مجلة الرسالة/العدد 608/المجامع اللغوية
→ ../ | مجلة الرسالة - العدد 608 المجامع اللغوية [[مؤلف:|]] |
أبو العلاء المعري ← |
بتاريخ: 26 - 02 - 1945 |
لصاحب العزة الأستاذ أنطوان الجميل بك
قالوا إن الإنسان حيوان ناطق، أي إنه مالك تلك القوة التي تساعده على التعبير عما يجول في جنانه من الأفكار والمعاني. فكان من البديهي أن يحاول، منذ نشأته الأولى، استنباط خير الوسائل إلى أداء ما يريد التعبير عنه على أكمل وجه، بالإشارة ثم باللسان، أصواتاً متقطعة فألفاظاً منسقة. وكان من الطبيعي كذلك أن يتواضع مع أمثاله على أساليب للتعبير تكفل إتقان أداة التفاهم، أي اللغة، والوصول بها إلى الإعراب عن مختلف المعاني في أدق مقاصدها.
ومن هنا نشأت على توالي الزمن الأندية والمجامع التي تعني باستكمال هذه الأداة، وهي المجامع التي أطلق عليها فيما بعد اسم (أكاديميا).
وأصل الكلمة، على ما هو معروف، مشتق من اسم (اكاديموس) أحد أبطال الأغارقة. وكان (اكاديموس) هذا يملك على بعد فرسخين من أثينا روضة واسعة الأرجاء كان أفلاطون يختلف إليها فيجتمع تحت ظلال أشجارها الباسقة بتلاميذه ومريديه فيشرح لهم مذهبه الفلسفي. وبعد وفاته ظل هؤلاء يعقدون حلقاتهم للبحث والمدارسة في هذا المكان فعرف باسم (أكاديميا) نسبة إلى صاحبه. وشاعت الكلمة بعد ذلك في البلاد الغربية، مع توسع في مدلولها، فأطلقت على المجامع والأندية الأدبية والعلمية والفنية، بل تناولت المعاهد التي يدرس فيها بعض الفنون كأكاديمية التصوير، أو الغناء، أو الرقص، حتى إن الفرنجة اشتقوا منها صفات وموصوفات وأفعالا، وكثيراً ما استعملت الكلمة في لغاتنا الشرقية نفسها.
وعلى هذا الأساس نشأت أكاديمية البطالمة في الإسكندرية، والأكاديميات العبرية، وأكاديمية شارلمان، وأكاديمية الفريد الكبير في إنجلترا.
أما العرب فقد قامت أسواقهم ومجالسهم - وأشهرها سوق عكاظ ونادي قريش ودار الندوة - مقام هذه الأكاديميات. فكانوا في مجتمعاتهم هذه يتبادلون الأخبار ويتناشدون الأشعار ويبحثون في شؤونهم العامة. وكان للغة نصيب غير قليل من هذا البحث، كما تدل على ذلك حكاية النابغة مع الأعشى والخنساء. ثم صار بلاط الخلفاء في الشام والعراق والأندلس ومصر أشبه شيء بهذه الندوات الأدبية والفنية، كما هو مفصل في كتب الأدب.
أما انتشار هذه المجامع بمعناها الحديث فقد بدأ في عهد النهضة أو البعث، وبخاصة في إيطاليا، فقام في كل مدينة جمعية أكاديمية أو أكثر تضم الصفوة المختارة من المفكرين والباحثين في مختلف الفنون والعلوم.
ولم تلبث فرنسا أن حذت حذو إيطاليا فنشأت فيها مثل هذه الجمعيات وازدهرت.
وفي غضون ذلك أخذت اللغات الأوربية تتطور وتصقل بتأثير طبيعة كل إقليم وأخلاق ناسه، وكان لهذه الأكاديميات أثر مذكور في هذا التطور، فامتازت لغة كل قوم بطابع خاص عرفت به، حتى أن كارلوس الخامس المعروف باسم (شارلكان) وهو أول من فاخر بان الشمس لا تغيب عن أملاكه - كان يقول:
(إني إذا خاطبت الله ضارعاً خاطبته بالإسبانية. وإذا خاطبت النساء متحببا خاطبتهن بالإيطالية. وإذا خاطبت جوادي زاجراً خاطبته بالألمانية. وإذا خاطبت الناس عامة خاطبتهم بالفرنسية).
