مجلة الرسالة/العدد 597/حول وحدة الوجود فيما كتبه الأستاذ دريني خشبة
→ بعد الاعتكاف | مجلة الرسالة - العدد 597 حول وحدة الوجود فيما كتبه الأستاذ دريني خشبة [[مؤلف:|]] |
على هامش النقد: ← |
بتاريخ: 11 - 12 - 1944 |
للأستاذ معروف الرصافي
كتب الأستاذ دريني خشبة في العدد (591) من الرسالة مقالاً كرر فيه شتائمه السابقة لأهل وحدة الوجود عامة، وللرصافي خاصة، ونحن هنا لا نريد أن نقابل تلك الشتائم بمثلها، وإن كنا أقدر عليها من غيرنا، لأننا نكره النزال في حومة لا يخرج منها الغالب إلا وهو ألأم من المغلوب
يقول الأستاذ خشبة: (كيف تكون الكائنات مظاهر لهذا الإله العجيب الذي يقول أنصار وحدة الوجود إنه لا وجود إلا له. . . أما هذه المخلوقات فهي باطل - هي وهم. . . ولست أدري كيف يكون الرصافي وهماً وباطلاً. .) إلى آخر ما هنالك من أقاويل أرجف فيها
إن الأستاذ خشبة يتهم خصمه بنقيض اعتقاده، ويحمل كلامه على ضد مراده، ثم يؤاخذه على ذلك مؤاخذة إرذال وتشنيع، وهذا لعمر الله لم يعهد في تاريخ البحث والمناظرة لأحد قبل الأستاذ
أنا لا أشك في أن الأستاذ، لو قرأ في الصفحة 21 من رسائل التعليقات، ما نقلناه عن محيي الدين بن عربي كلامه حول ما جاء في الحديث النبوي (أصدق كلمة قالتها العرب، قول لبيد (ألا كل شيء ما خلا الله باطل) وما أوضحناه نحن وذكرناه هناك، لأحمر خجلاً من قوله إن هذه المخلوقات باطل، وإنها وهم
إن أهل وحدة الوجود، يعطون الكائنات وجوداً لا يدركه الفناء. لأنهم يرون وجودها ووجود الله واحداً. وهذا هو كل ما يريدون من قولهم بوحدة الوجود، فالوجود في رأيهم واحد لا اثنان، وهو الله ذو الوجود الكلي المطلق اللانهائي، وما هذه الكائنات عندهم، سوى مظاهر للوجود الكلي، وصور قائمة به، كالأمواج في البحر، فإن الموجود في البحر، واحد وهو الماء، وما الأمواج إلا مظهر من مظاهر الماء، وصور قائمة به، وليس للأمواج وجود غير وجود الماء، ولا ريب أن وجود الأمواج حق، لا وهم من الأوهام
والظاهر أن الذي حمل الأستاذ خشبة على جعله المخلوقات وهماً، هو قولهم: إنه لا وجود إلا لله، ولو افتكر الأستاذ جيداً، لأدرك إنه لا يلزم من ذلك أن تكون المخلوقات وهماً، ولنضرب له مثلاً أوضح من أمواج البحر: هرماً مبنياً من الثلج، الهرم وجود غير وجود الماء؟ كلا! وهو مع ذلك حق، لا وهم من الأوهام، بل كل ما هنالك أنه غير قائم بذاته، بل بالماء، فهو من هذه الناحية، يقال له باطل على طريق التشبيه أي كالباطل، وبذلك فسر محيي الدين ابن عربي قول لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل، إذ قال: (اعلم أن الموجودات كلها، وإن وصفت بالباطل فهي حق من حيث الوجود، ولكن سلطان المقام إذا غلب على صاحبه يرى ما سوى الله باطلاً، من حيث إنه ليس له وجود من ذاته، فحكمه حكم العدم، وهذا معنى قوله ما سوى الله باطل، أي كالباطل، لأن العالم قائم بالله لا بنفسه)
ثم قال: (والعارف إذا وصل إلى مقامات القرب في بداية عرفانه، ربما تلاشت هذه الكائنات، وحجب عن شهودها بشهود الحق، لا أنها زالت من الوجود بالكلية، ثم إذا كمل عرفانه، فإنه يشهد الحق والخلق معاً في آن واحد)
