مجلة الرسالة/العدد 607/منخفض القطارة
→ في عيد المعري | مجلة الرسالة - العدد 607 منخفض القطارة [[مؤلف:|]] |
على هامش النقد ← |
بتاريخ: 19 - 02 - 1945 |
في صحراء مصر الغربية
للأستاذ ستابلتون ترول
كان قدماء المصرين يظنون أن منخفض القطارة هو الدار الآخرة. وكان قدماء الإغريق يعدونه الموطن الخرافي للغول الوحشي: ميدوس الذي كانوا يعتقدون أنه إذا نظر إلى شيء حوَّله حجرا. ولاشك أن السبب في نشأة هذا الزعم هو ما كان يروي من قصص العجيبة عن الغابات والنباتات المتحجرة التي تغطي مساحة المنخفض. ولقد عبر منخفض القطارة جيش بقيادة قمبيز بن قورش الأكبر، حينما زحف إلى مملكة سيوة لفتحها. ويحدثنا هيرودوت أن ذلك الجيش وقع فريسة لعاصفة رملية اجتحته فلم يسمع عنه خبر. ولقد اجتاز الاسكندر الأكبر كذلك ذلك الطريق في عودته من سيوة بعد أن نادى به قساوسة المعبد السيوي إلها. تلك هي طبيعة منخفض القطارة، حتى إنها ظلت مئات السنين تقذف الرعب الخفي في القلوب، فكان الرحالون والقوافل تتجنبها دائماً
ومع أن المنخفض قد كشف في أواخر القرن الثامن عشر وارتاده الرحالة الألماني رلفس سنة 1784، لم تتجه إليه الأنظار اتجاهاً قوياً إلا في فجر القرن التاسع عشر
على أن حديثنا هنا هو عن جماعة الكولونيل باكنولد الذين اجتازوا المنخفض بالسيارات في سنة 1927 وقد دون باكنولد ما جاء على غير ما كان يتوقع جمهور الناس، إذ قال إنه لم يصادف في رحلته حوادث مثيرة أو خطيرة، فلم يضلوا الطريق، ولم تتعطل سياراتهم، ولم تهاجمهم قبائل معادية. وقد قامت الفرقة برحلتها المنهكة من غير حوادث ولا مصادفات ولكنها عادت بوصف واضح لتكوين المنخفض. ويقول باكنولد إنه حتى في أثناء الحرب العظمى الماضية لم تحاول عبور المنخفض دوريات السيارات الخفيفة التي كانت تقوم بعملها في مصر لحراسة حدودها. ولقد بدأ رحلته من مينا، باب الصحراء الغربية، واختط طريقه جنوبي حافة المنخفض عابراً إلى قارة، ومنها قدماً إلى سيوة - فبلغ ما قطعه في رحلته 400 ميل، ولاشك في أن الرحلة لم تكن نزهة يتفكه بها، إذ أن المنخفض ليس أرضاً صلبة، لذلك كانت عجلات السيارات تغوص في التربة الرملية الملحية.
وكانوا في بعض الأحيان يقاتلون قطعانا من الغزلان ترعى الحشائش المتناثرة التي تنمو بقطرات الندى، والتي يحيط بها من كل ناحية سهول ممتدة من الرمل الأصفر، تتلاشى بالتدريج في خط الأفق.
