مجلة الرسالة/العدد 61/الأزمة كما يراها الاقتصاديون
→ لا تحزني. . . | مجلة الرسالة - العدد 61 الأزمة كما يراها الاقتصاديون [[مؤلف:|]] |
فصول مدرسية في الأدب الدرامي ← |
بتاريخ: 03 - 09 - 1934 |
بقلم عبد العزيز عبد الكريم
كانت الشعوب القديمة تشكو من القحط والجماعات. قال الله تعالى في كتابه العزيز في سورة يوسف: (وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف، وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي أن كنتم للرؤيا تعبرون). هذا ما رآه ملك مصر في منامه، فلم يعرف أحد تأويل رؤياه، وكان يوسف حينئذ في السجن، فاستدعاه الملك واستفتاه في أمر الرؤيا، ففسر يوسف المنام قائلاً له: إنه سيمر عليكم سبع سنين خصبة، فازرعوا فيها واخزنوا ما زرعتم وهو في سنابله إلا قليلاً مما تأكلون، ثم يعقبها سبع سنين مجدبة، تأكلون فيها مما ادخرتم.
وقد تطورت الآن وسائل المعيشة وأحوالها، وتبدلت طرق الكفاح في سبيل العيش، وارتقت الزراعة والصناعة والتجارة؛ فنشأت بازاء هذا التبدل مشاكل جديدة، وظهرت معضلات خطيرة. وأشد ما نعانيه الآن من النظام الاقتصادي الحالي هو الأزمة التي انتابت العالم بأسره؛ وقد خلقت للعالم مشاكل عديدة لا تنجل ولا تزول إلا بالسلاح.
الأزمة هي اضطراب فجائي في التوازن الاقتصادي؛ ولها أعراض وعلامات تشابه أعراض الأمراض التي تصيب الإنسان، فبعض الأزمات يقتصر على بلد واحد، وبعضها وبائي ينتقل في أنحاء العالم كمرض الكوليرا.
عرف الاقتصاديون بعد طول البحث أن ظواهر الأزمة وأعراضها هي في كل الأزمات تقريباً. وأول ما يشير إلى نشوء الأزمات تناوبها؛ فقد رؤى أنها تتبع بعضها بعضاً في القرن التاسع عشر بنظام منتظم عجيب، فبين كل أزمة وأخرى مدة تبلغ عشر سنوات أو اثنتي عشرة سنة، نصفها يمثل حالة صعود والنصف الآخر يمثل حالة هبوط، ويظهر ذلك في تقلبات الأسعار والأجور، وأسعار الفوائد.
ومن ظواهر الأزمة وبائيتها، ففي بادئ الأمر يزيد الإنتاج في إحدى الصناعات أو ينقص، ويتنقل هذا الاضطراب من صناعة إلى أخرى ومن بلد إلى آخر.
هناك ثلاث علامات خاصة تسبق الأزمة، وتعلن قرب حلولها:
(1) ارتفاع في الأسعار يدل على نشاط الاستهلاك، ووفرة الأموال المتداولة وس الإقراض.
(2) ارتفاع في قيمة الضمانات القابلة للتحويل وخصوصاً الأسهم والسندات، ويدل ذلك على تقدم المشروعات التجارية وزيادة الإنتاج، وزيادة الحصص في رؤوس الأموال.
(3) ارتفاع في الأجور يشير إلى نشاط سوق العمل، وزيادة الطلب للعمال.
غير أنه بعد وقت ما، تتغير الحال وتنقلب حالة الصعود إلى حالة هبوط، ونجد أمامنا:
(1) تدهوراً في الأسعار: يدل على عجز الاستهلاك، وندرة الأموال المتداولة وصعوبة الأقراض.
(2) تدهوراً في قيمة الضمانات: يدل على تدهور الأرباح والحصص، وفشل المشروعات الكبرى الخطيرة، وسقوط يرافقه ارتفاع في سعر الخصم والقطع.
(3) تدهوراً في الأجور: يدل على شلل الإنتاج، ووقف طلب العمال، والأشارف على الوقوع في خطر العطلة والعاطلين.
والأزمات التي وقعت في القرن التاسع عشر تواريخها كما يلي:
1815
1857
1890
1827
1866
1900
1836
1873
1847
1882
وقد لاحظ جيفونز من هذه التواريخ أن الأزمات والت بعضها في خلال فترات ومسافات منتظمة تبلغ كل واحدة منها عشر سنوات تقريباً. وقد ظن أن الأزمات يرجع سببها إلى ظاهرة فلكية لا سلطان لأحد عليها. ولكن القرن العشرين قد دحض نظريته هذه، فإن أول أزمة وقعت فيه كانت في عام 1907
اهتم الاقتصاديون بالبحث عن أسباب الأزمات، وأخذوا يبحثون عن علة توالي الأزمات وتناوبها، فاهتدوا أخيراً إلى الأسباب الآتية:
(1) وفرة الإنتاج - لا تنشأ وفرة الإنتاج إلا عن تقدم الصناعة الكبرى. فمن البديهي أن البضائع المعروضة في السوق سوف تزيد يوماً ما على حاجة الاستهلاك، ويصبح من العسير تصريف شيء ما من هذه المقادير؛ فينتج عن ذلك تدهور عام في الأسعار، ولكي يتجنب الصناع البيع مع الخسارة يحصلون على الأموال من المصارف، أو يبيعون الأسهم، فينشأ عن ذلك ارتفاع في الفوائد، وتدهور في قيمة الأسهم، حتى يصبح المال نادراً، وذلك راجع إلى زيادة السلع المعروضة. وسرعان ما يصبح هؤلاء الصناع في حال من الإفلاس والضنك يرثى لها.