وهو يشير بقوله هذا إلى ما في لغة الإسبانيين من الإجلال والتفخيم، وإلى ما في لغة الإيطاليين من الرقة والعذوبة، والى ما في لغة الألمان من العنف والشدة، والى ما في لغة الفرنسيس من الواضح وحسن البيان.
وهل نغالي إذا قلنا إن هذا العاهل العظيم لو كان يعرف اللغة العربية لغنى بها عن غيرها في مواقفه الأربعة، فقد جمعت فخامة اللفظ وجمال الأسلوب إلى قوة الأداء وفصاحة التعبير.
قلنا إن الأكاديميات انتشرت في عصر النهضة وبعده. وتنوعت أهدافها واختلفت مقاصدها، ولكننا اكتفينا بالإشارة إليها إشارة عابرة لنقف عند مجامع اللغة، ونقارن بين مهمتها ومهمة مجمعنا اللغوي ما دام هذا موضوع حديثنا. ومن خلال هذه المقارنة سنرى وجوه الشبه في الأهداف، وفي الصعوبات المعترضة، وكذلك في ضروب النقد الذي يوجه إلى هذه المجامع.
وأشهر المجامع اللغوية بلا مراء إنها أشهر مؤسسة في تاريخ الأدب، وهي كذلك أقدم المجامع القائمة إذ يرجع تاريخ إنشائها إلى أكثر من ثلاثمائة سنة. ذلك أن الوزير الكبير الكردينال ريشليو نهض يعمل على نشر نفوذ فرنسا في أوربا، فأراد أن يدعم عن طريق نشر لغتها وثقافتها ما أحرزته من جاه وسلطان عن طريق انتصارات جيوشها.
وكان في ذلك العهد لفيف من الأدباء يجتمعون للنظر في منتجات القرائح وفي الموضوعات الأدبية. فخطر للوزير أن يجعل لهذه الاجتماعات صفة رسمية تعلي شأن الأدب في الدولة وترفع مكانته في أوربا، فاستصدر في شهر يناير من سنة 1635 أمراً ملكيا بإنشاء (الأكاديمية الفرنسية) ولكن السياسة عادة لا تحب الأدب، فخشي البرلمان أن يطغي نفوذ هذه الندوة الأدبية على نفوذه وسلطانه فلم يقر إنشاءها إلا بعد سنتين
أنشأ ريشليو هذا المجمع فكان موضع عنايته. وظل أسمه مقرونا به حتى قيل إن إنشاء الأكاديمية الفرنسية كاف وحده لتخليد اسم هذا الوزير الخطير. وفي سنة 1672 أصبح هذا المجمع في كنف الملك لويس الرابع عشر فشمله برعايته وأغدق عليه من نعمه الشيء الكثير.
ومضت (الأكاديمية) تعمل قرابة قرن ونصف قرن إلى أن قامت الثورة الفرنسية الكبرى تحارب طبقة الأرستقراطيين أو الأشراف، فألغت في شهر أغسطس سنة 1793 (الأكاديمية) لأنها كانت تمثل أرستقراطية الفكر. ولكنها ما لبثت أن عادت بعد سنتين فأقرت وجودها. وظل هذا المجمع بين مد وجزر إلى أن أصبح منذ سنة 1832 إحدى الهيئات الخمس التي تألف منها المعهد العام ' وهي الأكاديمية الفرنسية، وأكاديمية الفنون الجميلة، وأكاديمية النقوش والآداب، وأكاديمية العلوم، وأكاديمية العلوم الفلسفية والسياسية.
