الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 607/في عيد المعري

مجلة الرسالة/العدد 607/في عيد المعري

بتاريخ: 19 - 02 - 1945


للدكتور عبد الوهاب عزام

- 2 -

ويوم الاثنين ثامن شوال سنة 1363 من الهجرة، اجتمعت وفود البلاد العربية في جامعة دمشق، واحتشد الناس ليشهدوا افتتاح المهرجان، وجلس الوفود على منصة عالية في صدر المجلس ومعهم رئيس المجمع العلمي العربي وأعضاؤه - وهم الداعون إلى الاحتفال والقائمون عليه - وحانت ساعة الافتتاح فأقبل رئيس الجمهورية وجلس وسط الصف الأول من الوفود ومعه بعض الوزراء وكبراء الدولة.

أمة تمجد شاعراً من شعرائها، وفد احتفت لهذا واجتمعت له، وشهد الإجماع رئيس الدولة. ذلكم أمر أمم، وخطب يسير لو وقف الفكر عند هذا المظهر المرئي، وهذا الجمع الحاضر؛ ولكن وراء هذا المرأى معان ومعان؛ هذه الأمة العربية المجيدة قد عرف نفسها، وتبينت وحدتها، فبعث وفودها إلى دمشق لتجتمع على تمجيد شاعر من شعرائها. فالتقت فيها وجوه متعارفة لا تتناكر، وقلوب متعاونة لا تتنافر، وتحدثت عن الماضي والحاضر، وطمحت إلى الآتي بآمال مجتمعة، وعزائم مجمعة، وقد اجتمعت في الساعة نفسها وفودها في الإسكندرية لتشرع لوحدتها شرعة، وتخط لها منهاجاً، وتتحالف على الخطوب، وتعد للحوادث، وتلقى الزمان برأي جميع، وأمر جامع. ولم يوافق اجتماع دمشق اجتماع الإسكندرية إلا إيذانا بيقظة هذه الأمة، وطلبها المجد والكمال في كل نواحيها، وسلوكها كل سبيل إلى مقاصدها. وما رئيس الجمهورية هذا الجالس في حفل المعرّي إلا ربيب الثورات وغذِي المجن فما نال مكان الرياسة من الجمهورية السورية إلا بأن العرب الثائرين تولوا أمورهم، ونالوا مكانهم في بلادهم، وأن الثورة ظفرت، والآمال تحققت، وبدت بشائر الفجر الصادق للمستقبل الكريم. ولقد كان من مقاصدي يوم أزمعت شهود مهرجان المعري أن أرى شكوى القوتلى وصحبه يصرفون الأمور في حاضرة بني أمية، وأن أسعد نفسي برؤية ما تمنيت، وشهود ما أملت. لقد أديل من الضعف للقوة، ومن الذل للعزة، ومن الفرقة للاجتماع. ولم يبق إلا أن تعتزم الأمة المجيدة وتقسم لتبلغن غايتها، ولتنالن مُنيتها. وما أقسمت أمة وعزمت إلا أبرتها الحادثات، وأمضى يمينها الزمان.

قلت في نفسي، والسرور يملؤها: قد احتفلنا من قبل بذكرى أبي الطيب المتنبي فتجاوبت بلاد العرب بتمجيد الشاعر الكبير ما بين هضبة إيران وبحر الظلمات، وكتبت مقالات وألفت كتب تناولت سيرته وأديه. وتبين من يحتاج إلى بيان أن في هذه الأقطار الواسعة أمة واحدة، تنطلق بلسان واحد، وتروي عن تاريخ واحد، وتتأهب لتأليف تاريخ هو على ضخامته واختلاف فصوله، كتاب واحد.

ثم يدعى إلى الاحتفال بذكرى المعري والحرب دائرة، والخطوب محيطة، والأسباب بين البلاد متقطعة فتصيب الدعوة هوى من أمة نزاعة إلى إحياء مجدها وحفظ تاريخها القديم وتسطير تاريخ جديد أعظم وأروع. وكانت دمشق مكان الجمعين وما أجمل أن يحيا أدب العرب، ويذكر مجد العرب في مدينة العرب: دمشق الخالدة.

وقد اجتمعت الوفود على ذكر الشاعر الفيلسوف الحزين المتشائم، وهي فرحة مستبشرة، ترى تباشير الصباح في أعقاب الظلام، وتكاد ترى أشعة الشمس من وراء الأفق، ويعرف بعضهم في وجوه بعض بسمة الأمل ونضرة الرجاء، وقوة العزم وأهبة الجهاد الذي لا ينتهي دون الظفر.