وها قد رأينا كيف يسبق الإنتاج الاستهلاك، وكيف يقف الإنتاج عن السير عند حد معين، وكيف يسير الاستهلاك حتى يلحق الإنتاج، فيسبقه بدوره؛ وهذا السبق لا بد منه. فظاهر لنا في هذه الحال علة تناوب الأزمات: وكل أزمة يعقبها وقت تعوض فيه الصناعة خسارتها، وتنتعش حالتها، ويتجدد إنتاجها ليسد مطالب الأفراد الحديثة.
(2) قلة الاستهلاك - ويذهب بعض الاقتصاديين إلى أن الأزمات هي في الغالب راجعة إلى زيادة الإنتاج الناشئة عن شراهة أصحاب رؤوس الأموال الذين يحاولون استرداد ما فقدوه من الأرباح عن طريق الكمية؛ ولكن السبب الأساسي هو عدم كفاية ثروة أغلب المستهلكين - وأغلبهم من طبقة عمال اليومية - لابتياع ما أنتجوه وما صنعوه بأيديهم، فزيادة الحاجة إلى الصناع لتوسيع الإنتاج وزيادته، وزيادة عمال الأجور، وعدم القدرة على تسديد أجورهم، تؤدي إلى اضطراب التوازن في وقت من الأوقات. ويزيد الاضطراب وتشتد الأزمات حتى يحين الوقت الذي يقضي فيه على نظام الرأسمالية. فهذا النظام مقضي عليه بالفناء بسبب النتائج التي أدى إليها.
(3) زيادة الرأسمالية - اتفق الاقتصاديون على أن زيادة الرأسمالية أخطر من زيادة الإنتاج في إحداث الأزمات. إن المصانع الكبرى يلزمها ترتيب حركة دولاب العمل بتجهيز الآلات، والمناجم، والعربات، والسفن وغير ذلك. وإذا كان المصنع على أهبة الاستعداد للعمل، فقد يرسل غلالاً لا حصر لها إلى السوق. وليس في الإمكان وقف هذه الحركة متى رغبنا، لأن رأس المال ثابت لا يمكن سحبه بأي حال من الأحوال. تتدهور الأسعار تبعاً لذلك، وتفلس أكثر المشروعات، أو تستسلم للأمر، حتى تتصرف الزيادة بزيادة الاستهلاك نظراً لتدهور الأسعار.
والاقتصاديون يعتبرون أن قلة الإنتاج ليست سبباً من أسباب الأزمات أو ظاهرة من ظواهرها: فلماذا؟ ألا يضطرب الميزان الاقتصادي بقلة الإنتاج كما يضطرب بزيادته؟ بالرغم مما تحدثه قلة الإنتاج من البؤس والفناء والموت، وبالرغم من القحط والمجاعات التي سجلتها الحوادث المخيفة والشهيرة في تاريخ الشعوب كلها؛ فإن الاقتصاديين لم يجمعوا الآراء على أن القحط والمجاعات نوع من أنواع الأزمات، إذ ليس من خواصها التناوب، ولا ارتفاع الأسعار قبلها، ولا هبوطها بعدها.
أما علاج الأزمة: فيقف على نوع الأسباب التي أدت إليها. فإذا اعتقدنا أن السبب هو زيادة الإنتاج، وجب علينا أن نعمل على تحديد ذلك الإنتاج، فيمكننا توحيد الشركات وتضامنها، وتنظيم إنتاجها لنتمكن من منع زيادة الأسعار المطردة وهبوطها أيضاً؛ ويمكننا إيجاد حركة تعاون بين الشركات لتنظيم حركة الإنتاج تبعاً للحاجات لا تبعاً للأرباح.
ولو اعتبرنا أن سبب الأزمة هو أن طبقة العمال ليس لديها من الثروة ما يعينها على زيادة الاستهلاك كلما زاد الإنتاج، كان من الضروري أن نبحث عن نظام يضمن للعامل نجاح كل ما ينتجه.
وإذا نظرنا إلى زيادة الرأسمالية، وجب أن نلجأ إلى المصارف إذ هي أكبر عضد لمساعدة الشركات وإمدادها بالأموال. قد تتدخل المصارف، إما برفع سعر القطع لديون الآجال المحدودة، إذا رأت أن سرعة التداول تزداد إلى درجة مقلقة، وإما بإنقاذ البيوت الكبيرة الوشيكة السقوط والضياع، إذا كان لسقوطها الأثر الفعال في إحداث الاضطراب وشل الحركة التجارية.
والأزمة الناشئة عن زيادة الرأسمالية تزداد وتشتد وطأتها بسبب الذعر والتشاؤم الاقتصادي. والتنبؤ بالأزمة يزيد الخطر ويعوقنا عن العمل على تلافيها، فما أجدرنا ألا نعتقد ذلك، فالخوف من الشر يولد الشر، والتفاؤل بالخبر يجلب الخير.
إسكندرية
عبد العزيز عبد الكريم