ويتألف المنخفض من سلسة من الأحواض الضحلة تحتضنها حروف واطئة ملتوية من الحصباء السمراء المحترقة بأشعة الشمس. وتقطع الأكمات على مقربة من منخفض القطارة مجار تشبه الجداول الصغيرة، غير أن الماء لم يعرف سبيله قط إليها. ومن المشاهد العجيبة في المنطقة الجنوبية للمنخفض انتظام الأكمات الرملية التي تنفصل كل منها عن الأخرى بما يقرب من مائة ياردة (أي نحو تسعين مترا ً)، في صرة مجموعة متصلة من السلاسل الرملية. وتجد متناثراً هنا وهناك على الأكمات الرملية جذوع أشجار الغابات المتحجرة بما فيها من عقد وفروع، وبعض تلك الجذوع غائر بحيث لا يبدو منها فوق الأرض الناعمة التربة إلا أعلاها بشكل يشبه مخالب عملاق تمتد في الفضاء. وفي أثناء عبور الفرقة للمنخفض عثروا على مواطئ أقدام لابد أن يكون قد مضى عليها سنوات عدة، ولكنها مع ذلك لم تكد تؤثر فيها العوامل الجوية. وهناك يلف صمت الصحراء الرهيب كل شيء، كأنه ملاءة شاسعة؛ ذلك الصمت الذي يستحوذ على مشاعر الإنسان، فان لم يسيطر العزم الصادق على أعماله حينئذ، تغلب ذلك الصمت عليه فساقه في أي اتجاه طلباً للنجاة مما استولى عليه من السأم، محاولاً البحث عن سلوى يلجأ إليها في ذلك العمق الرهيب لسكون المفازة الشاسعة، وما يزال كذلك حتى يضل الطريق فلا يعرف أمشرق هو أم مغرب. عندئذ تلحقه الخيبة والهزيمة فيقع في سبات - فان النجدة كان الهلاك مصيره. تلك هي الأراضي التي اجتازها باكنولد ورفقاؤه.
وتدل الكتابات الجغرافية عن المنخفض على أن مصلحة المساحة المصرية قامت بتخطيطه على خرائط دائرية منذ سنة 1927، وبذلك أصبحت مساحته معروفة على سبيل الدقة وتكتنفه الأجرف الرملية من جانبيه الشمالي والغربي، على حين أنه في جانبيه الجنوبي والشرقي مفتوح منبسط بحيث أن قاعه في معظم هاتين الجهتين يأخذ في الارتفاع تدريجياً حتى يوازي المستوى العام للصحراء الحقيقية ويتلاشى فيه. وهذا التدرج في الارتفاع من قاع المنخفض إلى سطح الصحراء يجعل من الصعب تخطيط حد فاصل بين نهاية المنخفض وبداية الصحراء. على أننا إذا اعتبرنا المنخفض شاملاً لبقعة الأرض الفسيحة التي ينخفض سطحها عن سطح البحر، كان طوله من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي 298 كيلو متراً، مع عرض يبلغ أقصاه 145 كيلو متراً، فتكون مساحته 19. 500 كيلو متر مربع. ويدخل في حدوده واحة المغارة على جانبه الشرقي، واحة قارة - وهي واحة آهلة بالسان على الدوام - على جانبه الغربي. ويقع الجزء الضيق لمنخفض، أي الجزء الشرقي الذي به واحة المغارة، على بعد 205 كيلو مترات من القاهرة، على حين أنه على مسافة لا تزيد على 56 كيلو متراً من البحر المتوسط؛ أما طرفه الغربي، بالقرب من واحة قارة، فأنه يمتد إلى نقطة تبعد 80 كيلو متراً عن القرية الرئيسية لواحة سيوة، كما تبعد 130 كيلو متراً عن حدود مصر الغربية، ويبلغ متوسط عمق المنخفض 60 متراً تحت سطح البحر، وأعمق نقطة فيه - وهي على مسافة 30 كيلو متراً إلى الجنوب الشرقي من قارة - يصل غورها إلى 134 متراً تحت سطح البحر. ومما يسترعي النظر أن من الـ 19. 500 كيلو متر المربعة التي تؤلف مجموع مساحة المنخفض جزءاً لا يقل عن 13. 500 كيلو متر مربع سطحها تحت مستوى سطح البحر بأكثر من 50 متراُ مربع سطحها تحت مستوى البحر بأكثر من 50 مترا.
وتتغطى مساحة كبيرة من قاع المنخفض بتربة سبخ - وهي خليط من الملح والرمل - فيها على وجه العموم قليل من الماء، وفي بعض البقاع تنبسط السبخة فوق أرض صلبة لا يمكن اجتيازها إلا بمشقة؛ غير أنه في جزء كبير من قاع المنخفض تتحول السبخة إلى قشرة صلبة أو رخوة تغطي وحلاً متشبعاً بالأملاح - وهذا الجزء يستحيل اجتيازه. وتقع الأكمات الرملية التي أشرنا إليها من قبل أقصى الأجزاء الجنوبية للمنخفض، وهي نتيجة لهبوب الرياح.
