الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 608/أبو العلاء المعري

مجلة الرسالة/العدد 608/أبو العلاء المعري

بتاريخ: 26 - 02 - 1945


التفاؤل والأثرية عند الشيخ

للأستاذ محمد إسعاف النشاشيبي

- 5 -

النسل، الزواج

والنسل أفضل ما فعَلتَ بها ... فإذا سعيت له فعن عقل

إذا شئت يوماً أن تقارن حرة ... من الناس فاختر قومها ونجارها

إذا خطب الحسناء كهل وناشئ ... فإن الصبا فيها شفيع مشفع

ولا يُزهدنها عُدمه، إن مُده ... لأبرك منصاع الكبير وأنفع

وما لأخي الستين قدرة سائر ... إليها ولكن عجزه ليس يُدفع

ويُخفض في كل المواطن ذمه ... وإن كان يُدني في المحل ويُرفع

إذا ما ابن ستين ضم الكعاب ... إليه فقد حلت البهله

هو الشيخ لم يرضه أهله ... ولم يُرض في فعله أهله

فلا يتزوج أخو الأربعين ... إلا مجربة كهله

رأى الشيب في عارضيه المسن ... فنعم القرين له الشهله

وواحدة كفتك فلا تجاوز ... إلى أخرى تجئ بمؤلمات

ولا يتأهلن شيخ مُقل ... بمُعصرة من المتنعمات

فإن الفقر عيب، إن أضيفت ... إليه السن جاء بمؤلمات

إذا خطب الزهراء شيخ له غنى ... وناشئ عُدْم آثرت من تعانق

إذا كانت لك امرأة عجوز ... فلا تأخذ بها أبداً كعابا

فإن كانت أقل بهاء وجه ... فأجدر أن تكون أقل عابا

وحسن الشمس في الأيام باق ... وإن مَجَت من الكبر اللعابا

ومن جمع الضرات يطلب لذة ... فقد بات بالإضرار غير سديد

معاملة الصغ ورفقاً بالأصاغر كي يقولوا ... غدونا بالجميل معاملينا

فأطفال الأكابر إن يوقوا ... يُروا يوماً رجالاً كاملينا

لا تزدرُن صغاراً في ملاعبهم ... فجائز أن يُروا سادات أقوام

وأكرموا الطفل عن نكر يقال له ... فإن يعش يُدع كهلا بعد أعوام

. . . وبالوالدين إحسانا

العيش ماض فأكرم والديك به ... والأم أولى بإكرام وإحسان

وحسبها الحمل والإرضاع تُدمنه ... أمران بالفضل نالا كل إنسان

تحملْ عن أبيك الثقل يوماً ... فإن الشيخ قد ضعفت قواه

أني بك عن قضاه لم ترده ... وآثر أن تفوز بما حواه

حفظ الصحة

دارِ نفسك وإن بلغت سن الهرم كما يداري الوليد.

إفراط الشبع آفة على كل حيوان:

سنُّك خير لك من درة ... زهراء تعشي أعين الناظرين

عَجبت للضارب في غمرة ... لم يطع الناهين والآمرين

يكسر باللؤلؤ من جهله ... خُشْباً عتت عن أنمل الكاسرين

تجزأُ ولا تجعل لحتفك علة ... بإكثار طعم، إن ذلك لُوم

لا ترُبلنَّ وكن رئبال مأسدة ... إن الرشاد ينافي البادن الرَّبلا

الشبيبة

إذا ما خبت نار الشبيبة ساءني ... ولو نُص لي بين النجوم خباء

إن الشبيبة نار، إن أردت بها ... أمراً فبادره، إن الدهر مطفئها

السفر

لو ملكت الرحيل جولت في الآفاق ... حتى يملني التجويل

أدب السلوك الكتاب المختوم يشتمل على سر مكتوم، فإن فضضته ولم يأذن من أمنك عليه فقد أوضعت في سبيل الخائنين

لا يبصر القوم في مغناك غسل يد ... على الطعام إلى أن يرفع السور

ولا يكن ذاك إلا بعد كفهم ... أكفهم، ويسير الفعل ميسور

فإن تقريب خدام الفتى حُرضا ... والضيف يأكل رأى منه مخسور

لكل زمان ما يشاكله

أعدد لكل زمان ما يشاكله ... إن البراقع يُستثبتن بالشُمُ

فإن ضربت بسيف الهند في ومَد ... فسيف إفرنجة المخبوء للشم

المرء شبه زمانه

وإن الفتى فيما أرى بزمانه ... لأشبه منه شيمة بأبيه

الناس

والناس بالناس من حَضْر وبادية ... بعض لبعض - وإن لم يشعروا خدم -

إن خالفوك ولم يجرر خلافهم ... شرا فلا بأس؛ إن الناس أخياف

قال الخليفة العظيم عمر:

(أعقل الناس أعذرهم للناس).

