الرئيسيةبحث

مجلة الرسالة/العدد 601/ثورة الإسلام

مجلة الرسالة/العدد 601/ثورة الإسلام

بتاريخ: 08 - 01 - 1945


للأستاذ حسن جواد الجشي

كان الإسلام ثورة هائلة من ثورات الطبيعة الكبرى على جمود العقل البشري وتحجره، فأطلقه بعد أن كان موثقا في قيود الأوهام والخرافات، وأشعره بقيمته بعد أن كان فانيا في تفاهات الحياة وصغارها، وقلب أوضاع تلك الحياة رأساً على عقب وأبدلها بأوضاع أجدر بشرف الإنسان وكرامته. وتلك هي ظيفة الثورة الإصلاحية في كل زمان.

وإذا كانت الثورة كما يعرفها أحد كتاب الغرب (هي سقوط وتهدم يحدثان في قترة صغيرة لجميع ما كان يعد إلى ذلك الوقت أصلا للحياة الاجتماعية والاقتصادية والدينية والسياسية في الأمة) فما أحرانا ونحن بصدد التحدث عن مبادئ الثورة الإسلامية أو عن ثورة الإسلام أن نلقي نظرة خاطفة على بعض النظم التي جاء الإسلام لمحاربتها والقضاء عليها لا بين العرب فحسب، وإنما في غيرهم من سائر الأمم أيضا، وإنما شمل أمما غيرهم ولو في الشكل دون الجوهر.

يقول الكاتب إنجليزي هـ ج. ولز في كتابه (موجز تاريخ العالم) عند تحدثه عن تلك الحقبة من تاريخ البشر ما ترجمته: (لو أن متنبئاً من هواة التاريخ استعرض العالم في ستهل القرن السابع لكان من المحتمل أن ينتهي إلى الحكم بأنه لن تمضي إلا بعد قرون حتى تصبح قارتا أوربا وآسيا خاضعتين للحكم المغولي القائم في الصين، إذ لم يكن هنالك ما يدل على وجود أي نظام أو اتحاد في أوربا الغربية؛ أما الإمبراطوريتان الرومانية والفارسية فقد كانت كل منهما منطوية على هدم الأخرى وتحطيمها؛ وإذا التفت إلى الهند فإنه يجدها منقسمة على نفسها خاوية. . .) ثم يقول: (والخطأ الذي كان من المحتمل جدا أن يرتكبه متنبؤنا هذا في استعراضه هو تجاهله للقوي الأصيلة الكائنة في الصحراء العربية).

وفي هذا القول دلالة واضحة على أن العالم كان حين ذاك بتخطيط في غياهب الفوضى ودياجير الانحلال، وانه إذا كان ثمة بصيص أمل لإنقاذه فآفاق الصحراء العربية هي التي كان يتخايل على حواشيها هذا البصيص، لا لان سكانها كانوا في يقظة عقلية تؤهلهم للقيام بدور المنقذ، كلا بل لان أرواحهم كانت نقية لم تدنسها شوائب المدينة أو يدب إليها وهن النعيم. فما هو إلا أن تستثيرها وتوجهها الجهة الصالحة حتى تأتي بالعجائب في ميادين الثقافة والتقدم.

وعلى خلاف ذلك كانت بيزنطة وفارس، فقد كانتا في حروب متواصلة تنتصر هذه مرة وتفوز تلك أخرى؛ وبرغم ذلك لم تكن الحالة السياسية الداخلية في كلتا الإمبراطوريتين لتعرف الهدوء والاستقرار. أما الأخلاق فقد بلغت منتهى التدهور والانحطاط حتى عادت النفوس ولا مهما زلها يدفعها ويثير فعاليتها غير الشهوة الجنسية، وإلا فما معنى ذيوع مذهب مزدك في ذلك العصر - وهو مذهب إباحي هدام - لو لم تكن النفوس مستعدة لقبوله؟!

والى جانب ذلك كان يقوم في اكثر أنحاء العالم تقريبا نظام من الاسترقاق الفظيع الذي لا يعرف غير العنف والقوة في معاملة الأرقاء والمستعبدين، فكان مباحا للسادة أن يتصرفوا في حيوات أرقائهم كما يتصرفون في سائر أمتعتهم، فإن شاءوا ابقوا وان شاءوا أبادوا ودن أن يسألوا أمام قانون أو عرف. وإذا عاقبوهم فبالك على الجباة والجلد بالسياط إلى آخر ما هنالك من ضروب القسوة.

وقد يخطر لأحد القراء أن يسأل: وأين إذن تعاليم المسيحية لتعتكف من غرب هذه الشهوات ونجد من جموحها النفوس إلى نقاوة الفطرة وطهارة الإيمان. . والجواب على ذلك أتركه للمؤرخ الإنجليزي (جيبون) إذ هو خير من توفر على دراسة هذا العصر: قال جيبون (إن النصرانية في القرن السابع للميلاد قد استحالت وثنية، فقد أصبحت الوجوه تولى شطر الأصنام والأنصاب التي حلت محل الهياكل والمعابد واخذ مكان عرش الله وعظمته القديسون والشهداء، وحارت الإفهام في معنى التثليث والاتحاد والحلول وعموا عن التوحيد).