ولا بد لي من الإشارة هنا إلى أن في أضابير وزارة المعارف عندنا مشروعا بإنشاء مثل هذا المعهد العام في مصر على أن يؤلف من خمس شعب هي: شعبة العلوم، وشعبة الطب، وشعبة الآداب، وشعبة الفنون، وشعبة العلوم السياسية والاقتصادية، إلى جانب مجمعنا اللغوي. ولعل زميلنا المحترم الدكتور طه حسين بك، وقد كان له اليد الطولي في إعداد هذا المشروع، سيحدثنا عنه الحديث الوافي في الوقت المناسب
عرضنا فيما تقدم موجزاً لتاريخ الأكاديمية الفرنسية وكان عدد أعضائها ولا يزال أربعين عضواً يسمون (الأربعين الخالدين) لا لأن آثار كل منهم كفيلة بتخليده، بل لأنهم كلما مات منهم واحد حل محله آخر. ولعل كلمة (الإبدال) العربية تؤدي مثل هذا المعنى. فقد جاء في لسان العرب: الإبدال قوم من الصالحين (ولنفرض رجال الأدب من أهل الصلاح) أربعون في الشام وثلاثون في سائر البلاد لا يموت منهم أحد إلا قام مكانه آخر. وجاء في اللسان أيضا: الإبدال الأولياء والعباد، سموا بذلك لأنهم كلما مات منهم واحد أبدل بآخر.
أما أهداف الأكاديمية الفرنسية فقد حددتها المواد 24 و25 و26 من الأمر الصادر بإنشائها، وتلخص في العمل على تطهير اللغة واستكمالها وتركيز قواعدها. وكان المفروض أن يحقق ذلك بتأليف المعجم لتحديد الألفاظ، وكتاب النحو لتركيز القواعد، وعلم العروض لميزان الشعر، وعلم البلاغة لأحكام الكلام.
وهذه الأغراض تكاد تكون وأغراض مجمعنا واحدة فقد جاء في المادة الثانية من المرسوم الملكي الصادر بإنشاء مجمع فؤاد الأول للغة العربية ما نصه:
(أغراض المجمع هي:
(أ) أن يحافظ على سلامة اللغة العربية، وأن يجعلها وافية بمطالب العلوم والفنون في تقدمها، ملائمة على العموم لحاجات الحياة في العصر الحاضر، وذلك بأن يحدد في معاجم أو في تفاسير خاصة، أو بغير ذلك من الطرق، ما ينبغي استعماله أو تجنبه من الألفاظ والتراكيب.
(ب) أن يقوم بوضع معجم تاريخي للغة العربية، وأن ينشر أبحاثا دقيقة في تاريخ بعض الكلمات وبغير مدلولاتها.
(ج) أن ينظم دراسة علمية للهجات العربية الحديثة بمصر وغيرها من البلاد العربية.
(د) أن يبحث كل ماله شان في تقدم اللغة العربية، مما يعهد إليه فيه بقرار من وزير المعارف العمومية)
على أن المجمع الفرنسي لم يلبث أن قصر همه على إعداد المعجم، ثم على دراسة المنتجات الأدبية لمنح الجوائز للمتفوقين من الأدباء. ومع ذلك فان تصنيف هذا القاموس سار ببطيء قد نجد فيه بعض العذر عن التأخير في إنجاز قاموس مجمعنا. فان الطبعة الأولى منه لم تصدر إلا في سنة 1696، أي بعد ستين سنة من إنشاء الأكاديمية. ثم صدرت منه أربع طبعات في القرن الثامن عشر، أما الطبعة الثامنة والأخيرة فقد صدرت منذ عشر سنوات، أي أن الأكاديمية أصدرت ثماني طبعات من معجمها في ثلاثمائة سنة من حياتها.