ويدل البحث الدقيق في مساحة المنخفض والمنطقة المحيطة به على أنه لم يكن هناك ولاشك اتصال مباشر بين البحر والمنخفض في وقت من الأوقات، بل إن الماء الذي يوجد بالعيون القليلة التي ينز فيها الماء على مقربة من الجانب الشمالي إنما سببه تواصل نشع الماء من تحت الأرض إلى سطحها، ذلك الماء الذي ينبع من نوجد اندي في أقاصي الجنوب الغربي لمنطقة خط الاستواء بأفريقية، ويسري في جوف صحراء ليبيا، فيمد الآبار الارتوازية في الواحات الخارجة، والداخلة، وواحة الفرافرة والبحرية، وسيوة. ويبلغ متوسط المطر الذي يسقط على منخفض القطارة نحو 20 مليمترا في السنة. يتكون الجرف الشمالي للمنخفض من هضبة واحدة ممتدة بغير انقطاع، ويبلغ ارتفاعه نحو 250 مترا، أما سفح تلك الهضبة فيبدو كما لو أن نهراً عظيماً كان قد اتخذ مجراه على امتداد حافته ثم جف ماؤه فلم يخلف سوى حوضه المحتفر. وفي هذا الحوض - الذي يمتد، على أعماق مختلفة، حتى داخل حدود ليبيا - نجد العيون المائية القليلة في تلك المنطقة. أما العيون التي تستمد مياهها من الأمطار فلا وجود لها هنا.
ورحلة باكنولد ورفقائه كانت عبر الحدود الجنوبية لتلك المفازة السبخة، الصامتة، الرهيبة، الخالية من الماء؛ وكانت جعابهم لا تحمل أمتعتهم فحسب، بل حملوا معهم كذلك كل قطرة من ماء الشرب العزيز الذي كان مقدراً لهم معلوم لا يتجاوز في كل يوم. وبلغ الركب آخر الأمر واحة سيوة، حيث يبدأ بحر الرمال الذي لا ساحل له، وحيث تتلاشى على الخرائط المعالم الأرضية، وتحل محل الخطوط التي تحددها النقط التي ترمز للرمال تتلوها الرمال، وحيث يقرأ المرء على الخريطة تلك الإشارة الغامضة: (حدود الأكمات الرملية غير معروفة).
ولقد عبر باكنولد ذلك البحر الرملي الشاسع بعد عبوره منخفض القطارة بسنتين، وعاد كذلك بمعلومات قيمة.
ومن العجب أن بعض الرحلات الاستكشافية قد تبدو إبان القيام بها عديمة الأهمية، ثم تحل من التاريخ لمستقبل محلاً رفيعاً وتسيطر على بعض حوادثه سيطرة بليغة، وبخاصة حين يكون مصير الشعوب في ميزان القدر: فلقد وجد الجيش البريطاني الثامن في منخفض القطارة ميسرة منيعة له حينما تقهقر من ليبيا واتخذ له خطاً دفاعياً جديداً يمتد العلمين، على ساحل البحر المتوسط إلى خرف منخفض القطارة - وهي مسافة تبلغ نحو 75 ميلاً. ولقد وقف ذلك الحاجز المنيع عقبة كأداء في وجه روميل وفرقة المدرعة التي كلن يعتمد عليها كل الاعتماد. ثم أصبح ذلك الحاجز المركز الذي وثب منه الهجوم البريطاني حينما تجمع في ذلك الخط، ذي الخمسة والسبعين ميلاً، كل ما كان للجيش الثامن من عدد وعدة. ثم صب على (الجيش الأفريقي) الألماني بتلك الصورة المهلكة، حتى أنه في مدى 38 يوماً تفرق شذر مذر مرتداً إلى طرابلس، متقهقراً مسافة تزيد على 1700 ميل - وهو أعظم تقهقر عرفه التاريخ الحربي. وفي أثناء تقدم الجيش البريطاني تحت لواء النصر في أراضي ليبيا، ألقى كذلك ميسرة طبيعية أخرى، تلك كانت بحر الرمال الشاسع الذي يلقي بالصعوبات في سبيل وسائل النقل العديدة (الميكانيكية). وبذلك كان الجيش على الدوام خلواً من كابوس العدو إذا عن له أن يصدر الهجوم بهجوم على الجناح أو المؤخرة. مما كان يفسد جميع الخطط الدقيقة التي وضعها القائد مونتغمري. أفلا يصح أن نقول أم منخفض القطارة كان اليد المساعدة التي مدتها الطبيعة إلى مصر، لإنقاذها من العصابات النازية المغبرة؟