هذا ما قاله محيي الدين، وأين هو مما يقوله الأستاذ خشبة من أن هذه المخلوقات باطل، وإنها وهم. ولا ريب أن شهود الحق والخلق معاً في آن واحد كما قال محيي الدين، هو كشهود الماء والهرم والثلجي معاً في آن واحد، وهذه المرتبة عند الصوفية، تسمى مرتبة الجمع، كما هو مسطور في كتب التصوف، فكما أن وجود الهرم الثلجي حق، لا وهم، وإن لم يكن له وجود غير وجود الماء، كذلك وجود المخلوقات حق، لا وهم، وإن لم يكن لها وجود غير الوجود الكلي أو غير وجود الله، وكما أن هذا الهرم، مظهر من مظاهر الماء، وصورة قائمة بالماء، كذلك المخلوقات كلها مظاهر للوجود الكلي، وصورة قائمة به، فهي كهذا الهرم ليس لها وجود غير الوجود الكلي
أليس من المعيب عند الأستاذ خشبة، أن يتهم الوصفية بضد ما يقولون، ثم يشنع عليهم قولهم كل هذا التشنيع. وكيف جاز للأستاذ أن يتغاضى عن فصل كتبناه تحت عنوان (الحق والباطل، في رأي أهل التصوف) وقد صرحنا فيه بأن كل ما وقع فهو حق عند أهل وحدة الوجود وأنه لا باطل عندهم إلا المحال
2 - ومن شتائم الأستاذ خشبة للرصافي قوله: (إن الرصافي يرى أن القرآن من تأليف محمد؛ بدليل ما دأب على ذكره من قوله: قال محمد في القرآن)
فنقول: إن هذا القول قد قاله بعض المشايخ من ذوي العمائم عندنا في بغداد قبل الأستاذ خشبة، وهو يدل على أنهم يجهلون اختلاف علماء الإسلام في القرآن، هل هو المعنى، أو المعنى واللفظ معاً، وأنه ذهب فريق منهم إلى أن القرآن هو المعنى القائم بذات الله، دون الألفاظ، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: (نزل به الروح الأمين على قلبك) ولم يقل على سمعك، حتى أن الإمام أبا حنيفة أجاز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة، ثم إن هؤلاء اختلفوا في ألفاظ القرآن لمن هي، فمنهم من قال بأنها لرسول الله، ومنهم من قال بأنها لجبريل، ومنهم من قال غير ذلك كما هو مسطور في كتب العقائد الإسلامية
وأما الفريق الثاني فذهبوا إلى أن القرآن هو المعنى واللفظ معا، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) والنطق يشمل المعنى واللفظ معاً، وأجاب الفريق الأول بأن (هو) في قوله: (إن هو إلا وحي يوحى)، عائد إلى القرآن، لا إلى المصدر المفهوم من (ينطق)، وإذا كان الأستاذ خشبة لم يطلع على هذا، فليقرأ ما كتبه الإمام السيوطي في الإتقان على الأقل
وعلى كلا القولين لكلا الفريقين، لا يلزم من قول الرصافي (قال محمد في القرآن) كونه من تأليف محمد، أما على القول الأول فلأن التأليف يشمل المعنى واللفظ معاً، ولا يكون اللفظ فقط، والقرآن هو المعنى الموحى من الله على قول هؤلاء، فيكون معنى قولنا (قال محمد في القرآن) عبر محمد عن المعنى الموحى إليه من الله. وأما على القول الثاني، فظاهر، لأن قول محمد هو قول الله، بدليل (وما ينطق عن الهوى إن هو وحي يوحى)
3 - ومن شتائم الأستاذ خشبة للرصافي قوله: بأن الرصافي لا يرى معنى للبعث الذي يؤمن به المسلمون وجاء به القرآن الكريم
فنقول سبحانك هذا بهتان عظيم، إن الرصافي إنما قال عند الكلام عن البعث: (أما مسألة بعث الموتى بأرواحهم وأجسادهم، فلم أقف على كلام للصوفية في تخريجه على مذهبهم وتوجيهه) قال: (والذي أراه إنه معتقد صرف لا يقوم إلا بالإيمان، وأن ليس للعقل فيه مجال، ولا يخفى أن الإيمان بالغيب، يتسع لأكبر منه وأبعد) قال: (ومن العبث إقامة الأدلة العقلية على أمور لا تقوم إلا بالإيمان في جميع الأديان، وليس الدين إلا إيماناً بالغيب، كما جاء في القرآن (يؤمنون بالغيب فالإيمان بالغيب هو أساس الأديان كلها)