وقد رجعت إلى مقدمة هذا المعجم فوجدت وجوه الشبه كثيرة بين عملهم وعملنا، وبخاصة بين العقبات التي اعترضتهم والتي تعترضنا. ففي الطبعة الأولى التي صدرت منذ 250 سنة قررت الأكاديمية أن تقصي من قاموسها المصطلحات العلمية والفنية إلا ما كان منها كثير الذيوع شائع الاستعمال. ولكن استعمال هذه المصطلحات ما لبث أن ذاع ذيوعا كبيراً بازدياد تذوق العلوم والفنون في القرن الثامن عشر، فلم ير المجمع مفراً من أن يفسح صفحات قاموسه في طبعته الرابعة (سنة 1762) للمصطلحات الأولية في العلوم والفنون والمهن مما يحتاج إليه الكاتب ويجده القارئ حتى في المصنفات التي لا تتناول هذه الموضوعات بالذات. ثم جاء في تصدير الطبعة السابعة (سنة 1877) أن الأكاديمية ارتضت أكثر من ألفي كلمة علمية وفنية لشدة الحاجة إليها.
ولما شرعت تعد الطبعة الأخيرة التي صدرت منذ عشر سنوات كانت الكلمات العلمية والفنية قد طغت على اللغة، فأن العلوم القديمة في عالم البخار والكهرباء والآليات قد تجددت معالمها وتعددت فروعها، وظهرت علوم ومخترعات جديدة، كما حدثت انقلابات كبيرة في عالم الاقتصاد والسياسة والاجتماع مما دعا إلى استنباط عدد كبير جداً من المصطلحات ذاعت وشاعت وعم استعمالها بين جميع الطبقات بفضل المدرسة والصحافة. ولاحظت الأكاديمية أن من هذه المصطلحات ما هو ابن يومه ومصيره إلى الزوال، ومنها ما هو مضطرب الاشتقاق، وليد الارتجال. فلم يكن من التمحيص والتروي طويلا قبل إقراره، شكلا وصيغة، لإدماجه في قاموس المجمع.
وبعد تخير هذه الألفاظ وصقلها وتهذيبها، واجه المجمع صعوبة أخرى، كالتي نواجهها في مجمعنا اللغوي، وهي وضع التعريف الجامع المانع، للكلمة المختارة. فكانت الأكاديمية كثيراً ما تحتاج في كل ذلك إلى الاستعانة بالأكاديميات الأخرى - كأكاديمية العلوم وأكاديمية الفنون وأكاديمية الطب. أو إلى الاسترشاد بآراء الأخصائيين والخبراء في المادة المبحوثة كما نفعل هنا
ولم تقتصر مهمة التحديد والتعريف على المصطلحات الجديدة بل امتدت إلى كثير من الكلمات القديمة التي كان تحديدها ناقصا أو غامضا أو التي تطور مدلولها مع الزمن.
وعملت الأكاديمية كذلك على حذف الكلمات المماتة أو المهجورة، فأزالتها من قاموسها، وأحالتها إلى معجم اللغة التاريخي، كما أحالت إلى المعجمات الخاصة أسماء الأعلام والمسميات الجغرافية وما إلى ذلك مما لا يتسع له معجم اللغة.
وقد عرضت الأكاديمية الفرنسية كذلك لما نعرض له الآن من تبسيط قواعد النحو وتسهيل القراءة. وانتهى بها الأمر أن أعلنت أنها لا تدعى التشريع في القواعد، ولا الوصاية أو القوامة على الإملاء. بل اكتفت بما قام به أحد أعضائها في الطبعة الرابع من قاموسها منذ نحو قرنين من إدخال تعديل على كتابة عدد كبير من الكلمات كانت تدخل في هجائها أحرف لا فائدة منها سوى الدلالة على أصلها اللاتيني أو اليوناني. وأبى المجمع في الطبعات التالية أن يسير إلى أبعد من ذلك، مكتفيا بصورة الإملاء التي أقرها الاستعمال الطويل والتي طبعت بها ألوف المصنفات المنتشرة في العالم، ورأت أن تغيير هذه الصورة في الكتابة يدخل البلبلة والاضطراب في الأفكار مقابل فائدة ضئيلة لا يؤبه لها.