أما في مكة والطائف فلم يكن الوضع أحسن منه في بيزنطة وفارس؛ فقد فشا فيهما الانحلال الخلقي وسلفت مكانة المرأة حتى وأد الآباء بناتهم، وجاس المرابون خلال الشعب يمتصون دمه مستغلين فقره وحاجته، حتى أكره بعض المحتاجين بناتهم على البغاء ليستطيعوا وفاء ما ركبهم من ديون؛ فلما جاء القرآن نهاهم عن ذلك (ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصناً لتبتغوا عرض الحياة الدنيا).

شرور تتلوها شرور! وظلمات فوقها ظلمات! فلابد من النور! لابد من النور! وإلا تاه القطيع وتردى في هاوية الفناء!

وشع النور! وتلالا واستفاض! وإذا بصوت محمد يتعالى في شعاب مكة وبطاحها منادياً: (قولوا لا اله إلا الله تفلحوا وتنجحوا).

وكان تلك الدعوة شرارة الثورة الكبرى، الثورة قلبت الأوضاع الجائرة، ومحت النظم البائرة، ونقلت العالم من حال إلى حال، والإنسانية من ضعة إلى جلال.

لقد استهل الإسلام ثورته بالدعوة لتوحيد الله وقرن النجاح بهذا التوحيد، فما معنى ذلك؟ معنى أن الإسلام يعتبر وهي الروح أصلاً لوعي العقل؛ معناه أن الأمم مهما وفر حظها من ثقافة العقل، فان هذه الثقافة لابد لها من عقيدة روحية تسندها وتنير لها المسالك وتأخذ بيدها نحو صالحها وصالح الحياة الإنسانية، وإلا هدمت ما شيدت واقتلعت ما زرعت وتلبست طبائع الهر فأكلت ما أنجبت؛ ولهذا وجه محمد أول ما وجه جهود نحو غرس هذه العقيدة الروحية، فعمل على تطهير الأرواح مما علق منها من أدران الشرك واستبطنها من عقابيل الوثنية، ونادى أول ما نادى أن اله إلا الله، فلا الشهوات بعد اليوم ولا القوة ولا المال ولا الأصنام هي التي تعنو لها الحياة، وإنما تعنو لله الأحد الصمد خالق الخلق ومدبر كل ما في الكون. وبهذا مهد السبيل الإنسانية لتفلت من قيودها الثقيلة المرهقة وتتصل حرة ببارئها تستلم منه العون والهداية على مواصلة الكفاح وسلوك أقوم السبل دون لجوء لوساطة كاهن أو شفاعة ولي (وإذا سألك عبادي عني فأني قريب، أجيب دعوة الداع إذا دعانِ، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون).

هذا التسامي بالنفس الإنسانية والتعالي بها عن ضلالات العقول وزيغ البصائر هو الذي يفتقده الباحث في كثير من تاريخ الثورات البشرية، فالفرنسيون مثلا بعد أن ثاروا ثورتهم الكبرى وحطموا معاقل الظلم وزلزلوا معالم الاستبداد وأعلنوا حقوق الإنسان الطبيعية التي تستند إلى مركزه في الحياة، ساق الثائرون أنفسهم اكثر من ألفين من خيرة رجال الثورة إلى المشانق ثم عمدوا إلى اجمل فتاة في باريس ووضعوها في إحدى الكنائس واخذوا يقدمون لها فروض العبادة، ومراسيم الخشوع باسم (ربة العقل)، ناسين ما أعلنوه قبل ذلك من حرية البشر وتساويهم؛ وما كانوا في مثل هذا الهوس والتطرف، لو أن ثورتهم استندت إلى وعي روحي شامل كثورة الإسلام.

والحقيقة أن هذا الوعي الروحي الذي يقدر الشخصية الإنسانية ويحدد صلة هذه الشخصية بالروح السارية في هذا الكون ثم صلتها بسائر الأحياء والكائنات، نعم هذا الوعي هو الذي صقل النفوس المسلمة وهيأها لسائر الانقلابات الاجتماعية والعقلية لأنه وجهها وجهة واحدة وقضى على شعور الخضوع الرائن عليها فتنتج عن ذلك إحساس قوي بكفايتها وقدرتها على الفهم والتدبر.

ومن هنا ذلك الانقلاب العظيم الذي أحدثه الإسلام في تقدير العقل واحترام أحكامه باعتباره هادئ البشر - بعد الروح - في جهادهم نحو الكمال. فلقد كان الناس قبل ذلك أسرى موروثاتهم وتقاليدهم لا يصدقون إلا ما كان عليه آباؤهم، وما كان عليه آباؤهم هو الجهل والجمود، فدعاهم الإسلام إلى التفكير والتأمل وشبه الذين لا يعقلون منهم بالأنعام بل أحط منزلة (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون أن هم كالأنعام بل أضل سبيلاً)، ولذلك كان سلاح الإسلام الوحيد لغزو النفوس هو الحجة العقلية والبرهان الاقناعي. . . ويوم سال الكفار الرسول أن يأتيهم بما عددوا من المعجزات أجابهم دهشاً: (سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً!).

