مجلة الرسالة/العدد 61/فصول مدرسية في الأدب الدرامي
→ الأزمة كما يراها الاقتصاديون | مجلة الرسالة - العدد 61 فصول مدرسية في الأدب الدرامي [[مؤلف:|]] |
مثل أوربي لعرفان الجميل! ← |
بتاريخ: 03 - 09 - 1934 |
4 - الرواية المسرحية
في التأريخ والفن
بقلم أحمد حسن الزيات
أجزاء أخرى للعمل
ذلك هو التقسيم الأساسي للعمل، وهناك تقسيم آخر أغفله اليونان واستعمله الرومان، وهو تقسيم العمل إلى فصول، والفصول إلى مناظر. فالفصول هي مراحل العمل أو درجاته، تفصل بين كل درجة وأخرى فترة تسمى استراحة، والمناظر أجزاء الفصل المختلفة، وتحدد بدخول ممثل أو خروجه. ولعلك لا تكتفي بالتعريف في شرح هذه الكلمات، فدونك شيئاً من التفصيل:
الفصل: لم يعرف الإغريق كما قلت تقسيم الرواية إلى فصول، وإنما كانوا يعرفون شيئاً يشبه ذلك في تمثيل ثلاث مآس في موضوع واحد، كل مأساة لها كيان مستقل عن الأخرى. أما اللاتين فقد قسموها إلى فصول حصرها هوراس في خمسة لا تزيد ولا تنقص. ففي الأول يعرض العمل، وفي الثاني يبسط، وفي الثالث يُعقد، وفي الرابع يهيأ حله، وفي الخامس يحل. ولكن جعل هذا التقسيم قاعدة مطلقة لا يخلو من ضرر. وإلا فماذا يصنعون في موضوع يعرض في منظر ويحل بكلمة؟ أيترك وهو طريف مؤثر صالح للتمثيل، أم يملأ بالتطويل والحشو حتى يكمل؟ وما حكمهم على مأساة أو ملهاة محكمة النسج لا تبدأ عقدتها إلا في الفصل الثالث، ثم يخصص لحلها الفصل الخامس؟ إن التعقيد هو جسم العمل وروحه كما علمت، فينبغي أن ينزل من الرواية في أوسع محل، بل يجب أن يكون كالتيه، مدخله العرض ومخرجه الحل. وأمهر الكتاب وأقدرهم من عجل بالتعقيد ثم طوله ما استطاع محكماً لقوته، متدرجاً في عقدته.
الحق أن جريان العرف بتقسيم الرواية إلى خمسة فصول ليس قائماً على أساس متين فيفرض، ولا هو خالياً من الفائدة الفنية فيرفض، إنما المرجع في ذلك كله إلى طبيعة الموضوع، فإذا كان قوياً غنياً يستطيع أن يملأ خمسة الفصول كان ذلك التقسيم أدعى إلى انفساح العمل وتقوية الجاذبية وتحليل الأخلاق واطراد الحوادث من غير ضغط ولا اصطدام ولا مباغتة. وأما إذا كان بسيطاً لا يحتمل البسط ولا يقبل التطويل فخير لك أن تغلب حكم الطبيعة على حكم العرف فتتصرف في التقسيم تصرفاً يلائم الموضوع ويتفق مع الإمكانية ويعصمك من الحشو والتكلف. على هذا الرأي يسير الكتاب اليوم فتجد الروايات تتردد بين فصل واحد وخمسة. على أن الشرط الأساسي هو الدقة في هذا التقسيم حتى يحسن توزيع العمل، ويمكن تدرج الجاذبية في الفصول والمناظر بحيث يكون العمل كالساعة: فالحوار يرصد الثواني، والمناظر ترصد الدقائق، والفصول ترصد الساعات، لأنك إذا أرحت العمل في منظرين متعاقبين فترت الحركة وخمد الأثر. اقرأ رواية ترتوف لموليير - وهي منقولة إلى العربية - وراقب فيها سير العمل وتدرجه وتقسيمه تجسدها في كل ذلك المثل الأعلى تجسدها في كل ذلك المثل الأعلى. علام يدور العمل في هذه القطعة الخالدة؟ يدور إما على هتك الحجاب عن نفاق ترتوف وخبه، وإما على استيلائه على بيت أرجون وثروته، وحرمانه ابنه، وزواجه من ابنته. فماذا صنع موليير في الفصل الأول؟ عرض على أنظارنا صورة المنزل الداخلية، وأرانا سلطان ترتوف المنافق على أرجون الساذج وأمه العجوز، وأطلعنا على سوء رأي الباقين من الأسرة في هذا اللئيم. أعلن كل ذلك في المنظر الأول فاشتبكت المعركة وابتدأ العمل بقوة. وفي الفصل الثاني حمل أرجون على الإقرار بطاعته العمياء لترتوف، وترتوف قد قطع ما بينه وبين بنيه وزوجه، وأفسد ما كان صالحاً من نفسه، وجعله يعلن أن ترتوف سيكون زوج ابنته، وابنته تحب فالير، ولكنها لك تجرؤ على عصيانه. ومن ثم نشبت المعركة المضحكة بين العاشقين. وفي الفصل الثالث كاد داميس بن أرجون يفضح أمر ترتوف، وأوشك العمل أن يشارف الحل لولا براعة المنافق وسذاجة أرجون، فاستحكمت العقدة وقوبت الجاذبية بعزم أرجون على معاقبة بنيه بالخروج عن ماله كله لترتوف. وجاء الفصل الرابع فانكشف سر ترتوف وانجلى أمره لأرجون فهم بطرده، إلا أنه عارضه بعقد الهبة، وهدده بوثائق تتهمه وتجرحه، فاضطرب البيت ونال من أهله الهمم والجزع. وفي الفصل الخامس زاد الاضطراب، واشتد القلق حتى حانت ساعة الانقلاب فعرف الملك خيانة الماكر فقبض عليه وعفا عن أرجون. فأنت ترى أن العمل قسم بدقة، وأن الجاذبية وزعت بحكمة، وأن الموضوع كان كافياً لتغذية الفصول فبرئت القطعة من الاستطراد واللغو
الاستراحة:
هي فترة بين فصل وآخر من فصول الرواية يقف أثناءها التمثيل وينقطع انتباه المشاهد، أما العمل الروائي فلابد من فرض استمراره خارج المسرح مجاراة للطبيعة والواقع، ومحافظة على شرط الإمكانية. فهي راحة للمشاهد وضرورة للمسرح، ولكن الممثل يجب أن يشتغل فيها، وإن كان في الواقع يستنشي هو أيضاً نسيم الراحة في ظاهر المسرح (الكواليس). ولا مناص للكاتب من أن يراعي ذلك وهو يُكوّن هيكل الرواية ويقسم العمل على الفصول. فلا يجوز مثلاً أن يحرك العمل عندما وقف في الفصل الأول. بل يفرض أن العمل قد قطع في أثناء الاستراحة مرحلة طويلة أو قصيرة على حسب الظروف، فحكمه في ذلك حكم مهندس البناء يرسم في تخطيطه الأماكن الفارغة والمشغولة ولكل منها نصيب من عنايته وتقديره. وبعد، فإن الاستراحة عظيمة النفع جليلة الخطر. وحسبك أنها أجل مزايا المسرح الحديث، اهتدى إليها فخفق بها مبدأ الإمكانية، ووثق بها عقدة الجاذبية. أما الإغريق فما كانوا يقفون التمثيل، وإنما كانوا يشغلون ما بين الفصول بالقيان (الخورس) وكان يساعدهم على اتباع هذا النظام اشتراط وحدثي الزمان والمكان. فلما تحلل المحدثون من سلطان هاتين الوحدتين وأجازوا لأنفسهم الخروج عن مداهما لم يكن بد من هذه الاستراحة يسدون بها خلل التمثيل، ويتقون بها ملل التطويل، ويفرقون ما بين الحوادث والواقع. وأظن في هذا الكلام شيئاً من الغموض فإليك توضيحه:
لا شك أن في الطبيعة كثيراً من الأشياء لا يمكن أن تمثل على المسرح، ولا أن تغفل في الرواية، فإذا أسأنا تمثيلها أضعف الوهم المسرحي، وإذا أغفلنا ذكرها شوهت العمل الروائي. فلا مخرج لنا إذن من هذه الحيرة إلا الاستراحة، نفرض حدوثها في خلالها، ثم نكتفي بعد ذلك بذكرها. كذلك لا يخلو العمل المسرحي غالباً من تطويل لازم وتفصيل واجب يملان المشاهد ويَفُتّان في طبعه، وهو يأبى إلا أن يظل مشغول القلب متمتع الحواس بتأثير لذيذ قوي، فنستطيع إذن أن نوفق بين شعور المشاهد وحقيقة الواقع، بأن نعرض على المسرح ما يلذ ويؤثر، ونبقى للاستراحة ما يمل وينفر.