أما نحن فلم نصل إلى هذه المرحلة التي وصلوا أليها، وقد نكون في المرحلة التي كانوا فيها منذ قرنين فنحتاج إلى شيء من التبسيط في القواعد والى بعض التعديل في كتابة الكلمات. دون مساس بالجوهر.
ومن ينعم النظر في تنوع الصعوبات عند إعداد القاموس الوافي يجد من التجني على المجامع اللغوية اتهامها بالبطيء في عملها. وإذا كان المجمع الفرنسي قد سلخ ثلاثمائة من السنين للتغلب على جانب من هذه الصعوبات فان لمجمعنا، وهو لا يزال في عهد الطفولة بعد عشر سنوات فقط من إنشائه، بعض العذر، بل كل العذر، في عدم تحقيق جميع الأغراض التي أنشئ من أجلها، لا سيما وأن الصعوبات التي واجهت غيرنا تباعا قد واجهتنا مرة واحدة مجتمعة.
أيها السادة: قلنا إن المجمع الفرنسي هو بكر المجامع اللغوية القائمة، وعلى منواله نسجت المجامع التي أنشئت فيما بعد في البلاد الأخرى، لذلك نستطيع بعد أن تبسطنا في سرد تاريخه وبيان مهمته أن نمر سراعا بسائر المجامع.
ففي سنة 1700 أنشأ فردريك الأول مجمع العلوم في برلين بإيعاز من الفيلسوف ليبنز، وقد حول فردريك الثاني الكبير هذا المجمع إلى (الأكاديمية الملكية للعلوم والآداب) وكان رئيسها في أول أمرها العالم الفرنسي موبرتوي. وظلت تقاريرها تطبع بالفرنسية من سنة 1746 إلى سنة 1804. وكان لهذا المجمع فيما بعد أثر كبير في ازدهار العلم الألماني.
وأنشئت أكاديمية مدريد في إسبانيا سنة 1713 برعاية الملك فيليب الخامس، فوجهت همها إلى وضع معجم وأجرومية أصبحا مرجعين بل حجتين في اللغة في إسبانيا والجمهوريات اللاتينية بأمريكا الجنوبية.
وفي سنة 1772 أنشئت في بلجيكا الأكاديمية الملكية وأعيد تنظيمها في سنة 1845 فقسمت ثلاثة أقسام: قسم الآداب، وقسم الفنون، وقسم العلوم. وكان معظم أعضائها من الفلاسفة والمؤرخين واللغويين والقانونيين، وقل فيها الشعراء والأدباء. فرأى القوم حاجتهم إلى إنشاء أكاديمية أخرى فأنشئت الأكاديمية الملكية للغة الفرنسية وأدبها في سنة 1920.
وإذا كانت الأكاديميات قد نشأت في مدن إيطاليا منذ نحو أربعمائة سنة فأن الأكاديمية الكبرى لم تنشأ في روما إلا في سنة 1926 وتم تنظيمها في سنة 1929 واشتملت على أربع شعب: العلوم الطبيعية والرياضية، والآداب، والعلوم الفلسفية والتاريخية، والفنون.
أما الشعوب ألانجلو سكسونية من إنجليز وأمريكان فلم يعنوا بالمجامع اللغوية عنايتهم بأندية البحوث التاريخية والعلمية والفلسفية، فالأكاديمية البريطانية والجمعية الملكية أو أكاديمية لندن ليستا بالمجامع اللغوية بالمعنى الذي نقصده، فان القوم رأوا تبسيط لغتهم ما استطاعوا ليعمموا استعمالها، حتى اهتدوا أخيراً إلى لغة مبسطة لا يزيد عدد كلماتها على 850 كلمة من الموصوفات والصفات والأفعال والحروف التي يحتاج إليها الإنسان في الكلام.
أما في الشرق. فقد ألف رهط الأدباء في العواصم العربية جمعيات أدبية لغوية كثيرة ولكنها لم تكن لتعمر طويلا لأن الحكومات لم تكن تؤيدها، بل كثيراً ما كانت تناهضها، إلى أن أنشئ المجمع اللغوي في دمشق منذ ربع قرن، وقد أدى للغة خدمات تذكر له بالشكر.