وقال رشيد بن خليفة: (اشكر المحسن ومن لا يسئ، واعذر الناس فيما يظهر منهم ولا تلمهم، فلكل من الموجودات طبع خاص)

ومن عرف الناس وتأريخهم ووراثتهم القريبة والبعيدة ' , ومنشأ ما يسمى (رذائل) وأسبابها عذر ولم يستعجب مما يشاهد. يقول الشيخ:

يلقاك بالماء النمير الفتى ... وفي ضمير النفس نار تقد

يعطيك لفظا لينا مسه ... ومثل حد السيف ما يعتقد

وهذان البيتان إن دل ظاهرهما على معايب في الناس ففيهما ما ينبئ بارتقاء لهم عجيب، فقد أمسى هذا الفتى الذئب الجشع الحاسد المحتقد سافك دم أخيه من أجل ثعلب ظفر به أو يربوع، ومن أجل مستنقع يرده أو مطيطة - قد أمسى هذا الفتى وارث تلك الغرائز يلقاك أحسن لقاء، ويخاطبك خطابا جميلا، وفي الضمير والمعتقد ما أبان الشيخ. فإذا طال تكلفه ما يتكلفه واستمر اعتياده ما يعتاده (وعادة المرء تدعى طبعه الثاني) كما يقول شيخنا حاكي بعد أدهار باطنه ظاهره، أشبه جوانيه برانيه، وحسبك منه اليوم ذاك اللقاء وذاك العطاء، وان كان في ضمير النفس نار تقد، وساء ما يعتقد.

. . . كذلك سخرناها لكم

قال الإمام ابن قيم الجوزية في كتابه (طريق الهجرتين وباب السعادتين): (. . . ولما انتهى أبو عيسى الوراق إلى حيث انتهت إليه أرباب المقالات طاش عقله، ولم يتسع لحكمة إيلام الحيوان وذبحه صنف كتابا سماه (النوح على البهائم) فأقام عليها المآتم، وناح وباح بالزندقة الصراح)، وقال العلامة الفيومي في (المصباح): (. . . ويحرمون - يعني البراهمة - لحوم الحيوان، ويستدلون بدليل عقلي فيقولون: حيوان برئ من الذنب والعدوان فإيلامه ظلم، خارج عن الحكمة. وأجيب بظهور الحكمة؛ وهو أنه استسخر للإنسان تشريفا له عليه، وإكراما له كما استسخر النبات للحيوان تشريفا للحيوان عليه. وأيضا فلو ترك حتى يموت حتف أنفه مع كثرة تناسله أدى إلى امتلاء الأفنية والرحاب وغالب المواضع، فيتغير منه الهواء، ويكثر به الفناء، فيجوز ذبحه تحصيلا للمصلحة، وهي تقوية بدن الإنسان، ودفعا لهذه المفسدة العظيمة. وإذا ظهرت الحكمة انتفى القول بالظلم والعبث).

وشيخنا المعري يقول داعيا إلى الارتفاق به:

يأكل أطايب الأعفاء، من سمح بالرسل في أيام السفاء، ويلج الغمار باذل السمار، وتثنى الضيفان، على الجائد بملء الجفان. لا يثني عليك فصيل بالأصيل. ومن أخضرت شربته بالواو أكمات مربده بالتمر الجلاد. ومن ركب العامة في طلب الصيد كانت بطون عياله قبوراً للحيتان. ومن تتبع بقوسه موارد الوحش كثر في منزله الوشيق.

وقال (الوليد): النبع ليس بمثمر ... وأخطأ، سرب الوحش من ثمر النبع

جِلَّة ابلك وعشارها. أروت ضيفك غزارها، وملأت جفانك وذارها، لن تبكيك بكارها إذا السنة كثر قطارها، وذبح في الروضة فارها، واعتم بالروضة بهارها. سالم ابنك شرارها.

الأثرية ' إن تُرد أن تخص حراً من الناس ... بخير فخص نفسك قبله

إذا لم يكن لي بالشقيقة منزل ... فلا ظهرت عزَّاؤها والشقائق

إذا كان إكرامي صديقي واجباً ... فإكرام نفسي - لا محالة - أوجب

ومن أطال خلاجا في مودته ... فهجره لك خير من تلافيه

إذا ولى صديقك فول عنه، فإنما ينزل بالوادي ذي الشجر والروض العميم، ويقدح بزند العفار ما دام وأرى النار، فإذا خبت ناره بطل اختياره. وإذا السقاء لم يمسك الماء فهو زيادة في مشقة المسافر، لا تأو لمفسد تأو، فإن الذيب جدير بالتعذيب.

آخ في الله الأخوان، ولا تقل لبعيرك: أخ في دار الهوان.

ادفع الشر إذا جاء بشر ... وتواضع إنما أنت بشر

بأي لسان ذامني متجاهل ... عليّ، وخفق الريح في ثناء

تكلم بالقول المضلل حاسد ... وكل كلام الحاسدين هراء

إذا ما قلت نثراً أو نظيما ... تتبع سارقو الألفاظ لفظي

كأني إذا طلت الزمان وأهله ... رجعت وعندي للأنام طوائل

وقد سار ذكري في البلاد فمن لهم ... بإخفاء شمس ضوءها متكامل

وإني وإن كنت الأخير زمانه ... لآت بما لم تستطعه الأوائل

وطال اعترافي بالزمان وصرفه ... فلست أبالي من تغول الغوائل

فلو بان عضْدي ما تأسف منكبي ... ولو مات زندي ما بكته الأنامل

وكم من طالب أمدي سيلقي ... دوين مكانَي السبع الشدادا

ويطعن في علاي وإن شسعي ... ليأنف أن يكون له نجادا

ويظهر لي مودته مقالا ... ويبغضني ضميراً واعتقاداً

لي الشرف الذي يطأ الثريا ... مع الفضل الذي بهر العبادا

وأحسب أن قلبي لو عصاني ... فعاود ما وجدت له افتقادا

تعاَطوا مكاني وقد فتهم ... فما أدركوا غير لمح البصر

وقد نبحوني وما هجتهم ... كما يلبح الكلب ضوء القمر