ترى، هل يظل منخفض القطارة ذا أهمية لمصرفي في مستقبلها، أم هل يبقى مفازة تتحدى جهود البشر؟ ألا أن هناك مشروعاً نافعاً تقدم به الدكتور جون بول في تقرير له. فقد اقترح في سنة 1927، وأعاد اقتراحه مرة ثانية في سنة 1933، بأن من الممكن استخدام منخفض القطارة لتوليد الكهرباء بالقوى المائية، وقد بحث الموضوع بمنتهى الدقة، وغرض بشيء من التفصيل لطرق تنفيذه. وإذا نفذ مثل هذا المشروع فان آلافا من العمال يستخدمون في بناء الأقنية من البحر المتوسط إلى حرف المنخفض، كما تستخدم المهارة والكفاية الفنية التي تدخرها مصر في رجال المصاحة والهندسة من أبنائها. ذلك إلى أنه إذا أمكن العثور على بقعة من الأرض مصمتة لا تتخللها المياه لتكون حوضاً للملاحات، كان من السهل إنشاء منجم لملح بمساعدة محطة التوليد الكهربائي، وبذلك يتيسر إنتاج سلعة بثمن زهيد، وهي الملح الذي لا يستغني عنه بيت في البلاد الشرقية.
وبناء على تقدير الدكتور بول يمكن الحصول من محطة الكهرباء على 200. 000 كيلو واط صافية، وان هذه القوة الكهربائية تزود المناطق الساحلية على الشواطئ المصرية برفاهية لاشك في تقديرها، كما أنها تحول مئات الأميال في مناطق البراري والصحاري إلى مدن ومجتمعات تنبض بالحياة؛ فان هذه القوة الكهربائية هي التي تجلب معها حيث تسير الصناعة والتجارة والعمل لآلاف الناس.
ومن البديهي أن الأمل في إنفاذ ذلك المشروع يتوقف على الحاجة المستقبلة إلى القوة الكهربائية؛ غير أن أهم جزء في نفقات أي مشروع لاستغلال ذلك المنخفض المهمل هو الأعمال الإنشائية اللازمة لحفر الأقنية لمرور المياه من البحر المتوسط إلى المنخفض.
على أن العمل لا ينقطع بمجرد إنشاء هذه الأقنية، فالحاجة إلى أعمال الصيانة لمخازن الكهرباء وما إليها تظل أبداً قائمة، كما تظل الحاجة إلى العمل في الملاحات.
وأمر آخر، وهو أن تحويل المنخفض إلى بحيرة يسبب زيادة صغيرة في سقوط الأمطار على السهل الشمالي، كما يخبرنا بذلك الخبراء في حسابهم الدقيق. ومن الواضح أن هذه النتيجة تكون من أعظم الأمور نفعاً للزراعة في المناطق الساحلية، كما أنها ترفع مستوى الماء في الواحات المختلفة.
إلا إن شبان الأمم جميعها يتطلعون إلى المستقبل: وسيكون أمام مصر، بعد أن تضع هذه الحرب أوزارها، فرص لا تعد للقيام بأعمال إصلاحية تؤدي بها خدمات لنفسها ولغيرها، وتحتل بذلك محلها بين شعوب العالم الرئيسية، متمتعة بثمار أعمالها؛ تلك هي الفرص التي تتيح لأهلها من العلماء، ومهندسي المساحة، والأطباء، ورجال الصناعة، ومهرة الفنيين، والطلاب، أن يتقدموا إلى الأمام - كل يؤدي نصيبه في جعل العلم والصناعة مرداً عذباً ينهل منه جمهور الشعب. ومنخفض القطارة في مصر، على حد قول الدكتور بول في مشروعه المقترح، لا يزيد على أن يكون أحد الأعمال الإنشائية اللازمة بعد الحرب، وهو عمل ينبغي أن ينال تفكيراً جدياً من جميع المهندسين المصريين سواء أكانوا من رجال الكهرباء أم من رجال التعدين، لكي تصبح ثمرة معارفهم ومهارتهم نفعاً عميا لأبناء جلدتهم.
ستابلتون نرول