الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 610/أسرار الشعراء

مجلة الرسالة/العدد 610/أسرار الشعراء

بتاريخ: 12 - 03 - 1945


للأستاذ صلاح الدين المنجد

(تتمة ما نشر في العدد الماضي)

ولنقرأ الآن صفحة أشد متعة، تتعلق بأمر ذي شأن عند الأديب، ذلك هو النقد، نقد آثاره بنفسه، ونقد الناس آثاره. والأدباء في هذا الأمر مختلفون متباينون. فهذا تهيجه الكلمة الواحدة فيثور لأخف نقد ولا يرضى عنه، وذاك لا يثور ولا يحفل بما قيل. وهؤلاء أناس يستقبلون أروع الآثار بنقد لا نقد فيه، وأولئك يستقبلون أهون الكتب بمدح وتقريظ وكلٌ يكتب عن هوى في نفسه أو غرض لديه فيسف ولا يعلو، ويتجنَّى ولا يقدر، كل ذلك لغرضه وحاجته، وقديماً قال الصوفيون (المرض في الغرض).

اسمع النقد الذي استقبلت به قصيدة كيتز المسماة (آنديميون) أروع قصيدة لهذا الشاعر، التي يقولون إنها تحوي أبياتا فرائد من الشعر الإنكليزي.

لقد كتب ناقد مجلة يقول: لقد سرق هذا الشاعر أفكار السيد هنت (وهو صحافي وشاعر معروف) وادَّعاها لنفسه. ولكنه كان أشد غموضاً منه، وهو جامد الطبع ينحت من صخر. .)

فماذا أبقى هذا الشاعر لكيتز؟ سرَّاق أفكار، وجامد الطبع ينحت من صخر! لم يبق له شيئا إذ ذاك. ولكن الناقد يمضي ويمضي معه غرضه الذي دفعه إلى هذا النقد الغث، وتبقى القصيدة وحدها خالدة لروعتها وعظمتها.

وحين أصدر الشاعر الأمريكي (ويتمن) ديوانه الخالد (أوراق العشب) قال النقدة عنه إنه مشابه كلام العوام، مفعم بالحماقات؛ وتطاول آخرون فقالوا ما ليس يُقال.

على أن هذه النّقدات ما أثرت في الشاعر ولا أبِهَ لها. وظَّل يعمل حتى أدرك الثالثة والسبعين من عمره. أما كيتز المسكين، فقد مات في السادسة والعشرين، وكان من سبب موته يأسه الشديد حين قرأ ذلك النقد السخيف.

شتان بين هذين الشاعرين! ولأن النقد غير السباب والتعريض. لقد كان عقله ذا سلطان على نفسه. أما كيتز فقد كانت نفسه الرقيقة أعظم من عقله، فتغلب عليه اليأس، وأضناه ما سمعه من سباب. وهكذا يكون النقد سبباً للأحياء ويكون أيضاً سبيلا للموت.

هذا النقد الذي قضى على كيتز، وكاد يقضي على (اندرسن) هو الذي دفع إلى المجد كوَّبه، ولوئيس، وكلودفارير، وماترلنك.

ولنعد إلى شاعرنا كيتز. لقد ثار على النقاد جميعاً، ولا شيء يؤلم حقاً كقراءة هذه الرسالة التي كتبها شلَّي بهذا الشأن إلى مدير مجلة (كويرترلي روفيو) يخبره فيها (إن كيتز المسكين قد أُلجِئ إلى حالة لا تطاق من جراء تعسف الناقد وسوء تأتيه. لقد سبب له مرضاً أحسب أن الأمل ضعيف في شفائه منه. ولقد كتبوا إلى إن أولى علامات المرض تحاكي الجنون، وأنهم جهدوا كثيراً حتى استطاعوا أن يمنعوه من الانتحار. وإلى ذلك فإن آلامه النفسية سببت انفجار وريد دموي في الرئة. وبدت دلائل السل المعوي لديه).

فأي نفس، هذه النفس الرقيقة؟

والنقَّاد في بعض الأحيان لا يفهمون ولا يقدَّرون، وقد يهرفون بما لا يعرفون. ولكنهم، على كل حال، يكتبون وينقدون. ربما رفعوا قصيدة لبيت، وربما خفضوا كتاباً لمقطع. . . لقد اتهم النقادُ هاردي طول حياته بأنه كان متشائما. ولكنه لم يحفل بما قالوا ولم يحاول أن يدفع عنه ما نسبوه ولكنه ثار يوماً، وقد بلغ الرابعة والثمانين من عمره، عند ما نقده ناقد، فكتب يقول: (إني لأدهش من أنه ينبغي أن أذكّر الناقد الأديب أمراً هو أول قواعد النقد، أمراً كان عليه أن يعرفه كما أعرفه. إن أثر المؤلف ينقد ويحكم عليه بالجملة لا بمقاطع مأخوذة عرضاً ربما تعارضت وتباينت. . .)

ويتناول تينَّسون مسألة السرقة الأدبية، فيقول: (وربما صادفوا معنى واحداً عند شاعرين، فيقولون هذا سارق وذاك مسروق منه، مع أن العين البشرية تتأمل الأشياء نفسها في العالم كله، فمن الطبيعي أن يتلاقى الشعراء. . .) ويذكر أن أديباً صينياً كتب إليه ذات يوم يخبره أن بيتين في شعره وجدهما بألفاظهما ومعانيهما في قصيدة لشاعر صيني لم تترجم ولم تنقل إلى لغة من اللغات.

ويُدلّل تينسون على عجز النقَّاد عن الفهم بقوله:

عرفت عجوزاً، زوج صياد، فقدت ولديها في البحر. فرأيتها في يوم عاصف تشير بقبضة يدها إلى البحر الهائج وتصيح:

(آه! تستطيع أن تزأر وتغضب الآن! فلشدَّ ما أبغض مرآك مظهراً أسنانك البيض. .) قال: فلو أني ذكرت ذلك في قصيدة من قصائدي لنصح لي النقاد أن أصور عجائزي تصويراً طبيعياً لا خيالياً).

ويضرب تينسون مثلا آخر فيقول:

(قمت برحلة إلى ألبيرنة، وأنا في العشرين من عمري. فأعجبت بشلال عظيم يساقط من علو ألف قدم. فكتبت في كناشتي إنه يتساقط على ورْد، كأنه شُرعُ من القماش الناعم الرقيق.)

فلما أخرجت ذلك للناس، أعلمني ناقد، أن هذا القماش الذي شبَّهت الشُرعُ به هو نسيج يستعملونه في المسارح، ليقلدوا الشلال المتساقط، ثم أضاف (وأن السيد تينَّسون ليحسن صنعاً إن استوحى الطبيعة ولم يستوحي المسارح).

وبلغ تينسون الذروة من المجد، وقد يعجب القارئ إذا علم أن أول مجموعة شعرية صدرت له بيع منها خلال سنة كاملة نسختان فقط بعد جهد وإغراء.

وبعد، فهذى طُرُف من الأسرار. . فهل ترى أعذب من الأسرار؟

دمشق

صلاح الدين المنجد