وإنما قلنا إنه ليس للعقل فيه مجال، لأن العقل البشري، عاجز عن أن يدرك قيام الموتى من قبورهم شعثاً غبراً، ينفضون التراب عن رؤوسهم، إلى ربهم ينسلون
أما أنا فأعترف للناس أجمعين بأن عقلي عاجز عن إدراك حقيقة البعث على هذا الوجه، وإن آمنت به، فإن كان عقل الأستاذ خشبة، يستطيع أن يقيم لنا الأدلة العقلية والعلمية على ذلك، فليتفضل، فنحن له من الشاكرين، وبهديه من المهتدين
ولكن كيف يستطيع ذلك، وهو ينادي بأعلى صوته أنه مؤمن بالله وبرسوله إيماناً ساذجاً كأيمان العجائز، ولو كان في استطاعته إقامة الأدلة العقلية على البعث، لما كان إيمانه كإيمان العجائز، ذلك الإيمان التقليدي الذي يزلزله أدنى شك، ويزعزعه أقل ريب
وإلى القراء بعض فقرات مما كتبه الرصافي عند كلامه على البعث، قال:
(وإن كان البعث مما لا تدركه العقول، فإن الإيمان به معقول ومقبول، ذلك لأن الغاية المقصودة منه، هي اعتقاد المؤمن بيوم الدين، الذي هو يوم الحساب والجزاء، ذلك اليوم الذي يجازى فيه المحسن، ويعاقب المسيء، ولا ريب أن الإنسان إذا كان مؤمنا بيوم الدين إيماناً صادقاً، اجتنب الشرور، وكف عن العدوان، وبذل الجهد في الأعمال الصالحة، وهذا هو كل ما تريده جميع الأديان في كتبها السماوية، وجميع الحكومات في قوانينها الأرضية). قال: (وعليه، فلا حرية في أن الأيمان بالبعث، يكون من أهم الوسائل المؤدية إلى السعادة في الحياة الدنيا، لأن المؤمن به، وبيوم الجزاء، يستحيل عليه عقلاً وعادة، أن يرتكب الشرور، وأن يعمل غير الصالحات، ومتى كان كذلك، كان صالحاً للحياة الاجتماعية بكل ما اشتملت عليه من حقوق وواجبات)
ثم قال: (وتالله إني لا أرى في الوسائل العلمية والأدبية، وسيلة تؤدي إلى إصلاح الإنسان في حياته الاجتماعية، أنفع، ولا أنجع، ولا أروع من إيمانه بيوم الجزاء المترتب على إيمانه بالبعث، ولا ريب أن الفضل كله في ذلك، راجع إلى دين الإسلام القائل بالبعث دون غيره من الأديان)
هذا ما قاله الرصافي في رسائل التعليقات من الكلام الذي أعرب فيه عن كل هذه المعاني السامية، ولكن الأستاذ خشبة يقول إن الرصافي لا يرى للبعث معنى فإنا لله وإنا إليه راجعون
أنشدك بالله أيها القارئ الكريم، هل في هذا الكلام ما يدل على أن قائله كافر بالبعث، وهل يجوز للأستاذ خشبة أن يشتم الرصافي هذه الشتيمة المنكرة، ويتهمه بأنه لا يرى للبعث معنى
من الجائز شرعاً، أن أقابل هذه الشتائم بمثلها، و (الحرمات قصاص) وليس الأستاذ خشبه بمعجزي أن أكايله مثل هذا الشتم صاعاً بصاع، إن نثراً فنثر، وإن شعراً فشعر، ولكني كما قلت آنفاً أكره النزال في حومة لا يخرج منها الغالب إلا وهو ألأم من المغلوب
أنا لا أطلب من الأستاذ خشبة، ولا من غيره، أن يترك أيمانه الساذج، إلى إيمان تسايره الحكمة، ويؤيده المعقول، فإن ذلك منى فضول. كما أني لم أكتب رسائل التعليقات لدعوة الناس إلى وحدة الوجود، بل كل ما هنالك أني قرأت كتاب التصوف الإسلامي للدكتور زكي مبارك، فعلقت عليه بعض ما عندي في التصوف من معلومات، وأنا خاضع لكل رد يأتيني بالحق، لا بالباطل. أما التغيير والتبديل، بقصد التكفير والتشنيع، فشيء لا يرتضيه حتى الكفر المركب، فضلا عن الإيمان الساذج، والسلام على من ترك هوى النفس، ولم يقل إلا الحق.
بغداد
معروف الرصافي