الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 610/الأميرة علية بنت المهدي

مجلة الرسالة/العدد 610/الأميرة علية بنت المهدي

مجلة الرسالة - العدد 610
الأميرة علية بنت المهدي
[[مؤلف:|]]
بتاريخ: 12 - 03 - 1945

160 - 210

للأستاذ سعيد الديوه جي

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

غناؤها

ورثت هذا الفن الجميل عن أمها مكنونة التي غرست في نفسها الطرب منذ نعومة أظفارها فشبت مطبوعة على التلحين والغناء والعزف، ولم تكن عُلية من المقلدات لغيرها في هذه الصنعة، بل إن أشهر المغنين كانوا يسعون إليها ويأخذون عنها. وقد وضعت ثلاثة وسبعين صوتاً، فكانت من أجمل الأصوات التي يتغنى بها في العصر العباسي. ذلك لأن الأبيات التي غنتها كانت صادرة عن روحها الشاعرة، وهي أعلم الناس بمعناها، فكانت أبدع الناس في مغناها. ولها بعض الأصوات كان يتغنى بها الكبير والصغير، والسوقة والأمير، والعالم والجاهل؛ وانتشرت بين جميع طبقات الشعب ومنها الصوت التالي وهو من نظم (وضاح اليمن) في محبوبته (أم البنين).

حتام نكتم حزننا وِإلاما؟ ... وعلام نستبقي الدموع علاما؟

إن الذي بي قد تفاقم واعتلى ... ونما وزادت وأورث الأسقاما

قد أصبحت أم البنين مريضة ... أخشى بما نقلوا على حماما.

وإن شهرة أخيها إبراهيم في الغناء كانت مستمدة منها، لأنها كانت كلما وضعت صوتاً استدعت إبراهيم وألقته عليه حتى يتقنه. ثم تأمره أن يعلم جواريه وجواريها هذه الألحان، فكان إبراهيم يتولى تعليم الجواري. وأحدثت عُلية ميلا كبيراً إلى الفنون الجميلة بين أعضاء الأسرة المالكة، كانت هي زعيمة الحركة وأخذ عنها أخوها إبراهيم وفاق كثيراً من أهل عصره حتى قالوا: (إنه لم يُرَ في جاهلية ولا إسلام أخ وأخت أحسن غناء من إبراهيم بن المهدي وأخته عُلية وكانت تقدم عليه) كما كان أخوها يعقوب زامراً مشهوراً وأختاها تضربان على العود ضرباً فائقاً.

وقصرها كان أشبه بمدرسة فنون جميلة يتردد في جوه ما أبدعته علية من الشعر، و وضعته من الألحان يزينْها عزف إبراهيم وأختيه، مزمار يعقوب ترديد الجواري، كما أنها كانت في أوقات فراغها تستدعي أخاها تطارحه الألحان أو تأمر الجواري أن يعرضن أمامها ما أخذنه عنه. وكان الرشيد إذا نظم أبياتاً يبعث به إلى بلبل بني العباس فتصوغ لها لحناً وتغنيه بها. أرسل إليها مرة هذين البيتين من نظمه:

يا ربة المنزل بالفرك ... وربة السلطان والملك

تحرجي بالله من قتلنا ... لسنا من الديلم والترك

فصاغت فيهما لحناً جميلا. ولما حضر عندها الرشيد أخذت تغنيه هي وإبراهيم أخوها يضرب بالعود ويعقوب يزمر والجواري يرددن علمت عُلية يوماً أن الرشيد قد غضب عليها بوشاية حاسد وهي من أعلم الناس بمعالجته. فنظمت ثلاثة أبيات وعملت لحناً فيها وألقتها على جواري الرشيد وأمرتهن أن يغنين بها في أول مجلس يجلسه فغنين:

لو كان يمنع حسن العقل صاحبه ... من أن يكون له ذنب إلى أحد

كانت عُلية أربى الناس كلهم ... من أن تكافا بسوء آخر الأبد

ما أعجب الشيء ترجوه فتحرمه ... قد كنت أحسب أني قد ملأت يدي

فطرب الرشيد طرباً شديداُ، وسأل الجواري عن القصة فأخبرنه بها، فبعث إليها فحضرت فقبل رأسها وسألها أن تغنيه هي، فأعادته عليه فبكى وقال لها (لا جرم أني لا أغضب أبداً عليك ما عشت)، وبلغها يوماً أن الرشيد وأخاه منصور يتحدثان في جنة دار الخلد، فاستدعت جاريتها (خلوب) المغنية، وأمرتها أن تذهب إلى الرشيد وتغنيه هذا الصوت، وأن يضرب على غنائها بعود:

حياكما الله خليليَّ ... إن ميْتاً كنت وإن حيا

إن قلتما خيراً، فخير لكم ... أو قلتما غيَّا، فلا غيَّا

أما تأثير غنائها فكان عظيما، ذلك أنها تمتاز برخامة صوتها، وحسن توقيعها، وتفننها وإبداعها في كل ما تضع من الأصوات.

دخل يوماً (إسماعيل بن الهادي) على (المأمون) فسمع غناءً أذهله، فقال له المأمون: مالك؟ قال: قد سمعت ما أذهلني، وكنت أكذب أن أرغن الروم يقتل طرباً، وقد صدقت الآن بذلك. فقال له المأمون: ألا تدري من هذا؟ قال: لا والله. قال: (هذه عمتك علية تلقي على عمك إبراهيم صوتاً).

شعرها

نشأت علية منذ نعومة أظفارها مطبوعة على قول الشعر، فشبت متفننة في قرضه، وكانت آية في الفصاحة والبلاغة. وقد ذكر (ابن النديم) أن لها ديوان شعر قد رآه. ولكن أين هذا الديوان؟ لاشك أن أيدي البلى أبلته كما أودت بصاحبته. يقول الصولي (إني لا أعرف الخلفاء بني العباس بنتاً مثلها، على أن لها شعرا حسناً جدا، وصنعة في الغناء حسنة كثيرة) وما وصلنا من أشعارها يدل على أنها صادرة عن قلب شاعر ونفس صافية وقريحة فياضة وروح نشأت على حب الفنون الجميلة، فكان كل ما صدر عنها جميلا، ولهذا كان شعرها مما يغنى به في صدر الدولة العباسية لرقته وانسجامه ووقعة في النفس. ومما يدل على انطباعها على قول الشعر أنها كانت تعبر في شعرها عن الكثير من أغراضها حتى المراسلات الخصوصية.

كانت علية جميلة في صورتها، جميلة في نفسها، جميلة في صوتها، تحب الجمال وتألف الجميل، ففاض هذا الجمال في شعرها، فكان لؤلؤا منضودا تزين به تيجان الخلفاء، ولشعرها وقع في النفس وروعة في القلب، لأنه صادر عن قلب شاعر فياض.

وعلية تقول الشعر لنفسها تعبر به عما يخالجها من الأهواء والنزعات وما يجيش بصدرها ما حب وإجلال لأهلها، وما توحيه الطبيعة من مناظرها الخلابة، أو ما تحدثه فيها الحضارة من التنسيق والترتيب. وهي أصدق شاعرة عبرت في شعرها عما كانت تعانيه المرأة في ذلك الوقت من التضييق والإرهاق، وما كانت تقاسيه من لواعج الشوق والهيام في سجنها الضيق وأغلالها المادية، وما كانت تولده هذه من انفجار تردد صداه بغداد. فالكثيرات هن البائسات اللاتي أجسادهن مكبلة في القصور وأرواحهن كانت تتمنى القبور:

بتُّ قبل الصباح إن بت إلا ... في إزارٍ على فراش حرير

أو يحلْ دون ذاك غلق قصورٍ ... كم قتيل من الهوى في القصور؟

ونجد في شعرها ما كان يدور بين ربات الخدور من لغات العيون والرموز والإشارات تعبر عما تكنه الصدور من الحب والشوق ولا تقدر الألسن أن تبوح به:

تكاتبنا برمز في الحضور ... وإيحاء يلوح بلا ستور سوى مقلٍ تخبر ما عناها ... بكف الغيب في ورق السطور

أما أشعارها الكثيرة فهي في العشق والهوى والحب وأسبابه ووصف حال الحب ودلال المحبوب وظلمه وهجره. وقد أجادت في هذا الباب وأتت بما لم يتهيأ لغيرها من الشاعرات، بل إن الشعراء أخذوا يقتفون أثرها ويسلكون سبيلها في تعليلاتهم فهي تقول:

ليس خطب الهوى بخطب يسير ... لا ينبئك عنه مثل خبير

ليس خطب الهوى يدبر بالرأ ... ي ولا بالقياس والتدبير

إنما الحب والهوى خطرات ... محدثات الأمور بعد الأمور

ولعلية غزل رقيق يستهوي القلوب، وأشعارها في هذا الباب كثيرة منها قولها:

أتاني عنك سعيك بي فسبي ... أليس جرى بفيك اسمي فحسبي

وقولي ما بدا لك أن تقولي ... فماذا كله إلا لحبي

فما زال المحب ينال سباً ... وهجراً ناعماً ومليح عتب

قصاراك الرجوع إلى مرادي ... فما ترجين من تعذيب قلبي

تشاهدت الظنون عليك عندي ... وعلم الغيب فيها عند ربي

وعلية إذا مدحت فأنها تمدح أخاها الرشيد وابنه الأمين، وهي بهذا تجزل اللفظ وتحكم المعنى وتوفي الممدوح حقه - كيف لا؟ وهي ما تمدح إلا نفسها فتعبر عما يكنه صدرها لأخيها من الحب والاحترام وما يملأ قلبها من الفخر بآبائها وأجدادها العظام، وإذا زارها الرشيد استقبلته بقولها:

قل للإمام ابن الإما ... م مقال ذي النصح المصيب

لولا قدومك ما انجلى ... عنا الجليل من الخطوب

ثم تثني بالأمين سليل بني العباس ابن زبيدة والرشيد فتقول:

يا بن الخلافة والجحاجحة العلي ... والأكرمين مناسباً وأصولا

والأعظمين إذا العظام تنافسوا ... بالمكرمات وحصلوا تحصيلا

والقائد إلى العزيز بأرضه ... حتى يذل عساكرا وخيولا

وإذا علمت أن الرشيد قد استزار أختيها ولم يكتب لها كتبت إليه تعاتبه:

مالي نسيت وقد نودي بأصحابي؟ ... وكنت والذكر عندي رائح غادي أنا الذي لا أطيق الدهر فرقتكم ... فرقب لي بأبي من طول إبعادي

وإذا ودعت أخاها الرشيد فأنها تودعه بشعرها وقلبها فتقول:

لا حزن إلا حزن نالني ... يوم الفراق وقد غدوت مودعاً

فإذا الأحبة قد تولت عبرهم ... وبقيت فردا والهاً متوجعاً

وإذا طالت عليها أيام رمضان وهي مشغولة بصيامها وقيامها تذكرت أيام لهوها ومرحها وحفلاتها التي كانت تقيمها في قصرها وحنت إلى ذلك بشعرها:

طالت عليَّ ليالي الصوم واتصلت ... حتى لقد خلتها زادت على العدد

شوقاً إلى مجلس يزهو بساكنه ... أعيذه بجلال الواحد الصمد

وإذا ما رأت تقصيراً من (طغيان) خادمتها أو خيانة من وكيلها (سباع) فأنها كانت تهجوها هجواً لاذعاً مقذعاً لا يخلو من الفحش. ومن أهاجيها الجميلة أنها حضرت حفلة زفاف ورأت مخنثاً قد تزيا بزي النساء وخضب يديه وكحل عينيه، وحمر شفتيه، وهو ينقر بالدف ويغني ويرقص والنساء قد حففن به يصفقن له ويضحكن عليه وهو مسرور بفعله هذا:

ومخنث شهد الزفاف وقبله ... غنى الجواري حاسراً ومنقباً

لبس الدلال وقام ينقر دفه ... نقراً أقر به العيون وأطربا

إن النساء رأينه فعشقنه ... فشكون شدة ما بهن فأكذبا

وإذا كتبت إلى صديقتها ولم يأتها الجواب كتبت إليها تعاتبها:

يا خلتي وصفيتي وعذابي ... ما لي كتبت فلم يُردَ جوابي؟

خنت المواثق؟ أم لقيت حواسداً ... يهوين هجري؟ أم مللت عتابي؟

وإذا جلست في حفلاتها ولم تجد من تحب وتهوى شعرت بألم الفراق ولوعة الاشتياق زفرت من قلبها:

يا مورىَ الزند قد أعيت قوادحه ... اقبس إذا شئت من قلبي بمقباس

ما اقبح الناس في عيني وأسمحهم ... إذا نظرت ولم أبصرك في الناس

وإذا طال غياب الرشيد عن عاصمته بغداد وخلت حفلات علية منه شعرت بفراغ واسع ونقص في سرورها فلا يكمل إلا به كتبت تعاتبه: هرون يا سؤلي وقيت الردى ... قلبي بعتب منك مشغول

