مجلة الرسالة/العدد 604/العصبية المفرقة
→ المسلمون في بولندا | مجلة الرسالة - العدد 604 العصبية المفرقة [[مؤلف:|]] |
من كتاب الحياة ← |
بتاريخ: 29 - 01 - 1945 |
للأستاذ محمود الشرقاوي
أبرزت الانتخابات البرلمانية التي جرت في الأسبوع الماضي ظاهرة جزع لها رجال السياسة كما جزع لها المفكرون على السواء
هذه الظاهرة هي تحريك العنصرية الطائفية واستغلالها في الصراع الانتخابي بين المرشحين والناخبين.
ورجال السياسة والمفكرون من حقهم أن يجزعوا لبروز هذه الظاهرة التي من شأنها - لو أنها لم تتدارك - أن تضعف التماسك الشعبي بين أبناء الأمة وأن تعطل إلى حد كبير إلى أهدافها الوطنية ووصولها بعد ذلك إلى هذه الاهداف، وأن تقلل من تقدير الأمم ذوات السيادة للوطن المصري وللوطنية المصرية ولقيمة الشعب ومكانته من الحضارة والثقافة وما يستتبعه ذلك من اعتراف هذه الدول لمصر بحقها في الحياة الحرة وتمكينها مما تتطلبه من مركز حسن بين مجموعة الأمم المتحضرة ومكان ممتاز بين مجموعة الشعوب العربية بوجه خاص
ومن المقاييس الصادقة التي تقاس بها حضارة الأمم وثقافتها وحظ طبقاتها من التهذيب مقياس التسامح الديني والطائفي. فكلما كانت الأمة أعرق حضارة وأعمق ثقافة وأرقى تهذيبا، كانت أبعد بطبقاتها وأفرادها عن التعصب الديني والعنصري، ومما يتصل بأي نوع من أنواع التعصب للإقليم أو المهنة أو التعليم أو الثقافة. وكلما كانت الأمة أقرب إلى البدائية في حضارتها وثقافتها وتهذيب شعبها احتد بين طبقاتها وأفرادها التعصب وتعددت ألوانه ومظاهره.
وكذلك الأفراد يمكن أن تقاس تهذيبهم رفعةً وخفضاً ورقة وغلظة، وأن تقاس ثقافتهم تعمقاً وسطحية وجوهراً ومظهراً، بمقياس بعدهم أو قربهم من التعصب لدينهم أو ذاتهم أو إقليمهم أو معهدهم التعليمي أو نوع ثقافتهم.
وهذه كلها بدائه أعتقد أن جمهوراً ممتاز الثقافة والفهم مثل قراء (الرسالة) لابد أن يعرفها ويسلم بها
وكما أبرزت الانتخابات البرلمانية الأخيرة هذه الظاهرة المؤسفة من مظاهر الت الطائفي عند فريق من الناس فتداركها رجال السياسة والعقلاء من المفكرين، أبرزت حوادث أخرى مثل إنصاف الطبقات والمتخرجين في الجامعات والمدارس ظاهرة أخرى لنوع آخر من التعصب للمهنة أو الوظيفة أو المعهد أو الثقافة، وكلها ألوان من التعصب هي كما قلنا تمس إلى حد كبير وحدة الأمة وتماسكها، ويستطيع بعض الناس أن يجعل منها مقياسا لحضارتها وثقافة مجموعها وفهمه لمقومات الأمم وتهذيب الأفراد.
وقد كان هذا المظهر الأخير من مظاهر التعصب أكثر وضوحا للمشتغلين بالصحافة والذين لهم وعي وحسن أدراك للتيارات الذهنية والتموجات النفسية والفكرية للمجتمع المصري.
كما كان أبز وأوضح لمن تولوا شؤون هذا الأنصاف للطبقات والخريجين والحاصلين على مختلف الإجازات العلمية والشهادات المدرسية وكم سمعنا وقرأنا لهؤلاء الذين تولوا هذه الشؤون فأدركنا أن أمر جد، أنه مما يستحق أن يشتغل به المفكرون والذين لهم غيرة على وحدة الأمة الثقافية أو تماسكها الثقافي على الأقل.
وقد كان مما يهون - إلى حد ما - من شأن التعصب العنصري والطائفي أن فشوه قاصر على السواد وأبناء الشعب وأن الساسة والمفكرين يقضون على سمومه عند أول نهزة.
ولكن هذا اللون الجديد من التعصب الثقافي ليس فاشياً بين السواد ولا بين أبناء الشعب، ولكنه قائم محتدم بين الخاصة والمثقفين منه، وان أحدا لم يدرك خطره ولا شره فيعمل على خلاص هؤلاء المثقفين والخاصة منه، ويعمل على أن يعود بهذه الشيع من المتخاصمين المتنابذين إلى ما يجب أن يكونوا عليه جميعاً من رفعة التهذيب، ومن تعمق وسعة الصدر والإدراك
وقد يكون للسواد والجهلة شيء من العذر في أن يتعصبوا وأن يفترقوا وأن يخاصم بعضهم بعضا فيما لا يجب أن يكون بينهم فيه خصام، أو فيما يجب ألا يكون بينه خصام، وأن يميز بعضهم بعضا أو يفاضل بعضهم بينه وبين بعض آخر فيما يجب ألا يكون بينهم فيه تفاضل ولا تمايز. ولكنه عذر للمثقفين - إذا أرادوا أن يكون لهم من هذا الوصف نصيب - في أن يتنابذوا ولا يتعصب كل منهم وينحاز إلى جانب يراه أرفع شأنا وأميز ثقافة وأقوم في حياة الأمة وفي نفعها، ليس لأنه كذلك في واقع الامر، ولكن لأنه هو من هذا الطريق.
محمود الشرقاوي