنه أصبح في حالة عقلية قلقة بسبب الراحة التي لم يعتدها. وبالرغم من مقاومته نفسه فقد عجز عن كبح عزمه على العودة إلى مجاهل أفريقيا حيث تلفحه الشمس المحرقة ويتعرض لأذى الزنوج والحيوانات المفترسة
وسافر من مرسيليا على ظهر سفينة إلى الجزائر فغرقت السفينة على مسافة قليلة من الشاطئ الفرنسي فأعيد إلى باريس. ولكن ما الذي يفعله الباريسيون بمخلوق تعس كهذا. . .؟
وضعوه في معرض وكتبوا على قفصه (مخلوق تعس) وصار الأغنياء والأطباء والمفكرون يذهبون ليسمعوا منه قصته ويروا شكل جمجمته الصغيرة وعينيه الضيقتين ليصلوا إلى تعليل لتعاسته. ولكن كان ذاك على غير طائل
واستفاد إيجور من هذا العرض مالا كثيراً فعزم على استئناف العمل وعاد يعمل ويقتات. ولكن القدر أبى عليه أن يستريح فتشبثت بذهنه فكرة لم يستطع إلا تحقيقها وهي أن يعود إلى سيبريا فيبحث عن أمه المجهولة، فعاد، ولما وصل إلى روسيا كانت الثورة قد نشبت فجردته من أمواله عصابات اللصوص والته في خندق. وأبى عليه حظه أن يموت فيستريح ومن أجل ذلك نجا بأعجوبة واستأنف تجواله، ولما وصل إلى القوزاق اشتغل كاتباً وكادت الراحة تعرف طريقها إليه ولكن التفكير في أمه لم يتركه. ولذلك سافر إلى سيبريا
ولما وصل إلى البلدة التي ولد فيها كان قد بلغ الثلاثين من العمر، وفي يوم وصوله وكان جواز السفر الذي ابتاعه من موسكو قد باعه إياه رجل اتضح أنه مجرم سياسي محكوم عليه بالإعدام - في يوم وصوله وقع هذا الجواز في يد الحكومة فأعدمت (إيجور) بغير تحقيق. . . اعتقاداً منها بأنه ذلك المجرم السياسي
وهكذا شنق إيجور فلم يبكه صديق أو قريب ولم يذكره ذاكر، وهل يذكر الناس من ضحايا الأقدار غير الأبطال والملوك؟
عبد اللطيف النشار