ويسرنا أن نحي هنا رئيسه الأستاذ محمد كرد علي ووكيله الأستاذ عبد القادر المغربي، زميلينا في المجمع المصري.
أيها السادة: وقفت بكم طويلا عند المجمع الفرنسي لأنه أقدم المجامع اللغوية وأشهرها، فاسمحوا لي أن أقف بكم وقفة أخرى عند المجمع الروسي، فهو أحدث المجامع وأكثرها اختلافا في تأليفه، وأهدافه، ونحن اقل معرفة به منا بغيره.
كان بطرس الأكبر قد أنشأ في بطرسبورج سنة 1725 أكاديمية للعلوم. ثم تفرعت إلى شعب على غرار شعب الأنستيتو الفرنسي. ولكن نظام هذه الأكاديمية قد قلب رأسا على عقب في روسيا السوفيتية، حيث أصبحت الأكاديمية العلمية بمثابة هيئة أركان الحرب في معسكر الفلم الروسي، وأصبح لها الشأن الأول في نهضة البلاد. وفي سنة 1941 قبيل اشتراك روسيا في الحرب القائمة كان هذا المجمع مؤلفا من 76 معهدا و11 معملا للاختبارات العلمية، و42 محطة للتجارب و6 مراصد و24 متحفا. ويبلغ عدد الأعضاء الآن 150 عضواً، وعدد الأعضاء المراسلين 230 وهناك 4700 أخصائي يساعدون في الشؤون العلمية والتطبيقية، وقد نشر المجمع في سنة 1941 من التقارير والنشرات الدورية ما يزيد على عشرة آلاف صفحة. وهذه الأكاديمية مؤلفة من ثماني شعب، وهي شعبة الطبيعيات والرياضيات، وعلوم الكيمياء، وعلم طبقات الأرض والجغرافية، والعلوم البيولوجية والعلوم التطبيقية، والتاريخ والفلسفة، والاقتصاد والقانون، والأب واللغات. ويتبع كل شعبة عدد من المعاهد والمعامل والمتحف.
أما شعبة الأدب واللغات فتشتمل فيما تشتمل عليه على معهد اكتسب أخيراً أهمية خاصة وهو معهد الأبحاث الشرقية ورئيسه العلامة ستروف من علماء الآثار المصرية. ومن بين أعضائه البارزين المستشرق كراشكوفسكي الذي تخصص بالأدب العربي الحديث، وهو من أعضاء مجمع دمشق، وقد ترجم إلى الروسية بضعة مؤلفات لكتابنا المعاصرين منها كتاب (الأيام) لزميلنا المحترم الدكتور طه حسين بك، كما أشرف على نشر مؤلفات ابن فضلان التي تحتوي على معلومات ثمينة عن أقدم عهود التاريخ الروسي. وفي هذا المعهد أيضاً يعمل البحاثة أرنستد الأخصائي في اللغة القبطية. وقد أعد للنشر مخطوطات بهذه اللغة على جانب من الأهمية إذ تبحث في تطور مصر الاقتصادي في القرون الوسطى وهي تكاد تكون فريدة في بابها.
وفي هذا المعهد مجموعة ثمينة من المخطوطات الشرقية من عربية وقبطية وإيرانية وصينية. كما أن فيه مكتبة شرقية ضخمة تعد من أغنى مكتبات العالم. وليست الدروس الشرقية محصورة في معهد الأدب، فإن لها كذلك نصيبا من أعمال معهد اللغة والفكر ومعهد الأدب. وتدرس لغات الشعوب الشرقية الداخلة في اتحاد الجمهوريات السوفيتية في معاهد أرمينيا وجورجيا والتركمان. أيها السادة - قد يكون من الطريف، ونحن نعرض وجوه الشبه بين مجامعهم ومجمعنا، أن نورد بعض ما وجه إلى هذه المجامع من سهام التهكم والنقد البريء وغير البريء.