بقى أن الكاتب بفضل الاستراحة يستطيع أن يحقق مبدأ الإمكانية الزمنية بفرضه حدوث أشياء لو مثلت على حقيقتها لاقتضت من الزمن ما لا تتسع له مدة التمثيل
المناظر: المناظر هي أجزاء الفصل المختلفة كما علمت، وتحدد بدخول شخص أو خروجه، وليس لها عدد معين. ولكن لها قاعدة عامة، وهي ألا يبقى المسرح خالياً من ممثل حرصاً على الوهم واستبقاء للخديعة واستدامة للأثر. فإذا اضطر الممثلون جميعاً إلى تركه ليخلفهم عليه آخرون، وجب إما أن يوجهوا الخطاب إليهم، وإما أن يعلنوا دخولهم عليهم، حتى لا يدخل المسرح أحد أو يخرج منه دون أن يُعلن المشاهدون بسبب دخوله، أو يكونوا قد علموه من قبل حصوله. أما أن يخرج ممثلو المنظر السابق ويدخل ممثلو اللاحق من غير مخالسة النظر ولا مبادلة الكلام فذلك إخلال بشرط الإمكانية
الأشخاص: يشترط في أشخاص الرواية أن تكون صفاتهم وعاداتهم (محلية) تلائم الزمان والمكان اللذين يعيشون فيهما، (مناسبة) تتفق مع عمرهم وجنسهم وطبقتهم، (ممكنة) لا نناقض التأريخ ولا التقاليد ولا الأساطير، (ثابتة) تلازم الشخص من بدء العمل إلى انتهائه، (متنوعة) لا تتشابه في شخصين، بل يختلف كل شخص عن الآخر في صفته وعادته، جارية مع العرف، فلا تكون شاذة ولا غريبة كوصف اللص بالكرامة، وقاطع الطريق بالشهامة، والسفاح بالنبل. وتلك نقيصة من نقائص المسرح الحديث.
أداء العمل
يحدث العمل في نفس الممثل فيؤديه بالعبارة مستعيناً بالإشارة. والعبارة تكون حواراً وقد تكون نجوى نفس. وبحث هذه الكلمات الأربع يحتاج إلى شيء غير قليل من الأناة والعناية
العبارة: الأسلوب الروائي هو أسلوب الحديث النبيل المونق. فشرطه أن يكون طبيعياً لا تفسده الصناعة والتعمل، حياً لا تخمده الغثاثة والتبذل، بسيطاً لا تعقده الروية والتأمل، ملائماً تتناسب لهجته مع نشأة المتكلم وتربيته وطبيعته وعادته وموقفه. ولن يتسنى للكاتب أن يحقق هذه الشروط إلا إذا نسى نفسه وفنى في أشخاصه، فيطرح المقاطع الوجدانية والمحسنات البديعية والتشابيه الغريبة من كل ما ينم على الدرس والبحث والتحذلق. اللهم إلا المأساة بنوعيها فأنها تقتضي الأسلوب الرائع، واللفظ المختار، واللهجة المؤثرة، لعلاقتها بالوجدان وصلتها بالعواطف. والبيان كان وما زال شرك العقول وسحر القلوب. وأكثر المآسي لم يضمن لها الخلود إلا روعة الأسلوب وبلاغة الأداء. ولقد أخطأ بعض الروائيين القصد فغلَّبوا جانب الحركات والإشارة، على جانب الكلمات والعبارة، فوجهوا التأثير للعيون لا للقلوب، وهيأوا الرواية للتمثيل لا للقراءة. وفاتهم أن العمل المسرحي مؤلف من الكلام والحركات. فلا الممثل متكلم لا غير كالمحدث، ولا هو متحرك لا غير كالخيال الشمسي، وإنما الكمال أن يُعنى بالطريقين جميعاً، فما كان من العمل قوياً مادياً علمياً أدته الحركة، وما كان منه جليلاً دقيقاً عميقاً كآثار العادات وصور