احتفلنا بذكرى أبى العلاء يومين في دمشق تلقي المحاضرات في العشى، وللزيارات والمآدب سائر النهار وزلف من الليل.

ويوم الأربعاء عاشر شوال والساعة تسع ونصف من الصباح فصلت الوفود ومن معها من أدباء الشام وعلمائه تسير صوب الشمال. فتوالت السيارات على الطريق تخترق الغوطة الفيحاء الغناء وليست الغوطة إحدى جنات الدنيا، في حاجة إلى تعريف أو وصف، وامتد بنا السير فيها زهاء نصف ساعة. ومررنا بقرية حَرَسْنا من قراها فذكرنا الإمام محمد بن الحسن الشبباني الفقيه صاحب الإمام أبي حنيفة. ويقال إنه ولد بهذه القرية. وقال ياقوت في معجم البلدان في صفتها: (قرية كبيرة عامرة في وسط بساتين دمشق، على طريق حمص بينها وبين دمشق أكثر من فرسخ.) وغدا ياقوت جماعة من العلماء المنسوبين إليها. ثم قال: (وحَرْسنا المنظرة من قرى دمشق أيضاً بالغوطة في شرقها). وجُزنا الغوطة إلى أرض واسعة فيها كروم ومررنا بالثنايا. ويقال إن هناك ثَنيّة العُقاب التي ركز عليها خالد بن الوليد رضي الله عنه راية العقاب حينما اجتاز بادية الشام فجيء الروم من حيث أمنوا.

وبعد قليل رأينا طريق بغداد يتفرع من طريقنا. وحسب هذا الطريق يمنا وفخراً أنه يصل بين دمشق وبغداد. وقد سعدت بقطعه عشر مرات فلم توحشني قفاره. ولم يعنيني طوله؛ بل أنست فيه بذكريات عظام، وتحدثت فيه إلى أمان جسام.

وبعد قليل رأينا طريق تدمر يتشعب إلى يمين طريقنا، ثم دخلنا أرضاً جبلية يسير الطريق فيها على سفوح الآكام وحفاف الأودية، ثم انفرجت الجبال واتسع السهل والساعة إحدى عشرة وبلغنا البنك بعد ربع ساعة، وهي في سهل واسع خصب، تلوح في نواحيه قرة قليلة متباعدة وضياع وأشجار. والعمران والخصب ظاهران في البلدة وحولها. وكذلك كانت في القرن السابع. قال ياقوت: (قرية مليحة بذات الذخائر بين حمص ودمشق فيها عجيبة باردة في الصيف صافية طيبة عذبة يقولون مخرجها من يبرور). ويبرور هذه بين حمص وبعلبك وهي إلى الجنوب الغربي من البنك. والبنك مركز قضاء يسمى باسمها. ويستخرج في نواحيها عرق السوس. وقد نزلنا على مجزى هذه العين، في بستان صغير فيه ناعورة. فاسترحنا واستروحنا إلى البستان والماء والناعورة واختفى بنا موظفو البلدة ونائبها وأعيانها. واستأنفنا السير بعد قليل نؤم حمص فمررنا بدير عطية ورأينا على بعد إلى يسارنا قرية القارة. وهي قرية قديمة معروفة. قال صاحب معجم البلدان: (قرية كبيرة على قارعة الطريق. وهي المنزل الأول من حمص للقاصد إلى دمشق. وكانت آخر حدود حمص وما عداها من أعمال دمشق. وهي على رأس قارة وبها عيون جارية يزرعون عليها) والظاهر أن الأرض هناك كثيرة العيون وبهذه العيون تحيا الأرض هناك وتخصب وبنت الزرع والشجر وينشأ العمران. وكانت معنا الأستاذ أديب التقى فقال: العامة يقولون: بين القارة والبنك بنات الملوك تبكي؛ قلت: مم تبكي؟ قال والعهدة عليه: من شدة البرد.

أخذ السهل يتسع حتى اختفت الجبال التي كانت تلوح بعيدة على يمين الطريق وابتعدت الجبال التي على يساره، وأشير إلى سواد بعيد يبدو فيه الشجر والخضرة فقيل: انه منبع العاصي، وشرعنا نرى آثار الخصب والنضرة في سقي العاصي. والعاصي أكبر أنهار سوريا ينبع شمالي بعلبك ويجري صوب الشمال والغرب حتى حمص ويمر بمدينة حماة. ثم يتجه صوب الشمال والغرب حتى يفيض في البحر. وكم يفيض مجراه الخصب والبركة وينبت الزرع والجنات، وينضر البساتين والمنتزهات ويدير النواعير الكبيرة الرائعة.

(للكلام صلة)

عبد الوهاب عزام