فهذا الشاعر الفرنسي بيرون لم يتمكن من خول الأكاديمية فأرسل إليها يوصيها بان تكتب على ضريحه: (هنا يرقد بيرون وهو لم يكن شيئا حتى ولا عضوا في الأكاديمية) وكان يقول عن الأربعين الخالدين: (هم أربعون ولكن عقولهم عقول أربعة).
قال فولتير، في أسلوبه اللاذع، يحدد الأكاديمية: (هي هيئة يدخلها أصحاب الألقاب وكبار الموظفين ورجال الدين والقانون والأطباء والمهندسون وأحيانا رجال القلم). وهو يشير في قوله هذا إلى بعض أعلام الأدب الذين لم تفتح الأكاديمية لهم أبوابها من أمثال موليير وغيره. ولكن الأكاديمية عوضت موليير تمثالا بعد وفاته في قاعة جلساتها وكتبت تحته: (لم ينقص مجده شيء ولكنه هو كان ينقص مجدنا). وقال أحد النقاد (هذه المجامع اللغوية إن هي إلا ملاجئ للعجزة من الذين شوهتهم حرفة القلم).
وقال أحد النقاد (هذه المجامع اللغوية إن هي إلا ملاجئ للعجزة من الذين شوهتهم حرفة القلم)
وقال آخر (هي جمعيات هازلة يحاول أعضاؤها أن يظهروا بمظهر الجد).
ولكن، مهما يقولوا ويتهكموا وينتقدوا، ما فتئ مطمح كل كاتب وكل عالم وكل باحث في البلاد الراقية الوصول إلى عضوية هذه المجامع التي يعتقد الكثيرون أن الكفاية والعقل يقدمان فيها على الثروة وشرف الأصل. وقد قال الفيلسون رينان في ذلك: (إن صوت العلم قد يكون أحيانا ضعيفا تجاه الجرأة والدجل، ولكن هذا الصوت متى خفت ضجيج الشارع يستمر مسموعا ولا يسمع غيره. لذلك ومهما تشتد الحملات على المجامع العلمية ستكون الغلبة دائما في النهاية لهذه المجامع لأنها الحارس الأمين على الأساليب الصحيحة، وإذا كانت محترمة في نظر عدد قليل، فان هذا العدد القليل هو على حق. ولا يبقى إلا الحق).
وتعرفون حكاية (بوانكاره) وقد يكون فيها أسطع دليل على مكانة هذه المجامع. وصل هذا الرجل العبقري إلى رياسة الجمهورية وظل مع ذلك عضوا في الأكاديمية، لا تشغله مهام الدولة عن حضور معظم جلسات المجمع، بل كان يشترك في التصويت عند انتخاب عضو جديد. وحدث أكثر من مرة أن فاز بالانتخاب من لم يكن قد أعطاه صوته وكان يوقع بصفة كونه رئيسا للدولة مرسوم تعيين الفائز وإن لم يكن مرشحه.
وعندما زار بوانكاره إنجلترا في شهر يونيو سنة 1913 وقف ملك الإنجليز وهو ملك يستطيع أن يقول كما قال شارلكان إن الشمس لا تغيب عن أملاكه - وقف يرحب بضيفه رئيس الجمهورية الحليفة فقال:
(إني سعيد بأن أرى في ضيافتي رجلا ممتازا بخدمه الجليلة، ذا شهرة بعيدة ليس في عالم السياسة فحسب، بل أيضاً في تلك الجمعية الأكاديمية التي هي منذ ثلاثة قرون موضع فخر لفرنسا تحسدها عليه أوربا جمعاء).
أيها السادة - من الأقوال المأثورة عند الفرنجة أن لا شيء ادعى إلى الملل والسأم من الخطب الأكاديمية. وكان نصيبي من هذه الحفلة خطبة أكاديمية في أكاديمية عن الأكاديميات، فإذا كنت قد أمللت وأسأمت فأرجو عذرا.
أنطون الجميل