أليس في ذلك إيذان بأن البشرية قد بلغت طوراً لا يليق بها فيه أن تقنع بغير ما يميله العقل، وان الإسلام يتمشى مع هذا العقل؟ ثم ما قولنا في دين يجعل تفكر ساعة خيراً من عبادة ستين سنة؟ إنه - وربي - لدين يجدر بالبشرية أن تحوطه برعايتها وتجد في تفهم أغراضه ومراميه، لأنه كان فاصلا بين عصرين مختلفين من عصورها: عصر السحر والخرافات وعصر العقل والعلم، وبذلك نقلها نقلة وسعت آفاق وعيها وألهبتها شوقاً للمعرفة والاطلاع، كان ذلك إرهاصا لكل التطورات الثقافية والعلمية التي نعم بها العالم بعد ذلك.

وعلى أساس هذا الوعي الروحي والعقلي نقل الإسلام مبدأ التوحيد من منطقة العقيدة إلى مجال الاجتماع فثار على جميع الفواصل المصطنعة بين الأفراد والأمم، وحارب كل فكرة من شانها أن تجر إلى التنابذ التنافر، وقرر أن البشر وحدة لا تتجزأ كلهم من آدم وآدم من تراب، وان أكرمهم عند الله اتقاهم، واتقاهم إبرهم عملاً وأخلصهم سعياً، لا أكثرهم تهجدا وأطولهم عبادة، وإذا كان الناس قد خلقواً شعوباً وقبائل مختلفة فلكي يتعارفوا ويتعاونوا لتستفيد كل أمة من مواهب الأمم الأخرى وخصائصها لا أن يتخذوا هذا الاختلاف ذريعة للتناحر والتباغض (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا أن أكرمكم عند الله اتقاكم). والأمم والأفراد يختلفون طبعا في استعدادهم للتقوى وللتعاون مع الغير باختلاف بيئتهم وظروف حياتهم.

وتطبيقاً لهذا المبدأ من المساواة والتوحيد الاجتماعي اخذ الإسلام بيد المرأة ورفعها من مراغة المهانة والاستعباد إلى ذروة الشرف والكرامة مقررا حقها الطبيعي في الحياة: (ولهن مثل الذي عليهن). وإذا التفتنا بعد هذا إلى الثورة التي أحدثها الإسلام في حياة البشر الاقتصادية وجدنا عجباً من العجب، وجدنا نظاما اقتصاديا لو اخذ به البشر وتمسكوا بأهدابه لكفوا كثيرا من ويلاتهم الاجتماعية والخلقية لأنه يكفيهم الفقر، والفقر منبع اكثر الشرور والمصائب.

لقد كان النظام الطبقي بالغاً اشده قبل الإسلام فكان الأغنياء والأشراف يستغلون شرور الشعب ويبتزون ثمرات اتعابه

- كما يفعلون اليوم - ويثقلون كاهله بمختلف الأتاوات والضرائب دون أن يستطيع دفع ذلك أو مناهضته. والى جانب هؤلاء كان المرابون الجشعون يعتصرون ما تبقى من هذه الجهود غير راحمين ولا مشفقين. فلما جاء الإسلام قلب هذه الأوضاع وأعاد الحق إلى نصابه فحرم الربا وجعل في أموال هؤلاء الأغنياء حقا معلوما للمحرومين ملزمين شرعاً وقسراً بأدائه لهم، بعد أن كان هؤلاء المحرومون ملزمين بتقديم ثمرات أتعابهم للأغنياء دون مقابل. . وبهذا التشريع أقام الإسلام العامة الثالثة التي هي التوازن الاقتصادي؛ وهو كالتوحيد الاجتماعي عامل ضروري في هناء البشر وتقدمهم كما انه نتيجة حتمية لمبدأ التوحيد.

هذه أقباس من تلك الشعلة العظيمة التي تفتح عنها قلب الغيب فتقلتها القلوب العربية المسلمة، وسهرت على تغذيتها وتلهب ضرامها، حتى إذا تم لها ذلك الداحت بها في أطراف الدنيا تزرع جذواتها في كل نفس تتصل بها فتذيب أرجاسها، وتنفث فيها الإيمان والقوة. . فيا ليت شعري ما الذي حل بالمسلمين اليوم - وهم أحفاد أولئك المغاوير - حتى خمدت هذه الشعلة في نفوسهم وعادوا غرضا لكل طامع وهدفا لكل مريد!؟ إن في الأمر لسرا، على أن السراجلي من أن نجد في الكشف عنه. . السر أن المسلمين (وقد طال عليهم العهد وتنكروا لبيئتهم الصحراوية الأولى). نسوا مبادئ دينهم وتمسكوا بالأعراض والقشور، وانقسموا بينهم شيعاً وأحزاباً يتنابذون ويتهاترون.

فيا قلب الغيب شعلة كتلك الشعلة! عساها تحرك هذه النفوس الهوامد عساها!

(القاهرة)

حسن جواد الجشي

عضو الهيئة البحرانية