مازلت منذ خلفتني في عمى ... كأنني في الناس مخبول

ولعلية قلب ضعيف لا يحتمل القهر والهجر، فكانت تستعين بدموعها في تخفيف أحزانها وأشجانها وتروح بها عن نفسها وتنفس كربتها:

بليت بقلب ضعيف القوى ... وعين تضر ولا تنفع

إذا ما ذكرت الهوى والمنى ... تحدر من جفنها أربع

وكنت تراها تتنقل في حدائق قصرها الواسعة، تمتع نظرها بأزهارها وأشجارها وتصغي إلى ترديد أطيارها وخرير مياهها وحفيف أشجارها، فينعكس هذا في نفسها فتردده شعراً، تقف على الزهرة فتشمها وتناجيها، وعلى الساقية تردد معها الألحان، وأمام الحمام تشاركه السجع، ومع الهزار تشاركه التغريد. ومن أوصافها الجميلة أنها رأت ريحانه تميل مع الريح فمال قلبها إليها فاقتطفتها وقالت:

كأنها من طيبها في يدي ... تشم في المحضر أو في المغيب

ريحانة طينتها عنبر ... تسقى مع الراح بماء مشوب

عروقها من ذا، وتسقي بذا، ... ممزوجة يا صاح طيباً بطيب

تلك التي هام فؤادي بها ... ما إن لدائي غيرها من طبيب

هذا هو الشعر الحقيقي الصادر عن شعور خالص لا أثر فيه للتكلف ولا للمبالغة والتهويل. ولها أبيات معانيها مبتكرة، وتجري مجرى الأمثال يتناقلها الناس عصراً بعد عصر منها:

رأيت الناس من القى ... عليهم نفسه هانا

فزر غباُ تزد حباً ... وإن جرعت أحزانا

وقولها:

ما ينظر الناس إلى المبتلي ... وإنما الناس مع العافيه

وقولها:

الحب أول ما يكون جهالة ... فإذا تمكن صار شغلاً شاغلاً

عفافها

كانت علية مثالاً صالحاً، وقدوة حسنة للمرأة المسلمة التي تعبد ربها حق عبادته ولا تنسى نصيبها من الدنيا، ذات صيانة وأدب، شاركت الشعب في لهوه ومرحه وأناشيده، وترفعت من مفاسده ورذائله. قال أبو الفرج الأصفهاني (كانت علية حسنة الدين، وكانت لا تغني ولا تشرب النبيذ إذا كانت معتزلة الصلاة، فإذا طهرت أقبلت على الصلاة والقرآن وقراءة الكتب، فلا تلتذ بشيء غير قول الشعر) فعلية كانت ترفه عن نفسها بطرق وأساليب تبتكرها هي، تدفع بها سأم البطالة والعزلة، فتمرح وتلهو وتلعب دون أن تفقد شيئاً من كرامتها أو أن تتعدى حدود ربها وهي تقول: (ما حرم الله شيئاً إلا وقد جعل فيما حلل عوضاً منه، فبأي شيء يحتج عاصيه والمنتهك لحرماته) فهي ترى أن أسباب اللهو المباح كثيرة، ولكن المرأة الضيقة الصدر القليلة العقل، تتبع كل ناعق، وتجيب كل داع، فتقع في شرك التهتك والعصيان. ومما يدل على ثقتها بنفسها واعتدادها بشرفها وطهارة أخلاقها أنها كانت كثيراً ما تقول (اللهم لا تغفر لي حراماً أتيته، ولا عزماً على حرام إن كنت عزمته، وما استغرقني لهو قط، إلا ذكرت سبي من رسول الله ﷺ، فقصرت عنه، وإن الله ليعلم أني ما كذبت قط، ولا وعدت وعداً فأخلفته) هذه هي أخلاق درة بني العباس الفريدة التي أرضت ربها بعبادتها، وخففت عن نفسها بمرحها العفيف الطاهر. وهذا ما يجب أن تكون عليه المرأة الصالحة التي تتبع كتاب الله وسنة رسوله (وأبتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا) (إن لربك عليك حقا، وأن لنفسك عليك حقا، فأعط كل ذي حق حقه)

الموصل

سعد الديوه جي