الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 608/القصص

مجلة الرسالة/العدد 608/القصص

مجلة الرسالة - العدد 608 القصص
المؤلف: غي دو موباسان
المترجم: إبراهيم عبد الرحمن خليل
المجنونة La Folle هي قصة قصيرة بقلم غي دو موباسان نشرت عام 1882. نشرت هذه الترجمة في العدد 608 من مجلة الرسالة الذي صدر بتاريخ 26 فبراير 1945



المجنونة

للكاتب الفرنسي جي دي موباسان

بقلم الأديب إبراهيم عبد الرحمن خليل

كان السيد ماتيو داندولان والسيد روبرت دي بونيير يتجاذبان الأحاديث عندما وجه داندولان نظر صديقه إلى طيور برية قائلا: تذكرني هذه الطيور يا صديقي بحادث مؤلم من حوادث الحرب. . . أنت تعرف أملاكي في ضاحية (كورمي) التي أقيم فيها منذ احتلها البروسيون، وكانت جارتي (جادي) قد اعتراها نوع من الجنون بسبب حوادث مفجعة تتابعت عليها فأثرت فيها تأثيراً عنيفاً، فقد فقدت المسكينة في شهر واحد أباها وزوجها وأبنها الصغير، وكان حديث الولادة، وهكذا عندما يزور الموت منزلا أول مرة، يعود إليه ثانية كأنه يعرف الطريق. . . صرعها الحزن فلزمت الشابة البائسة فراشها وهي تهذي ستة أسابيع كاملة وتوالت عليها أزمات حادة ظلت بعدها خامدة عديمة الحركة، لا تكاد تتناول شيئاً من الطعام إلا بالجهد الشديد، لا يتحرك فيها إلا عيناها، وفي كل مرة حاولوا تغير موضعها كانت تصرخن بشدة كأنما يراد قتلها، فتركت نائمة كما شاءت وتوفرت على خدمتها سيدة عجوز طيبة القلب كانت تقدم لهما الماء من وقت إلى آخر مع قطعة من اللحم البارد تلوكها بين أسنانها. . . ما الذي كان يدور بخلدها المشتت؟ أكانت تحلم بالذين ماتوا؟ لم يعرف ذلك أبداً، لأنها لم تتكلم أبداً، ولأن فكرها المضمحل، ظل عديم الحركة كالماء الراكد. ومرت خمسة عشر عاما وهي على تلك الحال؛ مغلقة النفس، خامدة الحركة. . . جاءت الحرب، وفي الأيام الأولى من ديسمبر، تغلغل البروسيون في كورمي.

وكان الجو باردا والثلج يتساقط، إني أذكر هذا اليوم كأنه الأمس القريب، وكنت ممدداً على كرسي مستطيل بجوار نافذتي مريضاً بداء المفاصل، أسمع وقع أقدامهم الثقيلة وخطواتهم الرتيبة، وأراهم من النافذة صفوفا لا نهاية لها يبدون في حركاتهم المنتظمة كأنهم دمى تتحرك بخيوط مشدودة، وقد أمر القائد بتوزيع الرجال على سكان القرية فكان نصيبي منهم سبعة عشر رجلا ونصيب جارتي البائسة اثنا عشر رجلا، بينهم القائد وهو رجل عسكري قديم، حاد الطبع، غليظ الخلق. قيل له أثناء إقامته بالمنزل إن ربة الدار سيدة مريضة لم تفارق فراشها منذ خمسة عشر عاما متأثرة بحزن شديد أصابها ولكنه لم يقتنع بهذا، من غير شك، فقد توهم أن الذي منعها من استقبالهم إنما هو كبرياؤها واشمئزازها أن ترى البروسيين أو تحادثهم، فطلب مقابلتها وأدخل إلى غرفتها، فما إن رآها حتى خاطبها بصوت جاف خشن وبلهجة ركيكة فيها كثير من التحريف. . . أرجوك يا سيدتي أن تنهضي من فراشك وأن تنزلي لكي يراك الجميع. . . ولكن المرأة المسكينة أدارت نحوه عيونا مبهمة فارغة ولم تجب فأعاد بلهجته الغريبة مرة ثانية. . إذا لم تنهضي بإرادتك فسنجد وسيلة لإرغامك على نزهة فريدة. . ولكن المسكينة لم تأت بأي إشارة، كانت دائماً عديمة الحركة كأنها لا تراه، فتملكه الغضب، وظن أن السكوت منها علامة احتقار بالغ له، فأضاف مهدداً - إذا لم تنزلي يا سيدتي غدا. . . ثم أدار وجهه وانصرف.