الأخلاق وتباين العواطف وتضارب الأهواء وتعارض المنافع شرحته العبارة. فظواهر الغيرة والاشمئزاز والغضب تستطيع الحركات والملامح أن تؤديها واضحة جلية، ولكن تحليل القلب البشري وهو سر الجمال في أدوار ديدون واريان وفدر وهرميون لا يضطلع به إلا البيان المعجز. وهل يعلق بذهنك من القطعة الفنية بعد تمثيلها غير مواقفها الشعرية القوية التي أوحاها اليراع فانتقشت في لوحة ذهنك؟
إن العمل الروائي يتجه إلى العين أو إلى القلب تبعاً لطبيعته وملاءمته للبلاغة أو التصوير، ولكن الأثر الذي يحدثه في النفس عن طريق الأذن أهدأ وأبطأ ولكنه أبقى وأعمق، أما ما يحدثه فيها عن طريق العين فهو قوي فجائي سريع، ولكنه قريب الغور قليل البقاء، لأن الأذن إنما تنقل الفكرة وهي نامية ولود، والعين إنما تنقل الإحساسة وهي جدباء عقيم. ذلك إلى أن القطعة إذا قامت على الحركات فحياتها ومماتها رهن بقوة المسرح وقدرة الممثل. ولك فيما تشهده على المسارح المصرية من روائع الفن الغربية دليل قائم على صحة ما نذهب إليه، فإن بعض المتعسفين من أدعياء الكتابة ينقلونها نقلاً لفظياً، فيهدمون فيها ركن البلاغة وهو عمادها الأقوى، فتثير الضحك وهي فاجعة، وتستوجب الهزء وهي رائعة!!
ولا يقعن في بالك أنا نريد أن نضع من قدر الحركات أو ننكر أثرها في الفن، فإن ذلك ليس في حسابنا ولا هو مفهوم من كلامنا، وإنما نريد أن يوفي الكلام حقه من العناية أيضاً حتى تقوم الرواية على قدميها فلا تسير عرجاء ولا شوهاء
بقي علينا أن نعرض لمسألة دقيقة خلقتها فوضى الأدب في مصر، ودعوى كل أديب حق التشريع لهذه اللغة الأسيفة، وانصراف القادرين من الكتاب عن الأدب المسرحي انصرافهم عن كل جليل مثمر. تلك هي لغة الرواية! فقد يزعم بعض الكاتبين أن لغة المسرح المصري يجب أن تكون العامية تثبيتاً للون المحلي وتحقيقاً لشرط الإمكانية. وكل ما يمكن أن يقولوه تأييداً لمذهبهم إن العامية لغة الأشخاص التي سايرتهم في كل سن، ولابستهم في كل ظرف، فعبرت عن خلجات نفوسهم ونبضات قلوبهم، وأنها حملت خلاصة تجاربهم وثمرات قرائحهم من لطيف الكنايات وبديع الأمثال وبليغ الحكم، وأنها مرآة لبيئتهم انعكست عليها صور حياتهم ومظاهر معيشتهم، وأنها أكمل دلالة وأسهل إبانة عن التصورات الجديدة التي تخرج من أعماق النفس أو تدخل في ثنايا الحوار. ذلك كلام وجيه لا غبار عليه ولا نكير فيه، وما يسوغ في رأينا أن ننقصه وقد قررناه من قبل. ولكن ليقولوا لنا متى طبق قانون الإمكانية بنصه على اللغة والأسلوب؟ إن الناس في كل زمان وفي كل مكان لا يتكلمون في الواقع كما يجعلونهم يتكلمون على المسرح. وهذه جميع المآسي ومعظم الملاهي قديمها وحديثها مكتوبة بالشعر الرصين، ذي اللفظ المنضد والأسلوب الفخم، فهل يزعمون أن أشخاصها كانوا في الحقيقة يتحاورون بالشعر ويتجادلون بالمجاز؟ أم يزعمون أن لغة راسين وشكسبير وهوجو وجوت وهي نموذج البلاغة للكتاب، وموضوع الدراسة للشباب، كانت لغة الشعب الذي كانوا يمثلونه أو يمثلون له؟ وإذا جاز لهم أن يجعلوا الفرنسيين والإنجليز يتكلمون على المسرح المصري بلسان عربي، فلم لا يجوز لنا كذلك أن نجعل خاصة المصريين بل عامتهم أيضاً يتكلمون بلهجة عربية فصحى، وهي أقرب إلى هؤلاء منها إلى أولئك؟ ليفرضوا أن العامية لغة أجنبية ننقلها إلى لغتنا العربية، وليغضوا على تلك القذاة الضئيلة ابتغاء رقي اللغة ونهضة الأدب وتعليم الشعب. إن الفن الحقيقي أبدى خالد، ومن المحال أن تخلده لغة جيل واحد، ولهجة قطر واحد، لأن العامية تتغير من جيل إلى جيل، وتختلف في قطر عنها في قطر. ونحن لا نريد أدباً مصرياً فحسب، وإنما نريد أدباً عربياً يمثل حضارة مصر وثقافة المصريين، وينقلهما إلى الأقطار النائية، والأجيال الآتية
على أن أحداً من الناس لم يقل بأن المسرح لابد أن يعرض الحقيقة جرداء عارية، بل المعروف أن من واجبه أن يحسنها بالخيال ويزينها بالكذب، وفي ذلك التحسين والتزيين سحره وجاذبيته، والمشاهد ذاهب إليه وفي نفسه أنه سيخدع، وهو راض بهذه الخديعة ما دام فيها لذته وفائدته، ومن قواعد المسرح أن الصدق يتوخى فيما يؤثر في الذهن والنفس من الأفكار والعواطف، أما ما يؤثر في السمع والبصر فلا بأس فيه من الكذب؛ فشكل الأسلوب من النظم والنثر والعامي والفصيح كشكل المسرح من المناظر والستائر والأضواء والأصباغ، تعرف الآذان والعيون أنه صناعي مختلق، ولكن الأذهان والنفوس لابد أن تتأثر لما يقع في الإمكان من المواقف والعواطف والأخلاق والعادات
إن المسرح مهبط البيان ومورد البلاغة وطريق النفوس إلى الجمال والخير والحق، فليس من غايته التأثير واللهو، وإنما يعمد إليهما تخفيفاً لثقل الحكمة عن النفوس كما يساغ الدواء الشديد المرارة بالسكر أو العسل. فإذا لم يخرج المشاهد من المسرح وهو أوفر علماً وأرجح حلماً وأحسن حالاً من قبل أن يدخل فقد أخطأ المسرح غرضه وضل طريقه. ولعمري كيف يستطيع أن يرفع النفوس في مراقي الكمال، إذا لم يترفع هو عن حقارة الحياة العامية، ويصور للناس المُثل العليا من الجمال والفضيلة فيرتفع الشعب إلى سمائه، بدل أن يسف هو إلى حضيضه ودهمائه؟ وعافني نشدتك الله من احتجاجك على بنجاح الرواية الفلانية وهي مكتوبة باللغة العامية، فإن نجاح الرواية لا يقدر بما تستدره من المال والدموع، وإنما تقدر بما يبقى في نفسك منها بعد أن يسكن الممثل وينسدل الستار
إن الضوء الباهر يبقى أثره في العين ملياً بعد اختفائه، والنغم الجميل يرن صداه في الأذن طويلاً بعد فنائه، وكذلك الفن الساحر يستولي على نفسك وحسك حيناً بعد انتهائه. فهل تجد الأمر في هذه الروايات كذلك؟ أم الحقيقة المخجلة أن أكثر هذه القطع تسود في ليلتين وتمثل في ليلة، ثم تذرو أوراقها عواصف البلى والعدم؟!
يتبع
(الزيات)