وفي اليوم التالي، أرادت خادمتها العجوز الطيبة أن تلبسها ملابسها قبل أن يحضر الضابط ولكن المجنونة صرخت بأعلى صوتها في هياج شديد، ولم تجد أي محاولة معها. وفي هذه اللحظة صعد الضابط مسرعاً ليرى تنفيذ أوامره، فخرت الخادم على أقدامه مستعطفة صارخة، إنها لا تريد يا سيدي، أنها لا تريد، اصفح عنها، أنها بائسة تعسة.

ظل الجندي القديم، مشبكا ذراعيه كاظما غيظه، وفجأة انطلقت منه ضحكة عالية، وأعطى بالألمانية أمراً إلى رجاله، ورأى الرجالة يحملون المريضة بفراشها كما يحملون جريحاً في الميدان، ورأى في المؤخرة رجل يحمل حزمة ملابس نسائية.

المجنونة ساكنة هادئة لا تقاوم، ولا تبالي بالعواقب، كأنها نائمة نومتها الهادئة في منزلها العتيق. فرك الضابط يديه سروراً قائلا: سنرى جيداً إذا كنت تستطيعين أن تلبسي وحدك، وأن تقومي بنزهة صغيرة. . الموكب يسير مبتعداً متجهاً إلى غابة ايموفي. . . وقد مضت ساعتان عاد الجند بعدهم منفردين. . . ولم تعد المجنونة ثانية. . . ماذا صنعوا بها؟ والى أي مكان حملوها؟ لم يعرف أحد ذلك مطلقاً. الثلج يتساقط ليلا ونهاراً، وبدا الوادي في نعومة المخمل، أما الغابة فقد كفنها الجليد بثوب من الزبد المثلج، والذئاب تعوي حتى أبواب المنازل، وذكرى هذه المرأة المفقودة لا يفارقني.

قمت بجولات متعددة قريباُ من مناطق البورسيين مؤملا الحصول على معلومات عنها ولكني لم أفز بطائل، فظننت أنهم ربما قتلوها رمياً بالرصاص.

عاد الربيع، وابتعد الجيش عن القرية ومنزل جارتي المسكينة ظل مغلقاً تنبت الحشائش في أبهائه، والخادم العجوز في أثناء الشتاء، ولم يعد أحد يشغل نفسه بهذه الحادثة، ولكني - أنا نفسي كنت أحلم بها بلا انقطاع.

ماذا صنعت هذه المرأة؟ أهربت مخترقة الغابة؟ أم عثر عليها بعض المارة فأدخلها مستشفى قبل أن يستطيعوا الحصول على معلومات عنها؟

لم أجد ما يخفف حدة الشك في نفسي، ولكن الزمن خفف هذا الألم شيئاً فشيئاً. وجاء الخريف، وتتابعت أسراب الطيور البرية، واسترحت من مرضى قليلا فاندفعت نحو الغابة للصيد، وأصبت خمساً أو ستاً من ذوات المنقار الطويل، وكنت أبحث عن واحدة وقعت في حفرة صغيرة وسط فروع الأشجار، واضطررت إلى النزول في الحفرة لالتقاطها، ولكني سقطت على رأس ميتة، وفي الحال ترددت في صدري ذكرى المرأة المجنونة كأنها لكمة قوية، لقد كنت متأكداً أني سأقابل هذه البائسة يوماً ما، وفجأة فهمت، وفرضت كل شيء، لقد حملها البروسيون إلى هذه الغابة الباردة وأهملوها، وتركت المسكينة نفسها الخاوية تموت تحت وطأة البرد، وزغب الثلج المساقط، لا تحرك يداً ولا رجلا، ثم جاءت الذئاب الجائعة فافترستها، والطيور بنت أعشاشها من صوف فراشها الممزق.

حفظت هذا الحطام الحزين، وأقمت له النذور ودعوت الله ألا يرى أولادي الحرب أبداً.

إبراهيم عبد الرحمن خليل